مجلة الرسالة/العدد 134/الرجوع
مجلة الرسالة/العدد 134/الرجوع
إن ما ندعوه (قضاء) ليس إلا ما نقضيه على أنفسنا
(ميخائيل نعيمة)
بقلم الأديب عبد الوهاب الأمين
لم يكن صبياً غراً عندما فتنته تلك الغادة، بل لقد حاول جهده أن يسيطر بعقله على جموح تلك العاطفة، فغره لأول وهلة شيء من النسيان أحس به، وظن أن الوقت قمين باستئصال ذلك الحب الفاسق، وطاوعته نفسه بعد أسابيع أن يمزق صورتها ليلقيها في الموقد أمامه، وقد عاوده طيف (العائلة) والزوج الحنون، وأطفاله في الغيب، وبسمة السعادة التي ستشيع على الوجوه، فتنهد!
وكان دائم اللجاجة في (التحليل)، فخيل إليه أن الأمر بلغ نهايته، وإن جذوة الشباب فيه قد قرت، وما عليه إلا أن يحنو على زوجته فتحنو عليه، فيثمر ذلك الحنو حباً شريفاً. . . لا ذلك الحب المجهد، حب المومس الذي تثيره غلمة وتقتله كلمة! وأنه بعد هذه السنين الثلاثين جدير به الإقلاع عن إجهاد نفسه وعاطفته الجامحة بالتطوح في مثل هذه المجازفات!
وماله قد فتنه تصوير! ألا يجوز أن يكون ليد المصور الفنانة فضل في هذه الفتنة وهذا السحر؟ بل هذا هو المنطقي المعقول، فليس لإنسانة أن تمتلك مثل هذه النظرة المغرية، وهذا السحر الفاتن! إنها ولاشك فعلة الرسام!
وأطل عليه وجه زوجته في تلك اللحظة، فتمثل فيه الطهارة والإخلاص، وابتسم على رغمه لأن روحه الشابة المرحة لم تطق أن تقاوم البشر المنطلق من عينيها، والطرب الشائع في نظرتها! ورمته بقشر وهربت! وانهزم معها فرحها الحي الطروب! فتمثل لخياله الفرق بين هدوء حياته هذه التي سيقبل عليها، وجموح تلك التي عزم على فراقها، فاستشعر شيئاً من الحزن طاف به على هذا الفراق، وسرت في ذهنه صور سريعة من ساعات اللذة واللهو يكاد ينسخها مر الأيام. . . غير أنه عاوده شعوره بقوة عزمه السابق ومسؤولية الرجل الرزين الذي سيكونه عما قريب، فمزق بقايا الصورة ورماها في الموقد ونظر إلى اللهب الصغير المتصاعد منه، وشرد ذهنه تقدمهم الصبي بخفة إلى باب المقصورة وفتحها بتؤدة وعلى فمه ابتسامة متكلفة. وأخذ يفرك يده متظاهراً بالبشر لقدوم (سيده) الذي طالما نفحه بالعطايا الصغيرة التي كانت تتسع وتكبر حسب ما يقوم به من خدمة! وكان يبتهج كلما أبصر (سيده) بصحبة امرأة، فإن وجودها معه يعني ضرورة الحاجة إلى خدمته ورعايته اللتين يستدرهما عند ارفضاض السيد نقوداً يطبق عليها أنامله بخفة، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي لقيه مساء اليوم بها، والتي يكرهها (سيده) منه فلا يرفع بصره إليه!
وكان (العِرض) مهماً. والمقاصير كلها ملأى بالمخلوقات الجميلة، وكانت عين الناظر تلقف في كل ثانية وأخرى عضواً بارزاً نسوياً جميلاً بين تلك المناظر السينمائية الخلابة والإعلانات الملصقة على الجدران، وتعلو بين تلك الضجات المختلطة بضعة أصوات ناعمة تتطور بعض الأحيان إلى قهقهات صافية الجرس، تعلوها رنة النعيم!
وكان وهو ينزع عن كتفيه معطفه الثقيل ويدير عينيه بين المقاعد يلحظ أن صوتاً في المقصورة إلى جانبه يرن في أذنه فيترك صدى غير اعتيادي. . . جذاب! ساحر! غير إن انتقاء المقعد شغله وصرف ذهنه هنيهة عن تتبع أثر ذلك الصوت في روحه، ولما جلس أخيراً لم يكن في ذهنه غير ذلك الصوت وصاحبته اللعوب! وبدرت منه - من غير قصد - إلتفاتة إلى المقصورة فاصطدم نظره المستريح بها. . .! نعم هي! وقد ظهرت في ثوبها البهيج أشد فتنة من صورتها، وزاد في جمالها الأخاذ سحر التجمل، فأدرك أن قوته تخونه، وأنه أمام شخص يملك سحراً يزيد على سحر المرأة، فعادت إليه فجأة وبسرعة كل خيالاته التي نسختها عزيمته أولاً، واستعادت مخيلته أويقات التأمل التي كان يقضيها في مناجاة تلك الصورة على أشد وأقوى حالاتها، وأحس وهو يدير نظره عن وجهها الذي بدت عليه البغتة أنه يقتلعه اقتلاعاً، وأن شيئاً من قلبه وحسه قد تعلق بتلك الأهداب السحرية التي زاد جمالها الطبيعي الأخاذ اعتناء خاص بتنسيقها وتجميلها، وأدرك في قرارة نفسه أن سيطرة هذه المرأة عليه أمر محتوم وقضاء لا يرد!
وانتهز فرصة (الفاصلة) فاحتج برغبته بالتدخين وأصر عليها، ثم حسم المشكلة بخروجه من المقصورة، وكان شيء في رأسه يدور ويدور! وهو عراك نفسي بين عاطفتين قويتين لا يكاد يركن لإحداهما حتى تبرز نتائجها ملموسة لعينيه! أيحب هذه المومس وهو يعلم أن حبها يفقده أشياء كثيرة وعزيزة عليه؟ أيتركها ولا يلتفت إلى تلك النظرة الصارخة في عينيها، وقد بدت الليلة بوضوح في ملامح وجهها وشفتيها، ولم تستطع البغتة أن تخفيها من عينيها الأخاذتين! وهل هو قادر على أن يهمل اهتمامها الظاهر به، وهو الذي كان يقضي الساعات في مناجاة صورتها؟ وما يدريه! لعلها تصطنع كل ذلك لاستمالته! إنها خبيرة ولاشك بفعل هذه النظرات في القلوب! إنها تاجره تريد أن تغبنه بصفقة خاسرة، تريد منه قلباً بروح، لتعطيه قلباً بلا روح! كلا إن ذلك لن يكون!
ووقف ذهنه عند هذا الحد، فقد بدت من مقصورتها ومشت إلى ناحيته بتؤدة، ولما وصلت إليه أسرت قائلة:
- كازينو أنترناسيونال، منتصف الليل
ومنحته فوق ذلك ابتسامة!
عاد بسيارته بعد أن أخبر زوجته أنه سيقضي السهرة مع صديق له، وأنه سيتأخر عن وقت قدومه المعتاد، وانطلق كالسهم بها على غير قصد، ثم خطر له أن يشرب فوقف عند أول حانة!
وبعد الكأس السادسة نظر إلى الساعة فوجد أن بينه وبين الموعد ما يقارب الساعة، فخطر له أن يقضيها متجولاً لأنه شعر بالاكتفاء من الشرب وقام
ولم يكن (التجول) في مخيلته غير السير إلى طريق الكازينو! فوقف على بابه وفي صدره عراك، وفي خطواته تردد وإحجام، وألقى نظرة تائهة على الوجوه فلم يجد بينها غادته، فساقته قدماه إلى الباب وعاد إلى مقعده في السيارة وقد خطر له أن موقفه ناطق بالذل والعبودية، وأنه يسيء إلى نفسه بذلك العمل، وأن شعوره بكرامته وكبريائه قد ثلم، وبدت على وجهه غضون وغيوم!
وفي تلك اللحظة فقط شعر أنه تعب منهوك، وأن حاجته إلى النوم شديدة، فقبض على محرك السيارة وأداره بخفة ولباقة، وشعر أن كل ما فيه في تلك اللحظة عزيمة قوية! وأن في تلك العزيمة قضاء لا يرد!
واختلطت في ذهنه الأفكار والصور وعجز عن متابعة نتيجة عمله، وشعر بشيء من الكلال والفتور والإعياء، وكانت ابتسامته لزوجته جامدة، وكان على غير عادته في النوم السريع بدون مزاح ولا دعابة
ولما سيطر سلطان الكرى على جفنيه كانت الساعة تؤذن بانتصاف الليل، وكان ذهنه الكليل يدرك أن في دقاتها أمراً!
غير أنه لم يدرك دقاتها الأخيرة!
عبد الوهاب الأمين