مجلة الرسالة/العدد 133/مجمع اللغة العربية الملكي

مجلة الرسالة/العدد 133/مجمع اللغة العربية الملكي

مجلة الرسالة - العدد 133
مجمع اللغة العربية الملكي
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1936


يفتتح دورته الثالثة

في الضحى الأكبر من يوم الخميس الماضي افتتح مجمع اللغة العربية الملكي دورته الثالثة في حفل متواضع من رجال العلم والأدب؛ فألقى الأستاذ الرئيس خطبة مجمعة، أجمل فيها ما عالج المجمع من المسائل اللغوية في دورته الثانية، وأشار إلى وفوده عن المجمع العربي إلى عيد المجمع الفرنسي، وإلقائه أول الناس خطاب التهنئة (باسم أحدث المجامع نشأة في أقدم بلاد العالم حضارة)؛ ونوه بهدية الأستاذ فيشر إلى المجمع وهي جزازات جمع فيها جمهرة الموثوق بصحته من متداول الكلمات في القرن الأخير للجاهلية، والقرون الثلاثة الأولى في الإسلام، واستهلك في جمعها وترتيبها نيفاً وأربعين عاماً؛ ثم ألم إمامة يسيرة ببعض ما وجه من نقد إلى خطة المجمع.

وقام من بعده الأستاذ حسين والي فألقى محاضرة سابغة سائغة أدلى فيها بحجيج المجمع في القرارات السبعة التي أصدرها في عامه الثاني. ثم نهض على أثره الأستاذ محمد كرد علي بك فدافع عن حداثة المجمع وأشاد بفضل جلالة المليك. وجاء دور الأستاذ جب فعقب على بعض ما قال الخطباء بكلمة بارعة أداها عن ظهر قلبه. ثم ختم الأستاذ الجارم هذا الحفل الوقور بقصيدة من حر الكلام سلسل فيها أطوار العرب وأدوار اللغة، وأهاب (بعصبة الخير) أن ينشطوا لتجديد الفصحى:

فالدهر يسرع والأيام معجلة ... ونحن لم ندر غير الوخد والخبب

كانت حفلة افتتاح هذه الدورة نفثة من روح المجمع، شاع فيها سره، وسطع في فورتها ريحه، فكان اهتمامها برضى القاموس أبلغ من اهتمامها بذوق السامع؛ وكأني رأيت يومئذ في بعض العيون بوادر الدمع رأفة بأولئك السيدات اللائى تظاهرن بالإصغاء إلى حقائق اللغة ودقائق الصرف وهن من الضجر على حال لا تسر! وهذه الحال نفسها ملحوظة بين المجمع والمجتمع في وضع الكلمات للشؤون العامة، فإن من الأعضاء من يسرف في بعث الحوشي الممات، أو الغريب المتنافر، ليحل من لغة الجمهور محل الدخيل الذي لا يثقل في الآذان ولا يعسر على اللسان ولا ينبو على أوزان اللغة، فيضع الجماز للترام، والنهبوع لليخت، والعنقاش للبائع الجوال، والكشَّاءة للكماشة، والضريم للبنزين، والطربال للعمارة! وليس من شك في أن هذه الكلمات المرغوب عنها وأمثالها مما يحاول المجمع طرده من الاستعمال أدق في الدلالة، وأقوى على الحياة وأسهل على الطبع، من تلك الألفاظ الجافية التي نقضها الدهر عن وجه البيان العربي لأسباب طبيعية منذ عمره الأول. . . ما للترام واليخت والفلم والبنزين والكنبة ما دامت سائغة في المنطق جارية على سنن الفصيح واردة على أسلوب المعرب؟ إن الشاكوش أدل من الخصين، والريال أجمل من الرقين، والفسيخ أدنى من القريب، والبشكير أولى من النشير، والمندالة أخف من الميطدة. لقد أفتتن الظرفاء طول العام في الإضحاك مما أشبه الأرزيز والجماز حتى استراب الناس في ذوق المجمع.

والواقع أن الصفة الغالبة على أكثر الأعضاء هي الضلاعة القاموسية المحافظة، فهم يريدون أن يتجاهلون الاصطلاح والعرف، ويتناسوا الكتاب والعامة، ويفرضوا على الأذواق الفنانة كلمات لا تقطر من جمودها على قلم، وعلى الطبقات العاملة لغات لا ينطبق مدلولها على عمل.

أن اللغة العربية لابست مرافق العصر الحديث قبل أن ينشأ المجمع بقرن ونيف، فاستحدثت الضرورة في مدى هذا الزمن ألفاظاً بالاشتقاق والتعريب والترجمة، ربطت اللغة بأسباب المدنية، ووصلت الأدب بمعاني الحياة. ووظيفة المجامع أن تقر ما وجد وتنشئ ما لم يوجد؛ والاستعمال الذي لا يقف ولا ينتهي، يتمم القاموس الذي انتهى ووقف. أما إطلاق العربي المهجور على المعرب المشهور مخافة أن تطغى العجمة (ويصبح الفصيح بين لغتنا أقل من القلة، بحيث لا يصح لنا وقتئذ أن نزعم أننا نتحدث بلسان العرب) كما قال الأستاذ الرئيس، فلا يستقيم في منطق اللغات، ولا يجري في نظام الطبيعة؛ لأن عربية القاموس لا تكاد تجاوز منتصف القرن الثاني، وما اقتبسته اللغة بعد ذلك من حضارة الفرس ومدنية الروم أوشك أن يؤلف قاموساً آخر، ومع ذلك لم تستعجم الفصحى ولم ينهم بيان العرب! ويخيل إلى أن الأستاذ جب كان يرد على معالي الرئيس حين قال في خطبته (ويل للغة مصادرها معجماتها دون الشعور الحي للناطقين بها! وويل كذلك للغةٍ ينطق الناطقون بها ويكتب الكاتبون فيها طوع أهوائهم ويضربون بمعجماتها عرض الحائط!).

إن ما أخذناه وأخذه الناس على ما وضع أعضاء المجمع من الألفاظ إنما ينحصر في شؤون الحياة العامة؛ أما ما وضعوه أو أقروه لعلوم الأحياء والطب فلا وجه فيه لآخذ، ولا سبيل عليه لمنكر، لأنه يتعلق بالعلم ويتصل بالتعليم ويجري بين الخاصة، ومن السهل أن تراض عليه الألسنة في المدارس، وتؤخذ به الأقلام في المعاجم، وتجمع إليه الناس في الكتب. . . كذلك كانت قراراته الأربعة التي تعلقت بالتوسع في طرق القياس صادرة عن رأي حصيف ودرس ناضج. وسيكون لها كما رجا الرئيس أثرها البعيد في التيسير على أهل العلم ومن يعالجون الصناعة ويزاولون الترجمة إن في إقرار المجمع عرض ما يضعه من الكلم على الجمهور قبولاً سابقاً للنقد النزيه والقول الأسد؛ وأن فيما كتب الكاتبون عن خطة المجمع وزانة يجب أن يروى فيها طويلاً قبل أن يمضي على نيته؛ وإن فيما تبيناه من مضامين الخطب في الاحتفال دليلاً على استصغار المجمع لما عمل واستعظامه لما سيعمل! والشعور بالنقص مبدأ الكمال، والنفور من العجز سبيل القدرة، والركون إلى الأمل الحافز دليل الفوز! أيد الله المجاهدين الصادقين بروح من عنده، وسدد خطى العاملين المخلصين في الطريق القاصد.

أحمد حسن الزيات