مجلة الرسالة/العدد 135/رفعة المرأة
مجلة الرسالة/العدد 135/رفعة المرأة
للأستاذ محمد بك كرد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وعاد المؤلف فعقد فصلاً في الأعمال التي تبرز فيها المرأة على الرجل، وهي الإحسان وتعهد المرضى وتربية اليتامى إلى غير ذلك من أنواع البر. ومما نقله لمديرة عصبة الخير أن الناس يتوخون أن يعرفوا ما نشكو منه من الأوجاع، وما تشكو منه كل الأمم، ومنشؤه إفلاس تربية القلوب، فقد وسع القائمون بالتربية درجات الذكاء بالتأديب الذي أدبوا الناس به، وشددوا في تلقين التربية الجسمية، وظنوا في ذلك الكفاية وهو دون حدها. فقد رأينا في العهد الأخير أن خمسمائة مليون طن من الحنطة جعلت وقوداً، أو ألقيت إلى البهائم تقضمها، على حين نجد ملايين من البشر في الصين يموتون جوعاً. وألقوا في البرازيل 49500 كيس من البن في البحر، ثم 60000 ألفاً جعلوها سماداً للأرض. وأبادوا في ألمانيا مقادير من السكر. ودفنوا في أوستراليا مليون خروف في الأرض لئلا يستفاد منها؛ وفي كل مكان يطرحون الأثمار والبقول والأسماك التي لم تنفق، أو التي زادت على الحاجة، ولا يفكرون في أن بيوتاً كثيرة تشكو العوز وتصاب بالمخمصة. ويزيد هذا الانحطاط في الأخلاق كل يوم، وتزيد معه ويا للأسف هذه الأنانية كغيرها من النقائض التي تئن منها الإنسانية، وتردها إلى أرذل أطوارها. فالشعور بالإحسان والإخاء سواء في الحكومات أو في الشعوب لم يستثمر ولم يرب. وعصبة الإحسان تعاون على تربية عقلية الأطفال في المدارس التي تربي على حب الفضائل. وتعلم الإحسان ضروري في الحياة الاجتماعية كتعلم الصناعات والأعمال
وأفاض في وصف عقليات الأمم التي تخالف العقلية الفرنسية؛ فمما قال في وصف عقلية الأمريكان في الولايات المتحدة إنها مخالفة كل المخالفة لعقلية الفرنسيس في مسائل الزواج، فالزواج عند الفرنسيس بالنسبة إلى العزب نوع حديث من الحياة يتحتم أن يكون ثابتاً يسبقه على الأكثر شعور صادق عميق، اللهم إلا عند بعض شبابنا في السنين الأخيرة. واغلب الأمريكيين والأمريكيات (ما خلا الفلاحين والعملة في المدن وجمهور الفقراء) يعتبرون الزواج فقط حادثاً يبقى ما تيسر له البقاء، ويمكن حله لأسباب تافهة، أو لأنه فقد فيه الرضا، كأن الزواج عندهم بحسب ما عرف شامنور الحب تعريفاً فيه سخرية بقوله أنه (تبادل هويتين واحتكاك بشرتين). وليس من النادر في الولايات المتحدة أن امرأة رجلاً كانا بالأمس لا يعرف أحدهما الآخر أن يتلاقيا ذات صباح ويتأهلا في نفس ظهر ذاك اليوم بمعرفة القس الذي يجمع وظيفة ضابط الأحوال الشخصية إلى وظيفته.
ووضع فصلاً عنون له (كلمات للتأمل) جاء فيه أن مدام ماكدلين شوميون قالت في جملة مقالات لها في جريدة النهار الباريزية: إن الفتاة عندما تبدأ في فهم الحياة تتمثل أن تدخل في ميدانها وحيدة بدون معين ولا استنصاح أحد. فيقال إنها تريد أن تعيش مستقلة وأنها تتجافى عن قبول آراء غيرها وتوبيخ أهلها، وأنها تود أن تعمل لتربح مالاً وتنفق على هواها، وأن تبدو للناس، وتسيح إذا اقتضت الحال، وهذا غاية أمانيها. وهذا الجمهور الذي لا يحصى من الفتيات والنساء ممن يخرجن عن أطوارهن هو الذي يدعونا إلى اللهفة والأسف. ولقد رأينا محاميات انقلبن خادمات في البيوت، ولدينا براهين كثيرة على انه خير للمرء أن يحسن صناعة من أن يحمل شهادات حسنة. ولقد نال كثير من النساء لقب دكتورات في الحقوق فاصبحن كاتبات بسيطات على الآلة الكاتبة. يتعلمن علماً كثيراً ولا يعرفن احتياجهن على كسب قوتهن. وذكر المؤلف ما تحمله السينما من مفاسد، ولا سيما للفتيات والصبيان، وقبح الأبوين اللذين يستصحبان أولادهما لمشاهدة هذه المناظر التي لا تعلم في الأكثر إلا المقابح والمفاسد.
وروى ما قاله أميل بيكارد العالم الطبيعي الرياضي أن مستوى الأخلاق في الجنس البشري يسفل بمقياس واسع، ولعلهم يقولون إن ذلك نشأ من الحرب العظمى؛ والحقيقة أن هذه الحرب لم تعمل غير تعجيل هذا الفساد كما عجلت في مسائل أخرى. وانتهى الحال ببعضهم أن ادعوا أن ذلك نشأ من العلم، وهذه الدعوى تصدق بعض الشيء، ذلك لأن الآلة قد أحدثت جنوناً في الإنتاج الصناعي، فأن السرعة التي تمت في المسائل الفنية لم تسمح للزمن أن يعمل عمله. والزمن يهزأ بشيء يعمل دون تدخله، بل ينتقم من صاحبه. ولم تكتف الآلة بإغراق العالم في الرفاهية بل قامت مقام الإنسان المنتج القوي، وأبطلت في الإنسان اعتياد العمل الشاق العميق الطويل، فأصبح سطحياً واستغرقته السهولة، وما نمت فيه القدرة المادية بل قل فيه العنصر الأخلاقي، والجسم إذا أتسع توقع أن يكون له ملحق من الروح كما قال برجسون. وقد احتقرت الوطنية والتجارب وفقدت الحرمة الناتجة من الصبر والسن واختلاط العبقرية المريضة بالعبقرية السليمة وهي وليدة القوة
ونقل أقوالاً لعظماء من علماء العصر الحاضر تأييداً لقضيته؛ ومنها أن نصف علم يحرزه المرء يتولد منه من الأوهام ما يكون أضر على صاحبه من الجهل، لأن صاحبه يكلب على العمل فلا يأتي بكبير أمر، وتزداد عاقبته الشؤمى بالضرورة لامتزاجها بالمصالح الشخصية والشهوات والأهواء الرائجة في سوء الجدال الاجتماعي، وما يتبعه من عبث العابثين بالسياسة المتجرين بها. وحمل على الاشتراكية التي تحارب المثمرين والمتمولين، وتحاول القضاء على الطبقات الاجتماعية، وعلى رؤوس الأموال، وعلى النفرة من الحرب؛ ونقل أن رؤوس الأموال إذا انعدمت تموت الاشتراكية، لأنها لا تجد ما تحاربه فلا يبقى لها ما تقسمه من المال بين الاشتراكيين؛ والاشتراكية تؤدي إلى (البلشفة) البشعة. ومن المتعذر قيام الدعوى الاشتراكية إذا فقد المال، ولا شيء يعمل بلا مال. وما البلشفة إلا وضع حياة البشر في يد عصابة تزعم إنها تمثل الدولة. ومعنى ذلك بسط السلطة العامة على الناس في كل أمر يصدر من مصادر خفية. وقال هذا جنون شرقي ينساب على التدريج في عقل الغرب.
وختم كتابه بفصل في انتشار العهر والأسباب الداعية إليه في الغرب. وقال في الخاتمة إن الفرنسيس ما خلا أربعة أو خمسة آلاف امرأة ومثلهن من الرجال يطمعون في إعطاء حق التصويت للنساء لا يهتمون بتة في منح الحقوق المزعومة للمرأة لإدخالها في الحياة السياسية. ويخشى إذا تمتع النساء بحقوق الرجال أن يقلبن أوضاع الأمة إلى التي لا تريدها، شأن كثير من المتغلبين على الحكم في الأمم يعملون ما تزين لهم أهواؤهم، ويملون إرادتهم على من يتعذر عليهم طاعتهم. وكان على هؤلاء الدعاة أن يبدءوا أولاً بإقناع ملايين من النساء لا يريحه رأيهن في الاشتراك في الحياة السياسية. هذا والأفكار تسير سيرها؛ ولعله يأتي اليوم الذي تستعد فيه المرأة الفرنسية للاشتراك مع الرجل في الحياة العامة حذو القذة بالقذة. ويقضي على القائمين بهذه الدعوى ريثما تتحقق أمنيتهم أن يبدءوا بإصلاح أخلاق المرأة الحاضرة وتهذيبها على أسلوب لا يقبل كل رأي يدلى به إليها، ويحررها على الأقل من سلطان أزيائها وتبرجها، وأن يجهد الحاكمون أن يسيروا هذه الدعوة في المجرى الصالح لخير المرأة والرجل والحب والسلام الاجتماعي، ومستقبل العنصر، والأخذ بأسباب الارتقاء الحق. والمرأة مهما حاولنا وصفها بالرقي الآن لا نخرج عن كونها تطمح في استقرار حياتها وفي الخلوة إلى دارها، وإن ألبسوها اليوم لباساً غير لباسها من النزوع إلى الاستقلال. وقد أخذ كثير من الشبان يحولون اليوم وجهتهم متقززين من النساء المولعات بالألعاب الرياضية والمدخنات والشريبات والراقصات والساهرات أي من طبقة النساء ممن قد يكون فيهن العفيفات وظاهرهن أنهن بنات سرور ومرح، ومن الطبقة التي يقول فيها الإنجليز إنهن لسن نساء ولم يبلغن مبلغ الرجال.
قال: أيتها المرأة إنك مهما فعلت مسوقة بنابل من الكبرياء وبعوامل أكرهتك على خوض غمار أزمة هذه الأيام لتخرجي عن حظيرة جنسك وتقطعي صلتك بعملك الأبدي السامي، لن تكوني إلا محبة وزوجة وأماً. وإذا أنسيت رسالتك فأن الطبيعة ستتولى عاجلاً أو آجلاً تذكيرك أن الأقدار ما خرجت بك إلا لتكوني شريكة الرجل، وأم أولاده، وجزؤه المتمم، ونصفه، وأحياناً الموحية إليه والمنقذة له. أنت أبداً مهد الآلام البشرية وستظلين على ذلك إلى يوم البعث والنشور.
محمد كرد علي