مجلة الرسالة/العدد 136/رسائل حاج

مجلة الرسالة/العدد 136/رسائل حاج

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936


2 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب

للمستشرق المجري

الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ بجامعة بوادبست

وشعرت وأنا أجتاز دهاليز الأزهر وأستقبل لأول مرة أروقته وحلقات دروسه بنوع من الرهبة والخشوع والتسليم. فهذا المعهد العظيم موئل الإسلام ومعقله، ومنبع الثقافة الدينية، وحامي حمى اللغة العربية. كان من أسمى أماني أن أندمج في سلك طلابه. وكم كنت في شوق لاهف إلى أن أنهل من ينبوعه الفياض روح الإسلام الحق، وأضيء شمعة معرفتي الخافتة بحيث تتحول إلى شعلة وقادة، وإلى حماسة فائقة داخل جوانحي، وأتعرف إلى شيوخه الذين يقودون العالم الإسلامي بآرائهم وأفكارهم، كما كنت على يقين وثقة أنني بمعاونة هؤلاء العلماء الفطاحل سأمضي في ترجمتي للقرآن الكريم إلى اللغة المجرية بحيث أجعلها في متناول آلاف المسلمين من مواطني.

ومع أن هذه الترجمة كانت عملاً شاقاً مضنياً، فإني كنت أحس من أعماق روحي أنها فرض واجب علي كمسلم مخلص يريد أن يعلي منار الإسلام ويطمح في أن يضيف لبنة صغيرة إلى صرحه العظيم.

وخيل إليَّ وأنا في نشوة روحية عميقة أنني بدأت أظفر ببغيتي وأُجزى خير الجزاء عن تلك الليالي الطويلة التي لم أذق فيها طعم الكرى، بل أمضيتها منكباً على دراسة الإسلام وتفهم قواعده وأصوله، وأن كل ما حاق بي من مصاعب سيتبدد، وفشلي سيتحول إلى فوز عظيم وانتصار رائع بمعاونة شيوخ الأزهر ومدهم يد المساعدة إلى عملي المتواضع.

ولكنني رأيت والأسف يملأ جوانحي أن آمالي تنهار دفعة واحدة بحيث أصبحت عاجزاً عن خدمة الغرض الأسمى الذي خصصت حياتي له. علمت بأن هناك وشاة أوعزوا إلى الشيخ الظواهري بأنني دخيل أرمي إلى الوقوف على أسرار الإسلام وإذاعتها في البيئات العلمية في أوربا! وعلى الرغم من الظنون والشبهات السيئة التي حامت حولي بذلت جهداً عظيماً لمقاومتها؛ وكان رائدي في تلك المقاومة أن الحق على الدوام في جانبي، وقد كانت سيرة المرحوم الإمام الشيخ محمد عبدة وما لقيه من خصومة صماء خفية، وانتصاره على خصومه أكبر مشجع لي في الثبات أمام حجة خصومي. وقلت لنفسي: أين أنت أيها المصلح العظيم لترى كيف ابتعد الأزهر عن مبادئك العالية، وتجاوز عن رسالتك الرفيعة التي سموت بها فوق الأغراض الوضيعة والمطامع الدنيوية والمنافع المادية.

وعلى الرغم من جهادي الضعيف في مقاومة خصومي، ما كنت لأستطيع أن أبرهن لفضيلة الشيخ الظواهري على إخلاصي وحبي للدين الحنيف، وأني لست دخيلا، ولكنني رجل يؤمن من أعماق روحه بالرسالة المحمدية النبيلة، وأريد أن أحصل على معاونة رجال الأزهر للوقوف على تعاليم الإسلام، مع علمي بأن هذه الشريعة السمحاء ليس بها أسرار يمكن إذاعتها في البيئات العلمية، لأنها ديانة مؤسسة على ثقافة ثابتة مكشوفة للعالم لا تمييز فيها بين الأجناس والألوان. وليس الأزهر سوى الجامعة الإسلامية الحق التي تضئ شعلة الحق، فلا أسرار في جوانبها يمكن إخفاؤها عن رجل أجنبي مهما كانت صفته. ألا يعاقب الله كل مسلم يرمي أخاه بالشرك والكفر والتشكك في عقيدته المقدسة؟ ألا يعاقب أيضاً أولئك الذين لا يقومون بواجب الدعاية والإرشاد للإسلام، والذين يخفون أسرارا في قلوبهم؟ يشهد الله أنني لا أرمي من وراء ذلك أن أوجه التهم جزافا، أني لا أملك هذا الحق، ولكنها صرخة ضعيفة أردت أن أنفس بها عن صدري.

إن الأزهر بحسب نظامه الحالي لا يستطيع أن يؤدي رسالة الإسلام كما يجب. فالنظام الحديث الذي أدخل عليه، والحيلولة دون اجتماع الطلاب في حلقات الدرس كما كانوا قبلا حول شيوخهم، مسخ الأزهر وشوهه، وأفسد ما كان قد بقي له من جمال وجلال وحرمة، وأفقده سيطرته الدينية والاجتماعية في العالم الإسلامي، تلك السيطرة التي ظل متمتعاً بها قرونا عدة. ويلوح لي أن البرامج الحديثة لم تقدم الأزهر خطوة واحدة، لأن المشرفين على تنفيذها جعلوا هدفهم الأسمى فتح أبواب العمل في وجوه الطلاب، وتمكينهم من احتلال الوظائف المدنية دون أن يفكروا في تحميلهم ثقافة الإسلام على وجهها الصحيح وإرشاد المسلمين إلى الخير وتفقيههم، ودعوة غير المسلمين إلى الدخول في دين الله كما نص ذلك القرآن الكريم. يجب إذن أن يترك الأزهر ليكون جامعة الإسلام الحق، وأن يعد طلابه لحمل رسالة الحق، وتهيئهم للوعظ والارشاد؛ أما فتح أبواب العمل واحتلال الوظائف المدنية فأشياء ثانوية قد تصرف الأزهر عن الغاية التي أنشئ من أجلها.

وعلى الرغم من وجود عدد كبير من العلماء الجهابذة في هذا العهد الإسلامي العظيم فان الضغط أطفأ في قلوبهم روح المعرفة والتعطش إليها. على أن الإسلام في عرفي يحتاج إلى حرية كاملة في البحث والتنقيب والفكر. ولقد ولد الإسلام في مهد الحريات فيجب أن يظل كذلك، لأنه يحث على حب الحقائق والصدق والتغلغل في أعماق المعرفة. وتقدم الأزهر لا يتم بتشييد العمارات المهيبة العظيمة، وإقامة عمد من الرخام والمرمر، وصنع مقاعد الدراسة من الأخشاب الثمينة، وإنما يتم بالتمسك بالعروة الوثقى، وإزالة الصدأ الذي ران القلوب من التمسك ببعض التقاليد والعقائد المزيفة، وفي الإجماع على توحيد كلمة الحق ووضع الأنظمة الإلهية في المكان اللائق بها. ألم يقل الله عز وجل: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) أو كما قال الرسول الكريم (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا).

ولما يئست من معاونة رجال الأزهر قر في عزمي أن أقوم بدراستي وحدي مستعيناً بمعلم خاص تكرم بتضحية جزء من وقته لتعليمي، كما ألفيت مساعدة عظيمة من بعض أصدقائي بالقاهرة، كالأستاذ محمود تيمور الذي يجمع بين ظرف الشباب وطهارة الشيوخ، والشاب النابه محمد أمين حسونه الذي عرفني إلى طائفة من أدباء مصر وصحفييها، وأعارني مكتبته طيلة إقامتي في مصر، والباحث محمد عبد الله عنان الذي يعد حجة في التاريخ الإسلامي، والشيخ الوقور عبد الوهاب النجار الذي له أتباع وتلاميذ منتشرون في أنحاء الأرض، وقد كان سبباً في تعرفي بكثير من إخواني المسلمين، وكانت كتب توصيته بمثابة مفتاح يفتح أمامي كل باب.

وفي أواخر فبراير زودني الأستاذ النجار بكتب توصية بمناسبة عزمي على أداء فريضة الحج؛ وكان له الفضل الأكبر في تقديمي إلى (بنك مصر)، ذلك الصرح المالي العظيم الذي يتناول من جملة مشروعاته الاقتصادية تنظيم سبل السفر إلى الأقطار الإسلامية المقدسة. ومما يذكر مع الأسف العميق أن أعمال الحج كانت تقوم بها قبل ذلك شركات ملاحة أوربية لا علم لها بما تتطلبه حاجات الحجاج المسلمين، فكانت بواخرها تحمل المشروبات الروحية، وتقدم إلى الركاب الطعام الأوربي، ولا تكترث بأن تهيئ لهم الماء الكافي للوضوء ولا إقامة مصلى يؤدون فيه الفرائض الشرعية.

أما (بنك مصر) فقد نظم للحج باخرتين كبيرتين تعدان من أكبر البواخر، وزودهما بكل ما يحتاج إليه الحجاج من وسائل الراحة والمأكل بحيث يشعر المسافر أنه لم يفارق بلاده. وقد كانت بغيتي أن أستقل إحدى هاتين الباخرتين، لأنني عددت نفسي مصريا بعد أن شربت من ماء النيل، ولكني لم أتمكن وا أسفاه من نيل بغيتي، فان قانون شركة كلاحة مصر يمنع من نقل الحجاج الأجانب على هذه البواخر، وعلى الرغم من المجهود الذي قمت به وتوسط الهلباوي بك لم أوفق، واضطررت إلى السفر على إحدى بواخر الشركة الخديوية.

وقامت بنا الباخرة باسم الله مجراها تشق برزخ السويس، فرحت أفكر في تاريخ ذلك المضيق الذي كان سبباً في فصل أفريقيا عن آسيا، بل كان فاصلا بين حقبتين من أحقاب التاريخ؛ ومع أنه قرب مصر من أوربا فقد جعل لمصر مركزا سياسياً ممتازاً بحيث أصبحت جزءا من أوربا. وبينما أنا غارق في غمار تلك الأفكار إذ اقترب مني فريق من الحجاج وبدأ التعارف بيننا بسرعة. كان بينهم طبيب هندي تصحبه كريمته، ولكن لسوء الحظ لم يكن هذا الطبيب يعرف اللغة العربية حرفا واحدا، فاضطررنا أثناء السفر إلى التحدث باللغة الإنجليزية. وفي ذات يوم نظر إلى نسخة من القرآن الكريم في يدي، وهي الطبعة التي تولتها المطبعة الأميرية، فأعجب بها أيما إعجاب، وطلب إليَّ أن أبتاع لحسابه ألف نسخة من هذه الطبعة ليبعث بها إلى الهند إذ لا توجد هناك مصاحف جميلة من هذا النوع.

وكان بالباخرة أيضاً حاج مراكشي، يشغل وظيفة قاض في فاس، وكان صبوح الوجه، وقوراً، أميل إلى التزام الصمت، لكنه ما كاد يسمعني أتحدث بالعربية مع أحد الحجاج الأتراك حتى أقبل إلينا واشترك في الحديث. ولشد ما أعجبت بتبحر الرجل في العلوم الإسلامية والفقه، كما أن لباسه الشرقي الفضفاض كان يخلع عليه طابعاً من الرزانة والوقار؛ أما صاحبنا التركي فكان أحد ضباط الشرطة في دمشق، وبعد اعتزاله الخدمة آثر أن يبقى في سورية حيث تعلم اللغة العربية؛ وكان طيلة السفر يشكو مر الشكوى من الأنظمة الحديثة في تركيا وبالأخص ترجمة القرآن وتشويه هذه الترجمة بحيث لا تؤدي المعاني المقصودة، ويظهر سخطه وتبرمه بالغازي الذي يحول دائماً بين المسلمين الأتراك وبين أداء فريضة الحج، ويرهق كل من أراد الحج بالضرائب الفادحة.

من ذلك ترى أننا كنا على ظهر الباخرة من بلاد متباينة، ولكن تجمعنا جامعة الإسلام، وتؤلف بين قلوبنا وتجعلنا نعيش كأفراد أسرة واحدة. فلما اقترب موعد العشاء أخذنا أماكننا على المائدة، وكان يخيل إلى كل من يرانا أننا في برج بابل، فكل منا يتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، بيد أننا سوف نصل بعد بضعة أيام إلى جدة وتطأ أقدامنا الأرض المقدسة فنخلع عن أنفسنا تلك الملابس التي تفرق بيننا لنستبدل بها لباس الإحرام الفضفاض بحيث لا يصبح أي فارق بيننا بل نكون سواسية في حضرة رب البيت الكريم.

وبعد انتهاء طعام العشاء بقليل صفرت الباخرة صفيراً عالياً فغادرنا المائدة وتهيأنا للوضوء، ثم صلى كل منا ركعتين قرأ فيهما سورة الإخلاص وقل يا أيها الكافرون.

وكان البحر هادئاً والهواء ندياً والنجوم تتألق في القبة الزرقاء، وراحت الباخرة التي كانت تحمل على ظهرها أكثر من 700 حاج تلقى مراسيها بين هتاف الحجاج ودعواتهم الحارة.

وهكذا ظل الحجاج في هرج ومرج، فكنت ترى البعض يهتف بقوله: لبيك اللهم لبيك، والبعض الآخر مستغرقاً في صلاته، وآخرين صامتين لا يبدون حراكاً، شاخصين بأبصارهم في ذهول نحو الأرض المقدسة التي خرج منها سيد الخلق ورسول رب العالمين.

وما كنت بأقل من هؤلاء الحجاج شعوراً بالغبطة والابتهاج، ولزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة، ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت: لبيك اللهم لبيك. ثم انهمرت الدموع من مآقي ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء. أجل! أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة، بل شرد عقلي واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية، وتوزيع أسباب العدالة عليها طبقاً لأصول الشريعة السمحاء.

(يتبع)

عبد الكريم جرمانوس