مجلة الرسالة/العدد 138/رسائل حاج

مجلة الرسالة/العدد 138/رسائل حاج

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1936


4 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب

للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ بجامعة بودابست

تتمة

وقف جلالة الملك ابن السعود فوق ذروة (جبل الرحمة) كرمز خالد لعبقرية الأمة العربية، يذرع الفضاء بعين نسر جبار، ويشرف على راحة الحجاج الضاربين بين خيامهم في السهول المجاورة. لكم كان منظره فاتناً خلاباً، والشمس تكنفه وتشرق عليه، بينما يلتف حوله الحرس الوهابي بملابسهم المزركشة وخناجرهم التي تلمع مقابضها في وهج الظهيرة.

وقبيل الغسق تحرك الركاب الملكي شطر (المزدلفة) فظهر في الجو غبار كثيف امتزج بصيحات الوهابيين الذين كانوا يهتفون (نحن أنصار التوحيد، اخوة من أطاع الله) وليس لأي كاتب مهما بلغت عبقريته أن يصف هذا المنظر وصفاً شافياً، ومن لي بالفصاحة والبيان لأصوره على حقيقته؟

وعند وصولنا إلى (منى) بلغ مسامعنا نبأ محاولة اغتيال الملك، فان ابن السعود ما كاد ينتهي من طوافه للمرة الثالثة حتى داهمه أربعة من اليمنيين وهم يصيحون بأعلى أصواتهم: الله اكبر! الله اكبر! محاولين أن يطعنوه بخناجرهم. فان لليمنيين مهارة وحذقاً خاصاً في استعمال الخناجر، لكنهم لم يصيبوا سوى ولي العهد وهو يهم بإنقاذ أبيه. ثم حمل الجنود على الجناة وحاولوا أن ينزعوا سلاحهم. ولما لم يفلحوا اضطروا إلى رميهم بالرصاص، وأريقت دماؤهم فوق ثرى هذه الأرض المقدسة. وكان الملك الذي طالما خاض غمار حروب ومعارك حتى لم يخل جسمه من شبر واحد من آثار الجروح، هادئا ساكنا فلم تبدُ على وجهه إمارات الجزع، بل قصد لساعته بئر زمزم فتوضأ، ثم عاد إلى إتمام طوافه بالكعبة

وكان للحادث أثره المؤلم في نفوس الحجاج، فاستنكروا بشاعة الاغتيال، وتوغل بعض القتلة في الصفوف فخشي أن يحدث فرارهم رعباً في القلوب. ولقد أحسن الملك صنعاً بعودته السريعة إلى منى ليزيل ما علق بنفوس الحجاج من الرعب، فانه ما كاد يستقر في سرادقه حتى هرعت إليه جموع الحجاج ووفود البلاد لتقدم تهنئتها بنجاته من يد الآثمين. هنا سنحت الفرصة لان أقف وجها لوجه مع العاهل العربي الذي يحكم بلاده بالعدل والشريعة، ويسودها العطف والمحبة؛ فقد كان ابن السعود يجلس في سرادقه تحيط به ثلة من الحرس النجدي، وهم من صفوة الرجال الأشداء، وكانت ملابسهم المزركشة تخطف بسناها الأبصار، يتوج رؤوسهم العقال البدوي، وتتدلى من تحته ضفائر الشعر الكثيف الأسود حتى تصل إلى صدورهم، بينما أقداح القهوة العربية وأكواب الليمون المثلج تطوف على الوفود بين حين وأخر. وعندما غشيت مجلس الملك كان الخطيب الماثل بين يديه قد انتهى من خطابته، فلما التقى طرف الملك بطرفي أومأ إلى أن أتقدم، فجمعت شجاعتي وأنا في نشوة روحية عميقة، ورفعت يدي إلى رأسي إجلالاً واحتراماً ثم تقدمت. . .

لقد قابلت في شبابي وأنا في استامبول، السلطان عبد الحميد، ورافقت السلطان محي الدين في إحدى سياحاته، وزرت السلطان رشادا، وتحدثت إلى كثير من الرؤوس المتوجة في أوربا، لكنني لم أشعر مطلقاً أني وقفت وجهاً لوجه أمام التاريخ ألا في تلك المقابلة، لاسيما عندما رفعت عيني إلى وجه ابن السعود، ولمحت في ثناياه دلائل الحزم والقوة والشفقة والحنان والمهابة والجلال. ولقد لاحظت أن بطرف عينه اليمنى حولاً، بينما العين الأخرى قوية سليمة، والمعروف عن الملك أنه شجاع مقدام، تضرب القبائل بشجاعته المثل، فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قاتل في إحدى المعارك خصما له فقضى عليه بضربة من حسامه: وهو رجل شديد الإيمان بالله، ولقد كان إيمانه من أقوى الأسباب في تأسيسه المملكة السعودية وإحياء مجد الجزيرة العربية

وما كدت أقف أمام الملك حتى خاطبته بصوت جهوري فيه كل معاني الإخلاص: السلام على أمير المؤمنين، أنني أحمد الله على نجاتك من يد ذلك القاتل الأثيم عدو الدين

ومدَّ إليّ ابن سعود يده وصافحتها ثم طلب إلى أن أزوره في قصره؛ وبعد أن شهدت حفلة الاستعراض العسكرية التي أقيمت (بوادي الشهداء) ورأيت ضروباً من الفروسية العربية، تلك الفروسية التي خلقت من الحب أدباً عالياً ومن المرأة صنماً معبوداً توجهت إلى القصر الملكي بناحية (المعلى) بالضواحي، وهو قصر عظيم شامخ البنيان، يشبه الحصون العسكرية، ويشتمل على عدد كبير من الغرف المتسعة الأرجاء والردهات والأبهاء ذات العمد

وجلست بقاعة الاستقبال، في انتظار التشرف بالمقابلة، فسرني أن التقيت بكثير من أعيان العرب، الذين يأتون للمثول بين يدي الملك بملابسهم الفخمة، فيحادثهم كإنسان يستشير اخوته، ويرسم معهم كل ما يتعلق بسياسة الدولة وتدبير وسائل الرفاهية والراحة للحجاج. ولقد راعتني البساطة التي ألفيتها متمثلة في الملك والشعب معا، فالرسميات المعقدة التي تتبع في بلاط ملوك أوربا لا وجود لها في هذا البلاط العميق الديموقراطية. والواقع أن ابن السعود هو عاهل الجزيرة العربية بلا منازع، ولم يؤل الملك إليه عن طريق الوراثة، بل آل إليه عن جدارة واستحقاق

وطفقت أستوعب الدقائق إلى أن يحل دوري فأتشرف بالمثول بين يدي الملك؛ وكنت من خلال فترة الانتظار جالساً في مكتب سعادة فؤاد بك حمزة وزير الخارجية، الذي ذكر لي أني أول حاج قدم إلى مكة من بلاد المجر؛ وما كاد يحل دوري حتى تقدمني فؤاد بك حمزة وغشينا مجلس الملك، وبعد أن صافحته أومأ إلى أن أجلس بجواره، وقدمت إلينا القهوة، فرأيته يرشفها بشغف ولذة. ثم بدأ الملك يتحدث إلي فقال: (لقد قدمت من نجد إلى بلاد الحجاز وجبت البلاد من الشرق إلى الغرب لزيارة بيت الله وتفقد حالة الحجاج. وغاية ما أرمى إليه أن أؤلف بين قلوب رجالي متوسلاً إلى الله أن يلهمني وإياهم الصواب في أعمالنا. لقد عنيت عناية خاصة بإقامة الشرائع المحمدية ونشرت الأمن والسلام في أنحاء الجزيرة العربية، وفي وسعك الآن أن تتجول في أقصى بقعة من بقاع الجزيرة دون خوف ولا وجل. وسترى عما قريب أنني سأعيد إلى هذه البلاد عظمتها القديمة حتى تصبح موئل الإسلام كما كانت أيام سيد المرسلين)

إن هذا العاهل العربي العظيم يلمس تماماً مواطن الضعف في كل ركن من أركان بلاده ويعمل على إصلاحه وتقويمه ما استطاع إليه سبيلا؛ فالسلام مع الرقى والتقدم هما الأمران اللذان يعني بهما عنايته بطعامه وشرابه، وإقامة حدود الله مع المحافظة على استقلال الجزيرة هما الغايتان اللتان يسترشد بهما في تأدية واجبه، وهو لعمري الطريق السوي الذي يجب أن يسير فيه. وملك هذه صفاته وأعماله جدير حقا بأن يخلد التاريخ ذكره في ثبت الوجود

وبعد أن انتهيت من زيارتي استأذنته في الانصراف فقام من مجلسه منتصباً وبسط إلي إحدى يديه الغليظتين وظل قابضاً على يدي برهة وهو يرمقني بعينه المتسعة، وكانت ملامحه تدعو إلى الهيبة والاحترام إلى حد ألفيت نفسي عاجزاً عن أن أرفع إليه بصري، ثم ما لبثت أن هويت بفمي على راحته ألثمها في إكبار وإجلال

ولما أزفت ساعة الرحيل ودعت أصدقائي من سادة العرب وكبار العلماء كالأستاذ محمد شطا شيخ قضاة مكة، ورئيس الشرطة، وبعض الأطباء النابهين، ووصلت إلى جدة حيث قضيت أياماً في ضيافة الشيخ محمد علي وهو رجل علامة يحذق لغات شتى، وقد تجول في أنحاء أوربا، ويعرف الشيء الكثير من عادات الشرق والغرب

أقلعت الباخرة فوقفت في مقدمها واجماً ساكناً تتناهبني شتى العواطف، وأنا أودع هذه الأراضي المقدسة التي ربما أراها للمرة الأخيرة. وكلما بعدت بنا الباخرة اغرورقت عيناي بالدموع، فقد خلفت في تلك الديار صداقة جديدة تكاد لعذوبتها تشبه الحب، وذكرى عزيزة هي ثمرة عقيدتي في الإسلام واليوم الآخر. فما اعظم الفرق بين مدنية أصدقائي العرب، إخواني في الله، الذين تشبع في قلوبهم فكرة الاتصال بالواحد القهار فيصدفون عن الماديات، وبين مدنية المغرورين الذين يتهالكون فرقاً وراء قضبان المادة وينقعون غلتهم في شهوة المال!

عبد الكريم جرمانوس