مجلة الرسالة/العدد 137/في ميدان الاجتهاد

مجلة الرسالة/العدد 137/في ميدان الاجتهاد

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1936



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 2 -

كيف يعود الاجتهاد

ولا بد من عودة إلى ذكر نصوص أخرى فيما كان للسياسة من أثر في نصرة بعض هذه المذاهب على بعض، ولتلك المدارس وأوقافها من أثر في القضاء على الاجتهاد في نفوس العلماء؛ قال الشيخ أبو زرعة في شرح جمع الجوامع: قلت مرة لشيخنا البلقيني: ما يقصر بالشيخ تقي الدين بن السبكي عن رتبة الاجتهاد وقد استكمل الآلة؟ وكيف يقلد؟ ولم أذكره هو استحياء منه لما أريد أن أرتب على ذلك، فسكت عني، ثم قلت ما عندي أن الامتناع من ذلك إلا للوظائف التي قررت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه، ونسب إلى البدعة، فتبسم ووافقني على ذلك.

وقال الحافظ الذهبي في كتابه (بيان زغل العلم والطلب) عند الكلام على علم أصول الفقه: (أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهداً، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يضع شيئاً، بل أتعب نفسه، وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرؤه لتحصيل الوظائف وليقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخيال)

وجاء في نيل الابتهاج أن أهل الأندلس التزموا مذهب الاوزاعي حتى قدم عليهم الطبقة الأولى ممن لقي الإمام مالكاً، كزياد بن عبد الرحمن، والغازي بن قيس، وقرعوس ونحوهم، فنشروا مذهبه، وأخذ الأمير هشام الناس به، فالتزموه وحملوا عليه بالسيف إلا من لا يؤبه له

وجاء في نفح الطيب أن سبب حمل ملك الأندلس الناس على هذا المذهب في بعض الأقوال أن الإمام مالكاً سأل عن سيرته بعض الأندلسيين فذكروا له عنها ما أعجبه، فقال نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاما هذا معناه، لأن سيرة بني العباس لم تك مرضية عنده، وقد لقي منهم ما لقي مما هو مشهور، فلما بلغ قوله ملك الأندلس مع ما علم من جلالة مالك ودينه، حمل الناس على مذهبه وترك مذهب الأوزاعي

والآن فللشرع في بيان الطريق إلى عود الاجتهاد، وإنه ليس هناك فرصة تنتهز لهذا أقرب من هذه الفرصة التي يتولى فيها أمر الأزهر شيخ من أنصار الاجتهاد، وهو الأستاذ الكبير محمد مصطفى المراغي، ولا ننكر أنه يحيط به هذه المرة عوامل من جهات كثيرة جعلته يصير إلى أمور لم يكن يصير إليها في المرة الأولى، وقد كان يأخذ بالإصلاح فيها غير متأثر بتلك العوامل، ومن هذه الأمور محاولة القضاء على العلوم الرياضية في الأقسام الثانوية بالمعاهد الدينية لتحشر حشرا في الأقسام الأولية، فلا يكون هناك فائدة من دراستها فيها، وكثير منها ليس في نفس طالب القسم الأول الاستعداد لدراسته. ويقال إن الغرض من هذا تفريغ طلاب الأقسام الثانوية لدراسة الكتب الأزهرية كما كانت تدرس قديماً في الأزهر، ولا شك أن ستتبع هذه الخطوة خطوة أخرى في القضاء على هذه العلوم في الأقسام الأولية لتفريغ طلابها أيضاً لدراسة الكتب الأزهرية على تلك الطريقة التي كانت تدرس بها، لأنه لا فرق عند علماء التربية بين هذين القسمين في حياة الطالب، وكلاهما في حياته طور ثقافة عامة لا طور تخصيص لناحية من النواحي العلمية، فما يجري عندنا على أحد القسمين لتلك العلة السابقة لا بد أن يجري على القسم الآخر من أجلها أيضاً، وهناك نعود كما كنا قبل أن نقطع في الإصلاح هذه الأشواط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإنه إذا كانت العلوم الرياضية قد زاحمت حقاً العلوم الأزهرية في الأقسام الثانوية، فطريق ذلك أن تختصر دراسة هذه العلوم فيها، لا أن يقضى عليها فيها لتحشر حشراً في الأقسام الأولية

ومن هذه الأمور ما نحن الآن بسبيله من أمر الاجتهاد والعمل على فتح بابه، إذ يخطو الأستاذ المراغي في ذلك خطوة لا يرضاها منه أنصار الاجتهاد، ويجعل دستور (لجنة الفتاوى) التي ألفها من علماء المذاهب الأربعة على هذا النحو (أن تجيب الطالب على المذهب أو المذاهب التي يريد الإجابة على مقتضاها، فإذا لم يعين المستفتي مذهباً أجابته بحكم الله المؤيد بالأدلة من غير تقييد بمذهب من المذاهب الشرعية) فلست أدري معنى لهذا التفريق بين المستفتين، وقصر الإجابة بحكم الله على من يريده منهم، وإنه ليجب أن تخضع لحكم الله مذاهب الفقهاء لا أن يخضع هو لها، فلا يجاب به المستفتى إلا إذا لم يطلب الفتوى على مذهب من مذاهب الفقهاء، فإذا طلب الفتوى عليها أفتى له بها ولو كان حكم الله المؤيد بالأدلة على خلافها، وأنّا لننزلها بهذا منزلة لم يردها لها أصحابها، ونجعل حكمها فوق حكم الله الذي كانوا يطلبونه فيها، وهم بشر يصيبون ويخطئون، ولم يدع العصمة أحد منهم في اجتهاده. وقد حكى ابن عبد البر عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيبفانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه

وحكى أبن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وذكر صاحب الهداية في كتابه (روضة العلماء) أنه قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال اتركوا قولي بكتاب الله؛ فقيل إذا كان خبر الرسول يخالفه؟ قال اتركوا قولي بخبر الرسول ، فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بقول الصحابي

وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت

وذكر الشعراني في كتابه (الميزان) أن الأئمة كلهم قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة

فإذا ثبت لنا الآن حكم مؤيد بالأدلة فهو حكم الله الذي يقول به أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، ولو كانت أقوالهم في حياتهم على خلافه، ولا شك أنا إذا أفتينا في ذلك على المذهب الذي يريد المستفتى الإجابة على مقتضاه نكون بذلك قد خالفنا حكم ذلك المذهب الذي جعل صاحبه حكم الله رائده، وتبرأ من قوله إذا صح حكم الله بخلافه؛ وقد كان من الواجب على الأقل أن يكون دستور هذه (اللجنة) ما ذكره الإمام الشوكاني، فإنه بعد أن ذكر أن المقلد لا يصلح للقضاء وأنه لا يحل له أن يفتي من يسأله عن حكم الله في أمر من الأمور قال: فإن قلت هل يجوز للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معين وينقله له؟ قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالا يصرح به أو يلوح ان الحق خلاف ذلك، فإن الله أخذ على العلماء البيان للناس، وهذا منه، لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب

ومن المهم في ذلك أن الإمام الشوكاني لم يبح للمفتي المقلد أن يفتي إلا من يسأله عن قول فلان أو رأي فلان، ولم يبح له أن يفتي من يسأله عن الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يحرم عليه، لأن المقلد لا يدري واحدا من هذه الأمور على التحقيق، بل لا يعرفها إلا المجتهد؛ وهكذا إن سأله السائل سؤالا مطلقا من غير أن يقيده بأحد الأمور المتقدمة، فلا يحل للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهرة، لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وهذه (اللجنة) قد ألفت من علماء المذاهب الأربعة، فهم مقلدون لا مجتهدون؛ وقد أبيح لهم أن يفتوا من لم يبين مذهبا في فتواه بحكم الله المؤيد بالأدلة، من غير تقيد بمذهب من المذاهب الشرعية ولا يمكن لهم أن يفتوا بهذا إلا إذا خلعوا عن أنفسهم صفة التقليد، وادعوا لأنفسهم صفة الاجتهاد، ولا شك أن أكثر هؤلاء الأعضاء إن لم يكونوا كلهم لا يدعون لأنفسهم هذه الصفة وإنه ليسرنا أن يدعوها لأنفسهم. ولكنه يحول دون ذلك قبولهم أن يفتوا بحكم المذاهب الفقهية من يسألهم عنها وألا يبينوا حكم الله إلا لمن لا يعين في فتواه مذهبا من هذه المذاهب، اللهم إلا أن يدعوا لأنفسهم الجمع بين الصفتين، ويكون هذا من غرائب دستور (لجنتهم) ولكننا نجل إخواننا من أعضاء (اللجنة) عن هذه الدعوى، ونعتقد أنهم سيعملون على إصلاح وجهتها، وصرفها إما إلى الاجتهاد الخالص أو التقليد الخالص، ليكونوا إما مجتهدين بحق وإما مقلدين

فتلك الخطوة التي خطاها الأستاذ المراغي إلى الاجتهاد خطوة ضئيلة جدا، ولا يصح أبداً أن تكون نتيجة لذلك الجهاد الطويل الذي قام به الداعون إلى الإصلاح وفتح باب الاجتهاد من عهد جمال الدين الأفغاني إلى الآن، وهي خطوة من السهل أن ينظر إليها أنصار التقليد إذا آل الأمر إليهم وكأنها لم تكن، ونحن نريد أن نفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحاً يكون في المستقبل حجة لأنصاره، وتكأة يعتمدون عليها، وحجة على أنصار التقليد يؤخذون بها، والفرصة الآن سانحة بالتفاف رجال الأزهر حول الأستاذ المراغي، واختيارهم له جميعاً على أنه رجل الإصلاح وخليفة الإمامين الصالحين: محمد عبده، وجمال الدين فلنبادر من الآن بالدعوة إلى عقد مؤتمر يجمع علماء الدين الإسلامي في سائر البلاد الإسلامية على اختلاف مذاهبهم، من رجال المذاهب الأربعة، إلى رجال الشيعة الزيدية، إلى رجال الشيعة الإمامية، إلى رجال الأباضية الباقين من فرق الخوارج، إلى أنصار الاجتهاد الذين لا يأخذون بمذهب من هذه المذاهب ليكون فتح باب الاجتهاد في هذا المؤتمر أمراً حاسماً لا يمكن أن يجادل فيه بعد هذا أنصار التقليد، وينظم فيه أمر الاجتهاد تنظيما يفتتح بابه لأهله، ويغلقه دون من ليس أهلا له، ويخط له الطريق إلى معالجة المسائل المهمة التي أدت إلى جمود الفقه الإسلامي، وعدم تمشيه مع حاجة المسلمين، ويعلو به عما نشتغل به الآن من الخلاف في أمور لا أهمية لها، من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والزيادة المعروفة في الآذان، وما إلى ذلك من الأمور التي نضيع وقتنا سدى في الخلاف فيها

ولقد أراني أبعدت في الأمل بعد أن سكنت من زمن بعيد إلى اليأس، ومضيت في سبيلي لا ألوى على أحد؛ على أني سأمضي في هذا السبيل الجديد بعد أن فتحت بابه على نفسي؛ وأنا امرؤ لا يعرف الإحجام، ولم يعود نفسه إلا الإقدام.

عبد المتعال الصعيدي