مجلة الرسالة/العدد 135/محمد

مجلة الرسالة/العدد 135/محمد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1936


لتوفيق الحكيم

وهذا كتاب آخر قد نسقه فن آخر، ليعين رواجح الأحلام على اجتلاء، شخصية سمت ببطولتها عن البيان، واكتناه سيرة جلت بقداستها عن الفهم. وشخصية الرسول الكريم وسيرته أصبحتا اليوم في الشرق والغرب موضوع الدرس المفصل، وموضع التحليل العميق. وأنى للبصر المحدود أن يدرك ما لا يحد؟ وللبصيرة المتناهية أن تبلغ ما لا يتناهى؟!

حاول هيكل تعريف هذا الإشراق الإلهي من طريق العقل فأتخذ الدليل، وحاول طه حسين أن يصوره من طريق القلب فأصطنع الأسطورة، وحاول توفيق الحكيم أن يمثله من طريق الغريزة فأستعمل الحوار، والحوار ولاشك غريزة الحياة وأسلوب المجتمع، تجري به الحوادث، وتنتقل عليه الأحاديث، وتتردد فيه المآرب، وتوشك لغة الخطاب لا تعرف من ضروب الكلام غيره. هو لسان الوجود اليومي، يترجم عن رغائب النفس في غير كلفة، وينقل عن سوانح الذهن من غير إجالة، وينم على مرامي الهوى في نبرات الصوت، ويكشف عن طوايا الصدر في لحن الكلام، ويشف عن أحاسيس الروح في لهجات الحديث، ثم يصطبغ بصبغة الزمان والمكان والموقف والمناسبة؛ فإذا أنت سجلته بالحق أو مثلته بالصدق، فقد صورت الوجود المعدوم أكمل صورة، وجلوت الماضي المبهم أتم جلاء؛ ولكن تسجيل الحوار على عمومه عمل من وراء الإمكان ومن فوق القدرة، فقصارى جهد الإنسان أن يروي معناه بالسند فيكون التاريخ، أو يموهه بالخيال فتكون القصة، أو يزخرفه بالوهم فتكون الأسطورة. أما تمثيله على النمط الذي جرى عليه فهو الفن المبدع الذي يمده الإلهام وتهديه الطبيعة. يجرد الحادث من فضول الرواية ونافلة الحديث فيرده إلى جوهره ويحيله إلى بساطته، ثم يبعث الأشخاص، ويجدد الأمكنة، ويعيد الملابسات، ويحيي البيئة، ويرجع بالقارئ إلى عصره، فيحيا حياته، ويعايش أهله، فيرى بعينه ما يعملون، ويسمع بأذنه ما يقولون، ويدرك بنفسه موانع الحال ودوافع الموقف؛ وذلك ما عمله توفيق الحكيم في كتابه الجديد (محمد): عمد إلى المواقف الخطيرة في حياة الرسول، والمواقع العظيمة في تأريخ الرسالة، فمثلها على الوضع الذي كانت عليه، بالعمل الذي حدث، وبالحوار الذي جرى، وبالروح الذي انتشر، ثم صور البواعث النفسية التي أغفلها المؤرخ، وأظهر الألوان المحلية التي أحاطها الزمن، فاتصلت الأسباب، استبانت العلل، وتحددت الفروق، ووقع الأمر من حك موقع المألوف من غير التواء ولا فلسفة. أقرأ في كتاب توفيق الحكيم موقعة بدر أو حديث الأفك أو وفاة الرسول، ثم أقرأها في كتاب من كتب التاريخ تجد ما قلته لك قد صار أوضح في المثال وأوكد بالموازنة.

لم يرد توفيق الحكيم أن يجعل من سيرة الرسول رواية؛ فإنه لو أراد ذلك لما سلم من لوم رجل الدين، ولا برئ من نقد رجل الفن؛ إنما هي مناظر مجلوة على أسلوب الحوار لا يجمعها قانون الوحدة، ولا يربطها تسلسل الزمن. ولقد ظهر هذا النوع أول ما ظهر في (الرسالة) حين اقترحت على الأستاذ الحكيم أن يكتب على طريقته هجرة الرسول في أول عدد من أعدادها الممتازة؛ فتهيب الأمر بادئ ذي بدء، ثم تخوف المتزمتين أن ينكروا عليه فعله، ثم أقدم فعالج الموضوع في حذر وحيطة، ثم ترقب ما يكون من رأي الناس، فإذا هم يقرءون في لذة ويحكمون في نزاهة، فمضى بعرض جوانب السيرة هذا العرض الواضح في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة طوى عليها هذا الكتاب. والأرجح أن هذا الأسلوب سيجد مكانة في تأريخ الأدب المعاصر، فإن شاعراً من شعراء مصر نحا نحوه في مقتل حمزة، وكاتباً من كتاب الشام حذا حذوه في موقعة بدر.

هذه كلمة عجلى كتبناها عن طريقة الكتاب على قدر ما أتسع المكان والوقت؛ وفي أكثر المناظر منه مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للمؤاخذة، وسيقف الناقد النزيه منها موقف العاذر أو العاذل على حسب رأيه في الفن وحريته. ولست اليوم بسبيل الكشف عن سر الكتاب وفنه، إنما هي تقدمة وتحية؛ وسنقرأ عنه ثم تقرأ في باب النقد أو في باب الكتب.

وبعد فإن للرسالة أن تغتبط بتفوق الله فيما تجاهد له، فلقد كان لها نصيب منتج في توجيه الأدب العربي الحديث في مصر وفي غير مصر إلى هذه الغاية العليا. كان أدبنا منذ قليل يتخلق بغير خلقه، ويتزيا بغير زيه؛ يرد المنابع البعيدة ونهره قريب، ويستجدي الأنامل الكزَّة وخيره عمم، حتى جف ما بينه وبين أصله، وانقطعت الأسباب بينه وبين أهله، فأصبح اليوم بفضل هذا التوجيه الحميد موصول الحبل بماضيه، معقود الرجاء بمستقبله، مطوي الفؤاد على قصده، وما دام على الدرب الأمين القاصد فهو لا بد في القريب أو في البعيد واصل.

أحمد حسن الزيات