مجلة الرسالة/العدد 139/القصص

مجلة الرسالة/العدد 139/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 03 - 1936



مأساة من اسخيلوس

ثار اورست

الدرامة الثانية من (الأورستية)

للأستاذ درينى خشبه

خلاصة الدرامة الأولى

(قدم أجاممنون، ملك آرجوس وقائد الحملة الهيلانية على طروادة، ابنته إفجينا قرباناً للسماء لتسكن العاصفة وليمخر أسطوله عباب الماء؛ فاحزن زوجته كليتمنسترا، وأم الفتاة لا تفكر إلا في ابنتها، وزادتها وحدتها في قصر البلوبيديه وحشة، وجعلت من حياتها قفراً مظلماً حتى اتصلت بابجستوس ابن عم أجاممنون الذي ذبحت اخوته وأطعم أبوهم لحمهم وهو لا يدري، ثم قتل هو أيضاً، وكل ذلك بتدبير أتريوس أبي أجاممنون. . . وهنا تجتمع الأحن وتتضافر الأحقاد، ثم تنقلب العلاقة إلى حب فعشق دنئ. . . فتآمر على قتل أجاممنون حين يعود من طروادة. . . ويعود أجاممنون ظافرا وتكون معه كاسندرا ابنة بريام ملك طروادة التي تتنبأ بمقتل الملك، وبمقتلها أيضاً بيد الملكة زوجها وبتدبير ايجستوس. . . وتخدع الملكة زوجها فيمشي على بساط الديباج الأحمر فتغضب الآلهة، لأن المشي على الديباج حق خالص من حقوقها. . ويقتل الملك وتقتل كاسندرا في أثره. . . ويستوي ايجستوس على عرش آبائه مشتركا مع كليتمنسترا في حكم آرجوس رغم سخط الشعب ولعنات الجماهير. . .)

- 1 -

قتل أجاممنون!

وخلص العرش لأيجستوس ولعشيقته الملكة الفاجرة , كليتمنسترا. ولكنه كان عرشاً شائكاً، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه اللعنة الأبدية، وسخط الأرباب وبغض العباد. . .

وكانت الأم الآثمة قد أبغضت كل ما يثير في قلبها ذكرى أجاممنون. . . وكيف لا تبغضه وها هي ذي حياتها تنقلب فتكون لذاذة خالصة، وهوى مجرماً، وغراماً تخامره شهوة التشفي، وتختلط بغمراته حمى الانتقام! إذن هي تبغضه، وهي تغلو في بغضه لأن عيونها في طروادة حملت إليها ما كان من غرامه الشديد بخريسيز إحدى سبايا الحرب، ثم ولعه الفائق بأختها بريسيز التي خاصم فيها أخيل؛ ولم يبال أن يهجر الميرميدون حلبة إليوم من أجلها. ولم يكن يحسبه هاتين، بل عاد من حومة الحرب فاقتحم القصر العتيق الشاهق بعربته المطهمة، وإلى جانبه خليلة ثالثة من خليلاته الكثيرات، هي هذه النبية المباركة البائسة. . . كاسندرا، ابنة بريام، وحميمة أبوللو في الزمن القديم!

أبغضته كليتمنسترا إذن، وأبغضت كل ما يثير ذكرياته في فؤادها. . . ولو كان أبناؤها الذين حملت بهم من صلبه! وهي تقسو وتقسو، وتغلو في قسوتها، حتى لتأمر بابنها الواحد أورست، وكان حدثاً لا يعرف من الدنيا إلا أن نصفها أبوه. . . ونصفها الآخر أمه. . . فيُنفى إلى أقصى الأرض، وليكون بمعزل عن هذه الحاشية الموبوءة التي قد تثير فيه نخوة الرجولة حين يشتد عوده وينضج قلبه، فلا يكون له هم إلا الأخذ بثأر أبيه، والفتك بقاتليه. . .

- 2 -

أما اخته، أما الِكْترَا، فقد بقيت في القصر لتشهد الفصل الأخير من المأساة. . . أو لتشهد كل الفصول الدامية التي تتركب منها المأساة! لقد بقيت على كره منها لنعيش عيشة الرقيق، وتحيا حياة الخدم، ولترى إلى أمها تتقلب بين ذراعي عاشقها وملء حضنه، ولتنعم على خرائب أسرة الأترديه، ولتبني على أنقاضها القصور والعلالي!

بقيت إلكترا لتبكي دائماً. . . ولتبكي دماً! يا للعذارى!! لقد كانت في ملاعب شبابها تحلم بمُلكٍ وبتاجٍ وبشعب يسجد تحت قدميها، وهي اليوم تتشهى الموت فلا تجد إليه سبيل!! لقد كانت بالأمس تمرح بين قلبين يغمرانها بالحب، وأبوين يلقيانها بالبشاشة، وهي اليوم لا عزاء لها إلا وقفة باكية بقبر أبيها المقتول، ووقفة تتصدع لها جوانب نفسها عند مخدع أمها العاشقة. . . الفاسقة. . . وهل في إحدى الوقفتين عزاء؟!

بقيت الكترا ترقب رسول السماء الذي يأخذ بثار أبيها،، وبقيت لتكون رائد هذا الرسول يوم يجيء. ولم يكن لها من ولي ولا حبيب في هذا القصر الشاهق العتيق إلا هذه العجوز الشمطاء الطيبة، مرضعة أورست، التي بكت أحر البكاء وآلمه وأوجعه يوم أخذوا منها ولدها - كما كانت تدعوه - ليُنفى في أقصى الأرض

لقد كانت هذه العجوز الشمطاء امرأة ثاقبة الفكر، رحبة الصدر، شديدة الإيمان في السماء! فكانت تواسي الكترا وتأسو جراحاتها، وتمنيها الأماني، وتزخرف لها الأمل، وتذكر لها أن عين سيد الأولمب الساهرة لن تغفل عن لؤماء قصر آل (بيلوبيديه) وإنها ترعى فتى القصر في منفاه، حتى إذا آنست فيه استواء أرسلته كالصاعقة على المجرمين؛ فنقض بنيانهم، وزلزل أركانهم، وانتقم لأجاممنون!

وكان قاهر طروادة قد جلب معه غير كاسندرا عدداً وافراً من السبايا الطرواديات، فاستطاعت المرضعة العاقلة، المحنكة، أن تجعل منهن جندا لها، وحاشية مخلصة لفتاتها المعذبة، يخففن من برحائها، ويكن لها أهلاً كلما عزها الأهل

ومضت سنوات عشر فسقطت طروادة

ومضت سنوات عشر بعد مقتل أجاممنون

واشتد ساعد أورست، وعاد ليبطش بالقتلة السفاكين وبدأت المأساة الثانية

- 3 -

لمن هذه الأشباح السادرة التي تهرول بين المقابر مُهطِعة إلى رمس أجاممنون؟

إنها تختلط بغبشة السباح وتمتزج صُعداؤها بأنفاسه، وإنها لتضمر في قلوبها لظى ينعكس في ذاك الشفق الذي يضطرم به الشرق. . . حيث يسبح البنفسج في حمرة الدم!!

آه! أنه شاب غرانق، سمهري، مجلل بالسواد يجثو فوق الثرى. . . يبكي ويصلي!! وإن بالقرب منه لصديقاً ينتظره. . . ويذرف دموعه من أجله. . . فيا للمودة في الرزء، ويا للإخلاص في الشدائد!! اسمع إلى الشاب المحزون: يخاطب تمثال هرمز النصفي المنتصب فوق القبور، ثم يكلم من بالقبور:

- (يا هرمز اللطيف، يا إله الأرواح وحاديها إلى هيدز، أيها الساهر على هذه المقبرة وعلى كل مقبرة. . . العوْن العوْن!)

ويضع خصلتين من الشعر على قبر أبيه، ويقول: (هأنذا أضع خصلة من الشعر هنا تحية لأيناخوس الذي رويت بمائه، وترعرعت على شطئانه. . . وأخرى تحية للموتى. . . يا رحمتا لك يا أبي! هكذا شاءت قسوة المقادير ألا أكون قريباً منك فأذرف عبرتي الطاهرة فوق ثراك، وأروي الصفاح المركوم فوق جثمانك بالغيث الغزير الذي أرسلته من أجلك في دار غربتي!)

- 4 -

ويقلّب وجهه في بنفسج الشرق المموّه بالقرمز، فيلمح نسوة يتعثرن في سبيلهن بين المقابر، ميممات شطر قبر أبيه! فيوجس في نفسه خيفة، ويحسب أن جديداً من نكد الحياة قد ألم بالبقية الباقية من دم أجاممنون في الـ (بيلوبيديه!)

ولكنه سرعان ما يعرف بينهن أخته! أخته بعينها! هي! هي الكتر! وهي تحمل كالأخريات زِقاً صغيراً وتقبل قُدُماً إلى المقبرة. . .

- (لم أقبلن إذن في هذه البكرة المقرورة؟ يا لله! العون يا سيد الأولمب! صديقي بيلاديز! هلم نختبئ لنرى!)

ويختبئ أورست وصديقه بيلاديز، وتقبل النسوة في إثر الكترا الواهية التي حطم قلبها الحزن، وأوهن جسمها الأسى. . . ويأخذن في نشيد باك يتفجر في موسيقاه الدم. . . ويمتزج شجوه بالدموع. . . ويشرن إلى القبور وبينها هذا القبر، ثم يتلفتن فيرين القصور النائية وفوقها هذا القصر!. . . فيرثين لآرجوس ويرثين للفتاة المحزونة الواقفة بينهن. . . ويصلن ترنيمتهن. . . فيذكرن نأيهن الذي شط واستطال عن الأوطان ويذكرن هذه الشباك المحكمة من الجواسيس والعسس المنشرة فوق آرجوس، تلتقط الأبرياء والمظلومين ليروي من دمائهم إيجستوس، ولنجهز من شبابهم النضر ضحايا لفسق الملكة!. . .

وتتكلم الكترا، بعد أن تذرف عبرة أو عبرتين، فتستثير المنشدات فيما أمرتها أمها الآثمة أن تفعل بزقاق الخمر. . . في هذا المكان القفر. . . إلا من الذكريات!

- (إذا صببت قرباني الخمري، فماذا أقول؟ هل أقول (قربانا يا أبي، من زوجتك التي سفكت دمك غير راحمة، نُشْداناً للذة، وحرصاً مجرماً للهوى؟) أم أقول (لتهدئي يا رفات! ولترضيْ بالغدْرة الكبرى التي دبرت لك، فلا تنتفضي تحت أطباق الثرى لترسلي الويل على الظالمين؟)، أم أصبها وألقي الرقاق ثم أنثني كأن ليس بي من ذلك النائم حزن مقيم ووجد دفين!) تكلمن بحق مودتي عليكن، فنحن في الهم شركاء، ولا تحبسن محض النصح عن فتاتكن، ولا تخشين في البلاط الدنس أحداً، فالأقدار قد شاءت أن تبسط كفها القاسية في هذه المأساة على رقاب السادة وأعناق العبيد، حتى يكونوا سواسية. . .)

- حُبّاً يا أميرة وطواعية. . . إن قبر أبيك يفرض علينا النصح لك)

- (إذن. . .!!)

- (إذن فاضرعي أن يسمع الأصدقاء لصلاتك، وتصغي قلوبهم لتوسلاتك!)

(الأصدقاء؟! أي أصدقاء يعنيهم ما أصلي وما أتوسل؟)

- (أنت، وذلك النائي عن هذا الديار!)

- (من تعنين بحق الآلهة عليكن؟)

- (أورست!! أخاك يا أميرة!! صلي من أجله واظرعي للآلهة أن تسعفك به!)

- (آه! للآهة دَرُّكنَّ إذن!)

- (ثم فكري في هذا الدم المسفوك، وفي أصحابه الأشرار الفجرة!)

- (وكيف؟. . . . . . . . .)

- (قد ترسل الآلهة نقمتها. . .)

- (ولمه! وعلى رأس من؟)

- (على رؤوس المجرمين!)

(ويلاه! المجرمين؟! ومن هم المجرمون؟. . . يا سماء!. . . يا سيد الأولمب! رحماك يا إلهي! اللهم أرع أخي يثأر لأبي. . . من. . . ممن يا عذارى إليوم؟! ممن؟ آه يا روح أبي! رفرفي في سماواتك! وانتفضي في هيدز! وتعالي فأرسلي أورست يثأر لك!)

وتترنم المنشدات، وتأخذ السكترا في صب الخمر

- (يا للآهة! ماذا أجد؟ خصلتان من الشعر؟)

- (خصلتان من الشعر؟ من رأس من يا ترى؟)

وتضع الشعر عند رأسها فيبدو الشبه كبيراً، فتنزعج. . .

- (ماذا بك؟ فيم تمنقعين هكذا؟. . .)

- (إنهما من رأسه!. . . من رأسه هو! من رأس أخي؟)

- (ربما يا أميرة! ولكن! كيف جازف بنفسه في هذه البرية الوحشة؟ من أرسله؟) وتنظر السكترا حول المقبرة فترى آثار أقدام. . .

- (وما هذا أيضاً؟. . . آثار أقدام!. . . لا ريب إذن! أنها آثاره يا عذارى! ولكن!!. . . إنها آثار رجلين لا رجل واحد!. . . آه. . . قد يكون صديقاً. . . يا سماء!. . .)

ثم يظهر أورست فجأة، ويقول:

- (إذن! قد سمعت السماء صلاتك!

فتنزعج السكترا، وتدهش المنشدات. . .

- (من!! من الرجل؟. . .

- (أنا؟ أنا هو؟. . . أنا من كنت تهتفين باسمه الآن!)

- (أوه! أتخدعنا يا صاح؟ اذهب! وحسبنا ما نحن فيه!)

- (أخدعك؟ إذن اخدع نفسي!

- (سخرية. . . اذهب، اذهب!)

- (سخرية. ز.؟ بمن؟ بى؟. . . اسخر بنفسى؟)

- (أفأنت هو حقاً؟. . .

- (. . .؟؟. . .)

ويبكي أورست!

- (. . .؟ أورست؟ أخي؟)

- (. . . أفي مرية أنت؟ السكترا؟. . . خذي هذا الشعر؟ أيضاً. . . خذي! هاتى رأسك وانظري!. . . . . . ولكن انظري أيضاً! أليس هذا هو الجلباب نفسه الذي خاطته يداك؟ إنه هو. . . اللحمة والسدى!! والصور المطرّزة!. . . لا. . . لا. . . لا يقتلك فرحك! ليس لنا الآن أن نفرح بهذا اللقاء المفاجئ بين يدي ذلك القبر المنفرد! إن لنا لساعة!. . . اكبحي جماحك، وهيمني على فؤادك! فلنا أعداء. . . وهم أقرب الناس إلينا. . .)

- 5 -

ولم يكذب أورست، فلقد كاد الفرح يقتل السكترا؟ إنها لم تره منذ عشرين سنة؟ ثم. . . أليس هو الآن بين يديها بعد طول انتظار. . . وأحلام. . . وأماني؟. . . أولم تكن هذه اللحظة فقط، تصلي للسماء، وتضرع للآلهة، أن ترسل لها أورست؟ اليست السماء قد صغت، والآلهة قد استجابت؟

لقد كانت أمها رأت في نومها حلماً مزعجاً ممضاً. . . رأت أنها تلد أفعى هائلة، ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! إن الملكة تنتفض من نومها مذهولةً مروعة!. . . وإنها لتذكر أجاممنون فجأة. . . تذكره بعد عشرين سنة! وتذكر أورست المنفي بأمرها في أقصى الأرض! وإنها لتهب من السرير الديباجي الوثير. . . وتنثر ذراعي إيجستوس الجبارتين الملفوفتين حول خصرها!. . . وإنها لتنطلق في القصر مذعورة في أبهائه. . . إلى. . . بهو العبيد والخدم. . . بهو العذارى الطرواديات، حيث تنام إلكترا على فراش من الشوك، تفكر في عشرين سنة مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . .

وإن الملكة لتوقظها من أحلامها، وتأمرها، وسائر الطرواديات، فينطلقن إلى المقابر بزقاق الخمر، يسقين الثرى، ويقربن إلى أجاممنون. . . ويرضين روحه الغضبى!!

ولكن، ولكن الصلاة تنقلب، والقربان يصعد إلى السماء فيغضب الآلهة، فترسل أورست، ويتحقق الحلم الأسود. . . . الأفعى! الأفعى ذات الأنياب، يتدفق منها السم الزعاف!!

ويصليان لزيوس صلاة حارة، ويضرعان إليه أن يكون معهما فيما قادمان عليه من ذلك الهول الأكبر. . . فإذا ارتفع صوتهما، وعلا جُؤارُهما، تقدمت رئيسة المنشدات فابتهلت إليهما أن يتكلما همساً - (فقد تسمعكما أُذن شر فيفشل سعيكما وتذهب ريحكما، ولا تقوم لكما قائمة من بعد!) فيطمئنها أورست - (ليفرخ روعك أيتها السيدة الصالحة! فلقد أرسلني أبولو لآخذ بثأر أبي، فإن لم أفعل، فليجمد دمي حتى يكون كالثلج في عروقي! لا بد أن يشربا بالكأس التي أفرغاها في فم هذا الثاوي هنا. . . يتطلع إلى ما يفعل له أبناءه، وآخر أثاره منه في هذه الحياة!)

ويتقدم الفتى والفتاة فيصليان على قبر أبيهما صلاة حارة، ثم يعطيانه موثقاً صادقاً أن يثأرا له، ولو كلفهما الأثآر له هذه الصبابات من الدم التي أبقى عليها الأسى في عروقهما

ويلتمسان منه العون، ويضرعان إلى السماء أن تكون معهما، والى الآلهة أن تسدد خطاهما

(البقية في العدد القادم)

دريني خشبة