مجلة الرسالة/العدد 135/على هامش حوادث دمشق

مجلة الرسالة/العدد 135/على هامش حوادث دمشق

مجلة الرسالة - العدد 135
على هامش حوادث دمشق
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1936



أطفال دمشق

بقلم الأستاذ (ع)

لمن هذه الرشاشات منصوبة في الميادين والطرقات؟ لمن هذه المصفحات وهذه الدبابات، تروح وتغدو في الشوارع والساحات؟ لم تحوم في الجو هذه الطيارات؟

لماذا يساق هؤلاء الجنود من كل جنس وكل لون، فمن الشقر الفرنسيين الذين علموا أمم الأرض كيف تكون الثورة على الظالمين، وكيف تنتزع الحرية من بين أنياب الأقوياء المستبدين؛ إلى السمر المغاربة المسلمين، الذين جاءوا راغبين أو راهبين، ليحاربوا إخوانهم المسلمين؛ إلى السود السنغاليين،

من كل أشمط تدنى الموت طلعته ... ينساب في لهوات الليل ثعبانا

زعانف وعباديد برابرة ... لا يعرفون لهذا الكون ديانا

إلى الصفر الهنديين الصينيين؛ إلى هؤلاء (المتطوعة) أنصار الباطل، جزاة الخير بالشر، الذين أكلوا خبزنا وحاربونا!! أكُل ذلك لأن هذا الشعب الأعزل تحرك؟ أكُل ذلك لأن دمشق غضبت؟

تيهي إذن يا دمشق واعتزي، فما أنت بالضعيفة ولا بالهينة، وقد حشدوا لك مالا يحشدون أكثر منه لقوم هتلر، وشيعة ستالين!

كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرع حزنها على (إبراهيم) في صمت رهيب، وسكوت هائل، فلم تحرك ساكناً، وما دمشق بالتي تعرف أنه المكلوم، أو استغاثة العاجز، ولكنها تعرف الصبر الذي لا يصبر عليه الدهر، أو الصرخة التي تصدع الصخر، وتخرج الميت من القبر؛ وما دمشق بالتي تعرف هذا الاحتجاج الضعيف، احتجاج (أوسعته شتماً وأودي بالإبل). . . ولكنها تتلقى الضربات بصدر كأنه الجلمود لا يشقق ولا يرفض ولا يلين.

وباتت دمشق على هذا الصمت، فلم يمض هزيع من الليل حتى سمعت الصريخ، فأفقت فزعة، تسأل: - ما الخبر - قيل: اختطفوا (فخري البارودي)

ابن دمشق يختطف من حضن أمه وهي نائمة؟. . . يا للهول الأكبر! يا لهبة دمشق! يا لغضبة البطل الغَشَمْشَم! أقبل أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك. . . التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشد ما تكون عليه وإذا. . .

وإذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يُقدر ماذا كان، إلا هؤلاء الشاميون، وهؤلاء الفرنسيين الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروا مثلها التاريخ. . .

وإذا خمسون من الأطفال الذين لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة، ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة، قد فر من مدرسته وقمطره لا يزال معلقاً في عنقه، وحمل مسطرته بيده. . . ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعاً، وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي غنى عليها الفارابي، فأضحك وأبكى. . . هذه الأنشودة البلدية المعروفة:

وصغارنا تحمل خناجر ... وكبارنا عالحرب واصل

يا بِالوطن ... يا بِالكفن

فوقف الناس ينظرون إليهم، وقد عراهم ذهول عجيب. فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص. . . حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها فأشتعل الدم في عروقهم، وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت:

(يا سباع البر حومي. . . . . .)

وهم يرعدون بها. فتهتز من جهْجَهتها الغوطة، ويرتجف قاسيون. وأقبلوا كالسيل الدفاع. . .

ولكنهم رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب، ثم أنفتح برجها، وخرج منها شاب فرنسي يبتسم للأطفال، وإن في عينيه لأثر الدمع من التأثر، ويداعبهم، ويقدم لهم كفاً من الشكولاته، ثم يعود إلى مخبئه!

إنسانية قد توجد حتى في الدبابات!

ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي، وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن يتثبت من وجهي، فقلت:

- لماذا عملتم هذا العمل يا بابا؟

- فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي)

- قلت: ومن قال لك ذلك؟

- قال: أمي. وقالت لي هّلي يموت بالغصاص يغوح عالجنة (يريد: من يموت بالرصاص يذهب إلى الجنة)

- قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي، هل ترضى؟

- قال: لأ. خلي يغوحوا (يروحوا) هدول كمان ما بدناياهم! (يريد فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم)

فسكت. فقال:

- أستاذ، ليش الإسلام ما لهم عسكغ (عسكر)؟

فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأن شيئاً جاشت به نفسي، ثم صعد إلى رأسي، ثم وجدته في قصبة أنفي، وآماق عيني، ودق قلبي دقاً شديداً، فتجلدت ومسحت عيني، وحككت أنفي، وقلت له:

- أنتم يا بابا عسكر الإسلام.

- قال: نحن صغار!

- قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منا، نحن لما كنا صغاراً كنا نخاف من البعبع، ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا (لهم). . .!

وبعد، فلمن هذه الرشاشات؟ ولمن هذه المصفحات وهذه الدبابات؟ ولمن هذه الجنود وهذه الطيارات؟ إنها لم تصنع شيئاً، ففتشوا عن شيء أكبر من الموت، لتفزعوا. . . (أطفال دمشق)!. . .

(ع)