مجلة الرسالة/العدد 133/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 133/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 133
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1936


26 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

لكل فلسفة أجل موقوت، تظهر فيه حجتها على الناس. وكل فيلسوف يضم شتات فلسفته ويحبسها ضمن نظام منطقي كأنها عمل عقلي محض، ألا إن هذا باطل، فأن الحياة الواعية في كل إنسان لها جذور تمتص من الحياة غير الواعية فيه؛ وإن حبه لمعرفة الحقيقة يعود إلى غريزة فيه قوية خفية. عد إلى المذهب الفلسفي العددي المجرد من كل شخصية ومن كل هوى تجد شيئاً ينزل منزلة الإيمان فيه؛ وما نظريات الفيلسوف في الحقيقة إلا بنات مذكراته واعترافاته. إن هذا الفيلسوف ليس في الحقيقة - كما يخيل إلينا - مفكراً خالصاً، ولكنه محام خبيث يذب عن اعتقاداته الوهمية ولا سيما الأدبية منها. يجرب أن يجعل من اعتقاداته حقائق ثابتة ودساتير نافذة. على أن هذه الاعتقادات التي تنطوي عليها المذاهب الفلسفية التي تريد أن توجه الحياة في سبيلها، إنما هي اعتقادات مستمدة من المثل الذي يبشر بالزهد والمسكنة. . . وهكذا لم يكن الكاهن والفيلسوف بخصمين كما يبدو ظاهر الأمر - وإنما هما صاحبان وان كانا لا يدريان.

هذا هو (كانت) أبو الفلسفة الألمانية لا يرى فيه نيتشه إلا كاهناً مسيحياً تطور في بعض حالاته. وخلاصة فلسفته أنها تضع (شعبتين) من شعبها خارج القوة العقلية؛ في الأولى تلهج بعالم حقيقي مباين لهذا العالم المبني على الظواهر والحوادث، وفي الثانية تؤمن بالشريعة الأدبية الخلقية أنها مقدرة تقديراً. وإذا جرد المحقق هاتين الشعبتين وجد أنهما وليدتا نظريات الشريعة المسيحية ذاتها. إذ ما هو الإيمان بعالم حقيقي غير هذا العالم؟ أليست هذه الفلسفة تنطوي على الفكرة التي يبشر بها علم اللاهوت، فالإله هو العلة الأولى للوجود الذي تتلقفه الحواس، وحياة الإنسان الحقيقية هي الحياة في الله، وهكذا أخذ النظريون فكرة القول بإله صالح، بإله للمتألمين، ودققوها وسموا بها وبدلوا لونها حتى أحالوها عنكبوتاً ضخماً ينسج الوجود من خيوطه. فكان منه (المثل الأعلى) والعقل الخالص، والواحد المطلق، والشيء القائم بذاته؛ على أن هذا الشيء القائم بذاته، وهذا العالم الحقيقي إن هما - إذا تجردا - إلا العدم الخالص.

إن إله المسيحيين - كما يراه نيتشه - هو إله كل ما يتألم، وكل ما يجنح إلى الموت؛ وهو بدلا من أن يبشر كالآلهة الوثنية بما يفيض على الحياة من بهجة ونعيم، ويبث الإرادة القوية التي تقول للحياة: (بلى)، ولكن ما تحمله (بلى)؛ نراه يحمل الناظر إلى كل منحط خسيس في فؤاد الإنسان، يكره الحياة الحقيقية ولا يحمل لها إلا مقتاً؛ ويجعل رجاءه في حياة وهمية ثانية. إن عالم النظريين يماثل في حقيقته هذا العالم المسيحي. أنه كلمة فارغة من كل حقيقة؛ إن الإله هو علامة (سلب الحياة)، وإله الفلاسفة هو العدم الخالص.

وتلك الإرادة التي تمثل هذا الإله إن هي إلا الجنوح إلى الفناء. وإن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين يعتقدون بأنهم مارقون من كل دين وكل إيمان هم في الحقيقة رجال إيمان لا يتزعزع. إن هؤلاء العلماء والفلاسفة اللابسين أثواباً مختلفة إنما لباسهم لباس واحد يلفهم ويضم بينهم، هو لباس الزهد.

لنحلل معتقدهم: أن إرادة إدراك الحقيقة مهما كان ثمنها - تتهيأ في طريقين مختلفين: تقول (لا أريد أن أخدع!) أو تقول (لا أريد أن أخدع نفسي ولا أخدع أحد) أما القول الأول فهو بعيد عن الحقيقة، لأن الإنسان ليقدر على أن يسمو إلى الحقيقة بفطنة منه أو خشية إذا كان يثق في نفع هذه الحقيقة السامي إليها. ولكن الحقيقة هي أنه إذا كانت هنالك حقيقة بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً للعقول المستنيرة فهي أن الوهم ذو فائدة للوجود وضروري له كالحقيقة. وفي اعتقاد نيشته أن الوهم والكذب هما من الجواهر اللازمة للحياة.

إن مسألتنا التي نبتغي حلها ليست بجملة اعتراضات، ولا فوز في المنطق، وإنما مسألتنا هذه: (ما هو الأجدى نفعاً لحفظ الحياة وصيانة النوع ووقاية الحيوان؟) وأنّا لنستطيع أن نقول بدون تردد: أن الأفكار والأحكام الأكثر بعدا عن الحقيقة هي عندنا من الأشياء التي لا منصرف عنها: ولو أن البشرية استغنت عنها لما استطاعت الحياة، إذا كان الجحود جحوداً بالحياة نفسها وإعداماً لها.

ولكن لو فرضنا أن الكذب أكثر يمناً والحقيقة أكثر شؤماً، فأن رجل العلم لا يجنح - إذ ذاك - إلى الحقيقة طمعاً في فائدة أو رهبة من شئ، وإنما يجنح إليها ويتواقع عليها لأنه نشأ على ألا يخدع نفسه ولا غيره مهما كلفه ذلك. تراه يضحي بسعادته وبالبشرية في سبيل الحقيقة، هذه الحقيقة المقدسة التي راح يسميها المسيحي إلهاً.

ومما لا ريب فيه أن ناشد الحقيقة يضع إيمانه في وجود غير هذا الوجود، وحياة غير هذه الحياة. فماذا تراه يضع في وجودنا هذا بعد انصرافه عنه؟ هل يجد غير الجحود به؟ ولكن رويداً! أريد أن أقول: إن اعتقادنا العلمي مبني على اعتقادنا النظري. وإننا نحن مفكري اليوم، الجاحدين الناكرين نستمد النار التي تحرضنا وتثيرنا من المجمرة التي أضرمتها نار العقائد كثيراً، ومن ذلك الإيمان المسيحي الذي شابه الإيمان الأفلاطوني القائل بأن الله هو الحقيقة وأن الحقيقة هي ألهيته.

إن رسول الجيل الحاضر لم يجرؤ على أن يشك في القيم الحالية الموروثة، لم يجرؤ على القول: ما هي قيمة الحقيقة وما هي قيمة ذلك الأمر المطلق للفضيلة التي تأمرنا بسلوك طريق الحقيقة؟ إنه وقف مكتوف اليدين إزاء مسألة الحقيقة والفضيلة. إنه لم يقل لماذا وجب على الإنسان أن يعرف كنه هذه الطبيعة التي نحسها اليوم كقوة عمياء، غير عاقلة لا تعبأ بالخير ولا بالشر، فيها قوة الخصب والتوليد؛ تنجب دائماً مخلوقات جديدة لتضحي بها لغايات لا معنى لها، ولا عاطفة في صدرها. . . . وإذا كانت هذه حالتها فلماذا كتب الإنسان على نفسه التضحية بها في سبيل مثل هذه الألوهية؟

يرى نيتشه أن الرغبة في الحقيقة مثلها مثل الصبغة العصرية لصرامة التنسك والزهد التي دفعت الإنسان إلى أن يضحي - في سبيل إلهه - بكل ما تملك يداه، فكان الإنسان يقرب له الضحايا البشرية، يضحي بأول غلام يأتيه، حتى إذا جاء العهد المسيحي أصبح الزاهد يضحي للإله بكل غرائزه وميوله الطبيعية.

والآن ماذا يملك عليه ليضحي به؟ ألم ينته دور التضحية له بكل عزيز؟ أليس الأجدر الآن تضحية الإله نفسه؟ وعبادة الحجر والمبهم والثقل والحظ والعدم إمعاناً في مجافاته؟ وهكذا تجد رسول المعرفة الذي لم يهو في مهواة الشك، المؤمن بالحقيقة، الجريء على خلق مثل أعلى، الشديد إيمانه بالعقل السامي والفضيلة، تجده إذا نزعت رداءه - زاهداً ينكر الوجود، ومتشائماً يفر من الحياة، لأنه يأبى أن يستسلم إلى الوهم، إلى الكذب اللازم للحياة، انه عدمي كالمسيحي بعمل على أن يقذف بالإنسانية في هاوية العدم.

(يتبع)

خليل هنداوي