مجلة الرسالة/العدد 136/على ذكر حوادث دمشق

مجلة الرسالة/العدد 136/على ذكر حوادث دمشق

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1936


تاريخ يثور. . .

على ضفاف الوادي، وهضاب فلسطين، ورياض سورية، يثور تاريخ، ويغضب مجد، ويستغيث مظلوم. . .!!

على الوطن الذي ورفت على نيله أول حضارة، والبلدِ الذي هبط على طُوره أول دين، والقُطر الذي انبثقت من ساحله أول ثقافة، تُمتْحن الحرية بمن فرضوا على الملك أول دستور، وتُمْتهن العدالة ممن حملوا للهِ أول كتاب، وتُبتلى الإنسانية بمن أعلنوا للإنسان أول حق. . .!!

على هذه الأقطار الثلاثة التي شع منها السلام والإسلام والخير، يستكلب الطمع، ويشتجر الهوى، وينفجر البغي؛ فالمفاوضات وعيد، والاحتجاجات حديد، والمواعيد مراوغة، كأنما عيِّ المنطق من طول ما مارس العلم! ومات الضمير من كثرة ما دارس الخُلق! وزهق العدل من شدة ما زاول القانون!!

في القاهرة وأورشليم ودمشق، شباب يحمَي على لذع البنادق، ودم يفور على مسِّ الأسنة، وأمل يشرق فيالوجوه الوضيئة، وطموحٌ يومض في العيون الرغيبة، وماضٍ تميز في إبهام الدهر يتمثل في الأذهان الصافية، ومجدٌ تأثَّل في أربعة عشر قرناً يعصف بالنفوس الفتيَّة! فماذا تصنع مُدية اللص في قلب تدرَّع بالأيمان؟ وماذا تبلغ سطوة الباطل من حق تسجَّل في لوح الزمان؟!

يا لله! ألم يَأْن لدعاة المدنية. . . وحماة الحرية. . . ورسل العلم. . أن يروضوا عقولهم على الحقيقة، ويفتحوا عيونهم على الواقع؟! إن هذا الشعب الذي تتحلب أفواههم قَرَما لأكله، لا يزال يعيش في ملك آبائه الفاتحين، ولا يزال مطويَّ الحنايا على العزيمة التي قبض بها من قبل على زمام الدنيا، وشارك في تصريف الأقدار، وأملى إرادته على سجل الزمن! إن حلمه لثقيل، ولكن غضبته مفزعة؛ وإن نومه لطويل، ولكن يقظته مروَّعة! إنه على اختلاف أقطاره لا يزال يحمل في نفسه سر (الجزيرة) التي يعيش فيها الجمل الوقور الصابر، والأسد الهصور المتوثب!!

إن في كبد أوروبا جمرة من العرب منذ غزتها بالدين والمدنية والعلم سفائنُ طارق! انطفأت البراكين ولما تنطفئ هذه الجمرة! أجْلت العرب عن أرضها بالبربرية الهوجاء والتعصب الحاقد والقسوة الجامحة، ثم كتَّبت الكتائب الحليفة وغزتهم في عقر بلادهم باسم الدين المظلوم في عهد (صلاح الدين)، ثم بالعلم المسموم في عصر (عبد الحميد)، ثم بالمدينة المغشوشة في عهد (عصبة الأمم)! فما كان الدين والعلم والتمدن إلا ألفاظاً حُمِلت بالكره على معاني الثأر والاستعمار والغصب! ثم أغروا بنا الجهالة والمجاعة والفوضى، ومضوا في ظلال الأمن، يعقدون من دمائنا الذهب، ويتخذون من لحومنا القوت، حاسبين أننا مخدَّرون بالأباطيل فلا نفيق، مُثْقلون بالتقاليد فلا ننهض؛ ولكن المعدن ياغُلْفَ القلوب كريم! وهذا الذي يعلوه غبار لا صدأ! وهاهي ذي سياسة الإرهاب والاغتصاب تجلوه عن شباب عرفوا كيف يموتون، أكثر مما عرفوا كيف يعيشون!! وهاهم أولاء يمشون على ما بلي من هياكل الشيوخ، كما يمشي المَرحون على ما جف من سفَير الشجر!! إنهم يسرعون الخطى إلى الربيع الباسم والجو الطليق، وفي أسماعهم المرهفة دويُّ لا ينقطع بهذا الهتاف: (لقد فتح آباؤكم ثلاث قارات في ربع قرن، أفتعجزون عن تحرير ثلاثة بلاد في نصف قرن؟!

إن شباب العرب مصريين وسوريين قد أخذوا موثقهم من الدم الشهيد أن يعيشوا أعزة أو يموتوا كرامَا! فلا تَتَحَدَّوا بالعذاب السفيهِ جنساً برمته وتاريخاً بأسره، ولا تعبثوا بالمعاجم التي تعب فيها اللغويون والمجامع فتسموا النهب تنظيماً والقتل تعليماً والغزو صداقة! جربوا الصداقة بمعناها اللغوي الصحيح تَفِرُوا المال والرجال والسمعة، فان هذا الشعب الذي وقعتم في صفوه، وتعبتم من غزوه، ويئستم من خداعه؛ كان له في السياسة العالمية شأن، وفي اللغة الدولية اصطلاح، وفي قيادة الإنسانية محل، ومن إصلاح المجتمع نصيب! فهو يفهم الصداقة، ويَقْدِر المعاونة، ويكبر التضامن، ويعقد صِلاته بالناس على ضوء شريعته وقرآنه!

إن سلام الشرق منوط بسلام العرب؛ وإن السلام والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد؛ وليس من معاني السلام المهانة، ولا من دلالات الإسلام الاستكانة! إنما هما الحياة القائمة على الحرية والإخاء والمساواة، وهي الأقانيم الثلاثة التي رسمتها الثورة على عَلَمكم المثلث! بِغير هذا لا يرضى العرب! وبدون هذا لا يحيا العرب! فراجعوا في سياستكم العقل السالم من الهوى، والضمير الخالص من الرِّيبة، وحكموا بينكم وبينهم مبادئ الناس، فانهم - كما تحسون وتلمسون - من الناس!!

احمد حسن الزيات