مجلة الرسالة/العدد 138/مصر في المعرض!

مجلة الرسالة/العدد 138/مصر في المعرض!

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1936


- 1 -

أليس من حسن توفيق الله أن يجلس المفاوض المصري في قصر الزعفران، ومن ورائه مصر العالمة العاملة محشودة كلها بسودانها وصعيدها وريفها في المعرض! تشدد قوته بروح النهضة، وتؤيد حجته بدليل الحس، وتسند هيبته بروعة الواقع؟

أليس من الجميل عون الله أن يتألف من ذات مصر ومعناها على النحو الذي تراه في المعرض قياس عجيب الإنتاج، وقصيد قدسي الإلهام، وخطاب سحري البيان، ودفاع قوي الأثر، في الوقت الذي بسَّ فيه اللورد لويد عقاربه هنا وهناك، يلسعون بالتمائم، ويدبون بالأراجيف، ويُقَسِّمون رأيهم في الأمر على أن مصر بطبيعة ضعفها متخلفة لا تلحق وتابعة لا تستقل؟!

تعالوا يا طلائع الاستعمار، وصنائع الامتيازات، وثعالب الكرامة! هذه هي مصر الحقيقية قد عرضت عقلها ويدها في ستين فدانا من الأرض لتيسِّر لكم وسيلة الحكم، وتقصر عليكم مدى النظر؛ فلطالما خدعكم عن حقيقتها مغرورٌ يريد الحكم، أو منهوم يرغب المال، أو محروم يطلب الوظيفة.

زوروا المعرض الزراعي الصناعي تجدوا مصر التي لا تقرئونها في صحيفة، ولا تسمعونها في خطبة، ولا تبصرونها في مظاهرة، ولا تقابلونها في ملهى، ولا تحادثونها في حزب! هي تجري مع الزمن في سكون، وتعمل مع الطبيعة في صمت، وتتشقق عن ثمار النبو غ كما تتشقق الأكمام عن أريج العطر في هدوء الغسق!

زوروا أيها المفاوضون عن الحليفة المتجنِّية معرض الجزيرة قبل أن تدخلوا سراي العباسية، تلمسوا في كل ناحية من نواحي النشاط الصناعي ألف دليل ودليلا على نضوجنا المدني؛ لأن الإنتاج الزراعي إذا رجع إلى عمل الله وفطرته، فأن الإنتاج الصناعي مرجعه إلى فكرة الإنسان وقدرته؛ وقد عَدَوْنا ذلك الطَّور منذ سنين، وأصبحنا نُصَرِّف عمل الطبيعة، ونستخدم ثروة الأرض، ونساهم بحذق في ترفيه الإنسان

بين الهرم والنيل شاهدي القرون وعَيْني الأسلاف، احتشدت مصر الحديثة حكومةً وأمة، تقدم إلى أمْسها الحساب الذي يبرى الذمة، وإلى يومها الذي يجدد الطريق، وإلى غده الأمل الذي يحدد الغاية!

الزارع والصانع والتاجر والعالم والأديب والموظف قد اثبتوا بهذا العرض الموفق في إخلاص غير غالٍ ولا مفتعل، أن مصر التي تسير في مؤخرة الدول بسياسة الكلام، تجرى في مقدمة الشعوب بسياسة العمل!

ودلالة ذلك أن بين الأمة وقادتها حجاباً من الجهل والعزلة لا ينفذ منه الشعاع، ولا تنعكس عليه الروح، ولا ترتسم فيه مقاييس التقدم! على أن أكثرنا لا يزيد علمه بهذا البلد المظلوم على علم هؤلاء القادة؛ فقد كنا نرى في المعروضات الأهلية والحكومية نفائس الصناعة ودقائق الفن، من ضروب اللباس والأثاث والآنية والزينة، فيداخلنا الشك في أنها مصرية؟ ولكنا نرى بجانبها الآلة تدور، والصانع يعمل، والمنتوج يخرج كالمعروض في دقته وأناقته، فيستولي على المرء شعور قوى غريب، فيه الخجل من سوء الظن، وفيه اللذة من دهشة المفاجأة، وفيه الاقتناع بصحة النهضة، وفيه الاطمئنان على سلامة الوطن. هذا الإنتاج الفاخر هو الذي يقدمه إليك التاجر الأوربي في بيوت البيع الكبيرة بلسانه المعسول وغلافه المقبول وكلمته الواحدة وسِمَته المزورة، فتشتريه بالثمن الغالي على أنه وارد من البحر، قد تجشم اكلاف النقل، وتكلف رسوم الجمرك وتكبد أضرار الخسارة، وهو مصري اشتراه الأوربي بالغبن وباعه بالخديعة، وحرم الصانع المصري المسكين أجر العمل بسرقته القِيمة، ومجد الصنعة بسرقته النسبة. وعلة ذلك كله أن المنتج المصري قد جعل الكذب جزءاً من رأس المال، وأن المستهلك المصري قد جعل المساومة شطراً من الثمن، فكان لابد من هذا الوسيط الأجنبي بينهما ليستر بخداعه كذب المنتج، ويبطل بمهارته مساومة المستهلك!

معرض هذا العام قطعة من الفن العجيب عملت فيها يَدٌ صَاعٌ وفكرةٌ فنَّانة؛ فالوزارات والمصالح تتقدمها وزارة المعارف ووزارة الزراعة من جهة، والشركات والجمعيات تتزعمهما شركات بنك مصر والجمعية الزراعية من جهة أخرى، تضافرت كفاياتها وتسايرت رغباتها على تمثيل النشاط المصري هذا التمثيل الناطق الصادق المعبر، فلا تجد عملاً من أعمال اليد، ولا أثراً من آثار الذهن، إلا منظوماً بفن، ومعروضاً بذوق، ومشروحاً بخبرة، حتى أخلاق الموظفين والمنظمين والعارضين والمتفرجين - إذا استثنيت جزءاً من إدارة المعرض - تجري على هذا النسق البديع من الجمال والنظام والدقة! وسنقف بعد هذه النظرة الخاطفة والكلمة العجلى على كل قسم من أقسام المعرض فنستنبئه عن أمره، ونستكشفه عن سره، ثم نطالعك بما نلاحظ من أسبوع لأسبوع. . .

احمد حسن الزيات