مجلة الرسالة/العدد 136/بين الماضي والآتي

مجلة الرسالة/العدد 136/بين الماضي والآتي



للأستاذ أديب عباسي

(وصلنا عدد (الرسالة) المائة والسادس والعشرون، وقد انتهينا إلى جزء هذه المقالة الأخير، وكم كانت دهشة المفاجأة إذ فضضت غلاف الرسالة ووجدت بين بحوثها مقال الأستاذ الكبير أحمد أمين (أمس وغداً). وكانت بادرة الفكر التي تلت دهشة المفاجأة أن أهمل الموضوع وأوفر على نفسي عناء المراجعة والتنقيح. ولكنني عدت وقلت قد أكون طرقت الموضوع من ناحية غير التي طرقها الأستاذ، وقد أكون على خلاف معه في الرأي أو بعضه. وقرأت المقال فوجدت أننا نسير والأستاذ بعض الطريق ونفترق في بعضه الآخر. ومن أجل هذا الافتراق أبعث بمقالي هذا إلى (الرسالة) العزيزة).

تمرُّ بزمرة من الشيوخ خلوا إلى أنفسهم وأرسلوا أحاديثهم إرسالاً لا تحده موضوعية البحث الجدي، ولا اندفاع العاطفة المثارة، ولا عصبية الجدل؛ فتكاد لا تحسُّ في حديثهم إلا اللهفة العميقة، والالتياع الشديد على الزمن الفائت، حيث اللذة لا يكدرها ألم، والصفو لا يرنَّقه كدر، وحيث النعيم أبداً مقيم، والمنى أبداً حُفَّل دانية! وينبثُّ إليك من صدق اللهجة واجتماع الرأي وخلوص النية في حديثهم ما يوحي بأن أعصر السعادة المطلقة قد تلكأت عند شبابهم، وترخَّصت فقط لماضيهم، فأقامت ثمِّ لا تبرح ولا تريم؛ لهذا أقحل الحاضر، وعقم المستقبل، وغادر الناس طيب العيش وبشاشة الأمل!

تسمع هذا وخلافه مما تفيض به بقايا العمر وأعقاب السنين من الشيخوخة، فتتدسَّس إليك الحسرة ويغمرك الألم إن تأخر بك الزمن، ولم يحشرك في زمرة الشيوخ هذه، ويجعلك في حشدهم، فيكون لك من السعادة مثل ما يتحدثون ويصفون.

وتقودك رجلاك من حيث أنت إلى زمرٍ أخرى وأفراد آخرين، بعضهم ما يزال - في رأي نفسه - يستعدُّ لخوض معركة الحياة، وبعضهم الآخر - كذلك في رأي نفسه - قد أعدَّ لها العدَّة، وهيأ السلاح، فهو الآن يخوض غمارها ليصطلي بنارها، أو يستاف العطر الذكي عن أزهارها.

وتقف تتسمع، فما يروعك من هذه الزمر مثلُ انشغالها بمستقبلها عن حاضرها، وغفلتها عما في اليد إلى ما يمنيها به الغد، كأن حياة اليوم ليست في العمر ولا في تقدير الزمن، ويمضون هذا المضي، الغفلةُ عن حاضر الحياة غريبة مدهشة، والثقة في المستقبل قوية آسرة، ويظلُّ هذا دأبهم إلى أن يؤذَّن بركود الشباب، ووشك الانخراط في سلك الشيخوخة المتهدمة. عندها - وعندها فقط - يصحون، ولكن لات ساعة صحو.

وهنا ينقلب الوضع وينكفئ الاتجاه، فتحل الذكرى القريبة أو البعيدة محل العزم، والركود محل النشاط، والعجز محل القدرة، وهكذا بي ماضي الحياة وآتيها، يُسقط الناس كل رصيدهم فيها، ويجعلون منها - على حد تعبير الرياضيين - الكمية المهملة.

وليست هذه الصور التي رسمنا بالصور الخاصة أو الطارئة طروءاً زائلاً، إنما هي صور لها من طبيعة الشعور وخصائص الإحساس ما يجعلها من ألزم الصور للحياة وأكثرها لصوقاً بها وشيوعاً فيها. فالشيخ، أو من كان في حكمه من شبان السنين، يتَّجه إلى الماضي ليلطف عنده مرارة الحاضر، وليتعوض بذكراه عما يفيته العجز وضعف الُمنة من لذائذ راهنة يراها ولا يرى السبيل إليها كيف يكون. وقد تقول: لم يؤثر الشيخ أن يرتد بخياله إلى ماضي العمر ولا يرى أن يرسله في مطاوي المستقبل ليلتمس عنده الفرار وينشد السلوان؟ والجواب سهل هين إذا علمنا أن خيال الشيخ يخونه هنا، كما يخونه كذلك منطق الواقع ومنطق الاحتمال. فالشيخ يدرك أن سبيله من بقية العمر هي سبيل نازلة لا صاعدة، وأن كل يوم يمضي يدنيه من النهاية ويقلص لديه بقايا الأمل وأصداء السعادة؛ وإذاً فالحاضر فسحة مسدودة، والآتي سبيل مظلم مخيف؛ أما الماضي فهو السبيل الوحيد الذي يستطيع أن ينساب فيه الخيال دون أن يشله برد الواقع أو تروِّعه بشاعة الحاضر.

وقد تسأل: ألم يكن في ماضي الشيخ الألم كاللذة، والنعيم كالشقاء، والحرمان كالإنالة؟ فكيف يؤثر أن يعيش في ماضيه دون حاضره وآتيه؟ وهنا نرجع إلى حقائق الشعور الراهنة، فيستبين لنا أن الألم الفائت يفقد قيمته مع الزمن حتى لا يبقى منه إلا ذكراه وصداه. وهذه الذكرى - إذا لم يصحب أسباب الألم عند نشوئه حالات ملازمة - تضحى باعثاً على الاطمئنان والراحة. فأنت إذ تفقد كل ما تملك أو تصاب إصابة جائرة في سمعتك أو تجلس إلى حبيب إليك علَّقه المرض بين فكي الفناء والبقاء، بشعر بالغبطة وانفراج الشعور بزوال الخطر، حينما يعوض عليك السعي بديلاً من مالك، وحينما يردُّ إليك الوضع العادل سمعتك، وحينما يتخطى غول الفناء حبيبك فيرده سليماً معافى تنعم بلقائه نعمتك بكل عزيز عليك. وعليه فتلك الأحداث التي كانت يوماً ناراً يقلب عليها الإحساس ويضرَّم الشعور أضحت بعد زوالها مجلبة للراحة والاطمئنان، فلا عجب إذاً من ارتداد الخيال إلى الماضي وعكوفه عليه.

بيد أننا لا ننكر أن ثمة عللاً أخرى غير ما أسلفنا لهذا العكوف من الشيخ على ماضيه وانصرافه إليه عن آتيه وحاضره: منها أن الشيخ إذ يرتدُّ إلى ماضيه يُسِّير الشعور في مسارب أضحت بتكرار الحدوث ممهدة لا تعترضه فيها عقبة ولا تتصدى له عثرة. ومن هنا فكرة (الماضي السعيد) عند الشيوخ، ومن هنا أيضاً ميلهم الميل الشديد إلى المحافظة وإبقاء القديم على قدمه وتجنب كل جديد يصدم الشعور ويدعو إلى تحويله من مجراه المعتاد.

ومن هذه العلل أيضاً ذهاب الرفقة وتخطُّف الموت أبناء الجيل الواحد، بحيث يجئ اليوم الذي يشعر فيه الشيخ أنه غريب في بيئة غريبة، فيزداد حنينه إلى ذلك الرهط الذاهب من جيله، فيستعيد بخياله ذكراهم المحبَّبة وأيامه وأيامهم الحافلة.

يضاف إلى هذا لون معهود من ألوان الدفاع عن النفس بتهوين الحرمان عليها وطلب العزاء لها عنه في الماضي؛ وهو نوع من أنواع تخدير الإحساس ينشأ أول الأمر في دائرة الوعي، ولكنه مع الزمن وتوالي الحدوث والتأثير يتسرب إلى دائرة العقل الباطن ويتخفى في تيه اللاشعور. وعندها يصدر ذمُّ الحاضر عن عقيدة وينطلق عن يقين. وهذه الظاهرة تبدو أجلى وأوضح في حياة الجماعات منها في حياة الأفراد. ومن هنا أن الأمم كلما أهمل حاضرها وأزداد تخلفها عن غيرها من الأمم ازدادت حفولاً بالماضي وتفطناً إليه وعكوفاً عليه. ولعل عبادة السلف عند بعض الشعوب ترجع في معظم الأمر إلى هذا الميل النفسي العميق.

ونعود إلى صورة الشعور كما يرسمها طماح الشباب ويحددها أمله، فنجد أن الشاب إذ يتجه في أمانيه وأخيلته وعمله إلى المستقبل، إنما يجري على طبيعة الشعور وبموجب قواعده. فالحاضر لدى الشاب الذي لم يحدد الضعف وقصر المجال وضيق المضطرب أمله فيه وحدود مسعاه، هو مرقاة منها يرقى إلى غيرها. وإذاً فحاضر الحياة من الشاب هو الدرب، والمستقبل الأفق، ما يفتأ متجدداً مغرياً بالسعي والسير ما بقيت في النفس حوافز السعي والسير. ثم أن حاضر الحياة مزيج من الخير والشر واللذة والألم والنجاح والفشل. أما آتيها فهو كما يرسمه الخيال ويحدده الأمل، خير ونعيم ونجاح. أما الماضي فقد كان يكون من خياله ما يكون من خيال الشيخ لولا أن صورة المستقبل صورة قوية رائعة لا تدع للتفكير في الماضي إلا ما يدعه القوي للضعيف. وعلى كل فقد ترى من الشباب من ينزوي عن مستقبله ويتجه إلى ماضيه، إن يكن له ماض، فعل الشيوخ الذين غادرهم الأمل وأحالهم الكبر

هذا تحليل مجمل لصور الشعور في ثلاثة أطوار الحياة وفي أزمنتها الثلاثة، لا نعتقد أننا نتحكم فيه أو نفرضه فرضاً على القارئ، لاسيما إذا أزلنا من الصورة جانبي المبالغة والإغراق من تفاؤل رخيص يجعل الحياة ابتسامة طويلة كاذبة، وتشاؤم عبوس دائم التقطيب، كما يتمثلان في حياة نفر من الناس، شأنهم الحقيقي من الحياة شأن الهامش من الصحيفة، فيها وليسوا فيها.

مما وصفنا ترى جليّاً أن حاضر الحياة - وهو كل حقنا فيها - لا ينال من فطنة الشعور إلاّ قدراً ضئيلاً عابراً إذا قيس بما يملأ أخيلتنا ويكظها من صور الماضي والآتي.

وقد تقول: ماذا علينا - إذا كان هذا هو الحال - لنخلِّص الحياة من هذا العبث الذي يضيع فيه العمر بين لهفة على الماضي وغفلة عن الحاضر واستشراف للمستقبل؟ وجوابنا أن من طبيعة الحياة أن يتمازج فيها الخير والشر وتُساير اللذة الألم، وانه يستحيل أن تكون الحياة خيراً كلها أو شراًّ كلها، وانه لهذا أضحى واجباً أن يقبل عليها الناس إقبالاً لا يُفيتهم ما يتيسّر لهم من نعيمها، ولا يفيتهم - كذلك - النظر إلى المستقبل والسعي في سبيله؛ ولن ينقص نظر الناس إلى المستقبل من استمتاعهم بلذات الحاضر إذا عرفوا كيف يحسنون السير في سبيله سيراً معتدلاً حتى لا يضحى مشغلة لهم تزحم حاضر الحياة على نصيبها الذي يجب أن يكون لها من وعي الشعور، بل نحن نعتقد أن المرء يتيسّر له من سعادة الواقع، مع السعي السليم والتطلع إلى المستقبل الذي لا يقطعُ المرء من حياته الحاضرة، أكثر مما يتيسّر له حينما ينقطع عن ماضيه وآنيه ليكبّ على الحاضر وحده يرضع فيه اللذة ويترشف النعيم على الطريقة الخيَّاميَّة.

وهذه الحالة السليمة من الشعور لا تحلُّ حلولا مفاجئاً، كما يحلُّ الوحي، ولا تجئ بالسعي الهين أو المعتدل، إنما هي حالة تقتضي السعي الأكيد، والتعاون الشديد، من جميع مصادر التوجيه النفسي. ولعل البيت والمدرسة يفوقان في هذا الشأن جميع مصادر التوجيه الأخرى في طول مدى التأثير وعمقه، فالبيت والمدرسة يستطيعان أن ينشئا الجيل الذي لا يقتله الفشل فيرتد إلى الماضي يخدِّر فيه الشعور، ولا يستخفه النجاح، فيستعبده المستقبل ويستذله. ويكون ذلك بأن يتعاون البيت والمدرسة على تعويد الطفل بالتلقين والإيحاء تلقى مؤثرات الحياة برحابة في الصدر، وتوطين للنفس على خير الحياة وشرها على السواء.

ويساعد على تكوين هذه الحالة السليمة من التصور مثل التربية الاستقلالية التي يُرباها أبناء الأمم السكسونية، حيث يتخذ الألم معنى الواقع الذي لابدَّ منه، واللذة معنى الخير يجئ بالسعي، فلابدَّ من تذوُّقه واستمتاعه إلى أقصى حدود الاستمتاع.

ويجب كذلك أن يتعاون البيت والمدرسة تعاوناً حكيماً في الحد من أنانية الصغار الصارخة، وإفهامهم أن فرص النجاح مثل حقهم؛ فلا تمضي حياتهم آمالاً مخيَّبة، وآلاماً موصولة.

كذلك على المدرسة والبيت أن يعوِّدا الناشئ كيف يقف من حوادث الحياة موقف الحياد والاستقلال في التقدير، ومن نفسه موقف المحاسبة والتحليل الدقيق للأوضاع التي تسوقه إليها مجريات الحياة. بذلك يكتسب ثقة في النفس وتقديراً عادلاً للأوضاع، يربحانه من خصومة النفس وغربة الوضع وغرابة الإحساس. . . .

ومن واجب البيت والمدرسة - كذلك - أن يعتاد الصغار تقدير آلام الغير ويستيقنوا أن الناس يتألمون كما هم يتألمون، وأن ما نشاهده من ظاهر السعادة عندهم هو في أغلب الأحيان دون ما نقدِّر ونتوهم.

ومن أول واجبات البيت والمدرسة أن ينشئا الصغار على التفطن إلى جميع مظاهر الجمال وتذوقه في الطبيعة والحياة والفن، فأن في ذلك توسيعاً لمدى اللذة وتغليباً لأسباب السعادة على أسباب الشقاء.

وأخيراً يجب على البيت والمدرسة أن يفقهاأن عملية التربية ليست إعداد المرء للحياة كما تصر نظم التربية القديمة، إنما هي - كما يقول جون ديوي - فيلسوف النزعة الحديثة في التربية: (الحياة) بذاتها.

أديب عباسي