مجلة الرسالة/العدد 14/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

مجلة الرسالة/العدد 14/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام

مجلة الرسالة - العدد 14
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1933



للأستاذ محمد عبد الله عنان

3

وأخفق مشروع الخلافة في فتح الغرب من تلك الناحية ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام سور بيزطية وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصنا منيعا يحمي النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب من طريق إسبانيا وأشرفت من هضاب البرنية على باقي أمم أوروبا النصرانية ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء لاستطاع موسى ابن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من المشرق إلى المغرب والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية ضربتها القاضية يومئذ وأن يسود السلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب ولكن الفكرة قبرت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها.

على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية، فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق؛ وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها؛ ولكنها امتدت منذ ولاية السمح إلى اكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية بورجونيا وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وبهذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قويا ساطعا؛ وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم الذي يجب أن يتأهب لخوضه الفرنج والنصرانية كلها.

كانت المعركة في سهول فرنسا أذن بين الإسلام والنصرانية. بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية والمتنافسين في اجتثاء تراثها؛. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب؛ وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس. والفرنج هم شعبة من أولئك البربر الذين غزوا رومة وتقاسموا تراثها من (واندال وقوط والان وشوابيين). فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا اكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثراً. إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع؛ الذي فاز العرب منه بأكبر غنم ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال.

وكانت هذه السهول الشمالية التي قدر لها أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية تضم مجتمعا متنافرا لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت الرين وقضت على سلطان روما في الأراضي المفتوحة كانت مزيجا مضطربا من الغزاة الظمأى إلى تراث روما من الثروة والنعماء.

وكان القوط قد احتاجوا شمال إيطاليا منذ القرن الخامس وحلوا في جنوب غاليس وإسبانيا؛ ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره وانتزعوا نصفها الجنوبي من القوط وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها ويقتسمون السلطة في نوع من الاقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية. ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة ولم يعنوا بالأخص أن يندمجوا برعاياهم الجدد، فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغليين الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها. ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة وتكون وحدها مجتمعا منعزلا لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقابا قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عصر كلوفيس أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة؛ وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء بعد طول المغامرة والتجول وشظف العيش وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحيوية وفتور شغفها بالغزو واذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرين تحت لواء الفرنج واستقرت في غالا قد تطورت في أوائل القرن الثامن إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت وهيأت الأسباب والعوامل لنشوء الامة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك كان وقت أن نفذ العرب الى فرنسا فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما بينا وكانت اكوتين وباقي فرنسا الجنوبية في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية فيما وراء الرين من جهة أخرى تحاول اقتحام النهر من آن لآخر وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين أونة وأخرى لدرء هذا الخطر ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضا عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها.

هكذا كانت مملكة الفرنج والمجتمع الفرنجي في أوائل القرن الثامن أعني حينما نفذ تيار الفتح الإسلامي من أسبانيا الى جنوب فرنسا. وكان قد قضى منذ وفاة النبي العربي الى عهد هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية (سنة 732م) مائة عام فقط، ولكن العرب كانوا خلال القرن قد افتتحوا جميع الأمم الواقعة بين السند شرقا والمحيط غربا واكتسحوا العالم القديم في وابل مدهش من الظفر الباهر، واستولوا على جميع أقطار الدولة الرومانية الجنوبية من الشام الى أقاصي المغرب وأسبانيا، وعبروا البرنيه الى أواسط فرنسا. هذا بينما أنفقت القبائل الجرمانية الشمالية أكثر من ثلاثة قرون في افتتاح أقطار الدولة الشمالية ومحاولة الاستقرار فيها.