مجلة الرسالة/العدد 140/الحياة الأدبية في بغداد

مجلة الرسالة/العدد 140/الحياة الأدبية في بغداد

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1936



بقلم الأستاذ عبد الوهاب الأمين

تمهيد:

ذكرني مقال الأستاذ (علي الطنطاوي) عن الحياة الأدبية في دمشق بحياتنا الأدبية في بغداد، وحبب لي العزم على دخول المضمار، وأغراني بالبحث عن التراث الأدبي الذي خلفته عصور الذهب وعصور الزوان لعاصمة الرشيد!

وليس جديداً عندي مثل هذا البحث فقد كنت أردده في فرص عديدة سابقة، ولكن صدى هذه البحوث لم يكن يبلغ الآذان؛ أما الآن فقد رغبت أن يكون ذلك في (الرسالة) الغراء، وهي المجلة المقروءة في كل قطر عربي، رغبة مني في إطلاع إخواننا في بقية الأقطار على أن سوء الحال لا يمكن أن يبلغ بالأدب ما بلغه في بغداد!

قبل عشر سنوات

لو أتيح للقارئ الكريم أن يتصفح الصحف والمجلات قبل عشر سنين لما فاته أن يلحظ فيها طيف اليقظة الأدبية وهي في مهدها، ولرأى من كثرة ما ينشر في الصحف حينذاك من الشعر على الأخص، ومن بقية الفنون الأدبية، وإن كانت بصورة بدائية، روحاً أدبياً يبشر بمستقبل لا بأس به، ولكان في وسعه أن يتجوز في تسمية تلك الحركة نهضة أدبية قد يأتي عليها زمن تصل فيه إلى النضوج فتؤتي أكلها أدباً جديداً وأدباء مبدعين!

غير أن حقيقة الواقع ليست كذلك! فها نحن أولاء الآن قد خسرنا حتى تلك الحركة البدائية البسيطة؛ وقد ماتت كل المحاولات التي كان القصد منها بعث الروح في الأدب العراقي في كل مناسبة عرض لها بعض الذين خيل إليهم أن في العراق تربة صالحة لمثل تلك المحاولات

وقد اشترك كاتب هذه السطور وساهم في إنشاء بعض الصحف ا [لأدبية فكانت تُغتضَر الواحدة منها تلو الأخرى، فلما يئس وانزوى وترك العمل أخذ بعضهم يلومه، وزاد اللوم في بعض الأحيان حتى بلغ التعنيف! كأن من واجب الأديب أن يستقل بالتضحية وحده، فإن أحجم أو قصر أو تردد فقد أجرم! وقد كان سبب ذلك الهمود والموت الأدبي في جميع الحالات واحداً لم يتغير ولم يتأثر بتطورات الزمن. فكأن هذا النبات لم يخرج من هذه الأرض، وكأن في طبيعة كليهما ما ينفره من الآخر

فما هي علة هذه الرجعية؟

جناية السياسة والصحافة على الأدب

لست أقصد بالسياسة العمل السياسي، فان ذلك خارج عن بحثي كما أنه خارج عن صلاحيتي! وإنما أقصد أولئك الأشخاص الذين بدءوا حياتهم أدباء ثم انقلبوا سياسيين، ومقدار ما في هذا العمل من الجناية على الأدب! وبعبارة أدل: أولئك الأشخاص ذوي الأطماع السياسية الذين لم تمكنهم شخصياتهم من الخوض في غمار السياسة رأسا، فقدموا لأطماعهم بالاشتغال في الأدب واضعين تلك الغاية نصب أعينهم، فلما ظهرت أسماؤهم على الأفواه تركوا الأدب وانصرفوا إلى السياسة!

هؤلاء أساءوا إلى الأدب أولاً وإلى السياسة ثانياً. . . أساءوا إلى الأدب لأنهم لم يخصوه بنشاطهم ورغبتهم وإنما جعلوه مطية لأطماعهم، وأساءوا إلى السياسة لأنهم جعلوا فيها هذه السابقة

ومن هنا يتبين السبب في تلك النهضة التي حسبنها (أصلية) وما كانت في الحقيقة إلا وسيلة بعض المرتزقين من حملة القلم؛ ولو رجعنا إلى الأسماء التي كانت تذيل بها قصائد الصحف والمجلات قبل عشر سنين، ومقالات ذلك العهد ومحاضراته، لوجدناها من أضخم الأسماء وأعلاها في عالم الوظيفة والسياسة الآن

وقد جرى ذلك على الصحف اليومية، فإن كل صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصه بأكبر عناية، فأصبحت كل الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلا في الأسبوع أو الأسبوعين مرة!

وقد كانت جريدة (البلاد) - وهي كبرى جرائد العاصمة - في أول مبدئها تخص (الأدب) بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم وتدعو لأدبهم، وكانت وقتذاك تصدر في ست صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى ثمان فقد تركت الأدب مرة واحدة، ولم تعد تنشر شيئاً منه إلا في بعض المناسبات القاهرة وكذلك قل في الصحف الباقية اليومية منها والأسبوعية، فانك لن تجد فيها إلا ما هو أقرب إلى الأدب السياسي في بعض الأحيان منه إلى الأدب الخالص

ومما يؤلم ويستفز النفس أن الصحف في العراق لا تتكبد في نشر الأدب شيئاً مادياً، بل كل ما ينشر فيها تقريباً (أدب تبرع) وليس أدباً مأجوراً، وهو بذلك أقوم وأفيد بطبيعة الحال من ذلك الأدب الذي تستنطقه المادة، ولكن أصحاب الصحف (الأدباء) لا يكلفون أنفسهم عناء الاستكتاب، بل قد وصل الأمر بهم إلى الاقتصار على الأخبار والأمور السياسية وإهمال الناحية الأدبية بالمرة!

وهذا ما يثبط عزم الأديب العراقي، ويفت في عضده ويكسر من خياله وهمته، فهو لا يخسر التشجيع والتعضيد فقط، بل عليه أن يجتاز الصحافة اجتيازاً، وفي ذلك ما فيه من المغامرة والخسران، فإن من البديهي أن مهمة الصحافة هي التمهيد للأدب والدعوة له وتقديمه، لا الوقوف في وجهه وتثبيط عمله بطريق غير مباشر!

المؤلف والناشر

أكثر ما ينشر في بغداد بل كله كتب مدرسية غير مستكملة حتى الشروط المطلوبة في مثل هذه الكتب، وأكثرها مترجم ومقتطع من الكتب الغربية، وهي تبدل حسب مناهج التعليم كل سنة، وفي بعض الأحيان في أقل من السنة! ولو استثنينا بضعة كراريس في المسجلات الأدبية كالسهام المتقابلة، وبضعة أقاصيص ابتدائية للأستاذ محمود أحمد، كمصير الضعفاء وما إليها، فلن نجد كتاباً أدبياً نشر في السنين الأخيرة غير لب الألباب للسهروردي، والمجمل في الأدب العربي لمحمد بهجة الأثري، وتاريخ العراق بين احتلالين لعباس العزاوي!

هذا كل ما هنالك!

وفي هذا كل معاني الفقر! وإنه ليجرح عزة هذه الأمة وكرامتها أن تقفر هذا الإقفار من الأدب الذي هو قوام الحياة، وإنه لأقطع دليل على أن هذه الخلائق لم تستوف ضرورات الحياة، ولم تصل بعد إلى إدراك معانيها وتشوفها، وأنهم - بأدبهم - يعيشون كَلاَّ على غيرهم!

فليس هناك إذن لا (مؤلف) ولا (ناشر)، وإن وجد أحدهما فليس بينه وبين الثاني تفاهم، وإن وجد كلاهما فانهما يكونان وقتئذ أقرب إلى المرابين منهما إلى المشتغلين بالمعنويات والخدمة العامة

والمطبعة العراقية فقيرة إلى حد مزر، فهي لا تزال على نمط المطابع قبل عشربن سنة؛ وهناك جريدة يومية كانت تطبع بمطبعة تدار باليد إلى زمن قريب؛ وليس هناك من نوع اللينو تايب غير واحدة في مطبعة الحكومة! وبالطبع ليس هناك (روتغراف) أو شبهه! ومن هنا نعرف سبب إقبال القارئ العراقي على الجرائد المصرية المصورة، إذ ليس في العراق جريدة أو مجلة مصورة!

القارئ

يتذمر أصحاب الصحف من مشكلة (القراءة) وهي أن باعة الصحف يتفقون وبعض القراء على السماح لهم بتصفح جميع الصحف اليومية لقاء أجر زهيد يستعيضون به عن شرائها، وأن الصحفيين بهذا (الداء) كما يسمونه يلقون أشد العنت والإرهاق والعسر في تحسين صحافتهم! ولا أكذب القارئ أني شهدت مرات عديدة قسما من المشتغلين بالصحافة اليومية يتبعون هذه الطريقة سراً وجهراً، وذلك لأنهم يجدون من الصعب منح الصحيفة العراقية ثمنها لأنها في الحقيقة لا تساويه! وهذا إقرار مزر لا يجد الإنسان معه إلا الوقوف مكتوف اليد!

وليس من الحق لوم القارئ العراقي وحده، فان هذا الشخص الذي لا يسخو على صحيفته بثمنها يبذر في شراء الصحف المصرية اليومية منها والأسبوعية والشهرية تبذيراً، فهو يشتري الصحيفة المصرية اليومية بضعف ثمن الصحيفة العراقية! ولا يبخل على المجلة المصرية بثمن عددها الذي قد يبلغ في بعض الأحيان ثمن اشتراك نصف سنة في مجلة عراقية!

فالجلي من هذا أن القارئ العراقي لا يضمر العداء لصحيفته، وأن الأديب العراقي لا يحجم عن تغذيتها، بل السبب في كل ذلك هو شيء من سوء التفاهم القائم على إهمال مصلحتيهما. فالصحفي يريد التشجيع بدون مقابل، والقارئ يريد التحسين بدون مقابل، وكلاهما لا يحرك ساكناً في دفع هذا (المقابل)

خلاصة إذن فالأدب على أسوأ أحواله في بلاد الرافدين؛ وبغداد التي كانت في وقت مضى منبع الحكمة والأدب والشعر تنتظر بريد الأسبوع لتتلقف الصحف المصرية تلقفاً، وتغذي حاجتها من الأدب المصري، حتى لقد يعلم القارئ العراقي عن أحوال مصر الداخلية والخارجية وعن شخصيتها الكبيرة ما لا يعلمه عن أمور العراق الداخلية وما يتصل بمعاشه وحياته! وحتى بلغ الأمر بنا أن تعودنا الإطلاع على ما يخص العراق من مصادر خارجية، كأن ليس في البلد صحافة وصحفيون، وكأنه لا يعيش لأهله، ولا يعيش أهله له!

فإن كان الأستاذ (علي الطنطاوي) قد همه ألا تكون في (دمشق) حياة أدبية، فلست أجدني إلا مضطراً زيادة همه! فإننا في بغداد ننظر إلى دمشق بعين التطلع، وننتظر أن يصلنا منها ما يروي أرواحنا العطشى إلى الأدب! وإن كان حضرته ينعى عليها هذا الخلو والإقفار، فماذا سيقول عن عاصمة الرشيد؟

لو كان الوقت والمجال يسمحان بالتبسط في شرح بعض الأمور التي تتعلق بالحياة الأدبية في بغداد، كما نسمي هذا الموت تجوزاً بالحياة، لأطلعت القارئ على أحوال منه قد لا تسره، ولكني لا أكون بذلك إلا كالكاشف عن جيفة! فشكراً لضيق الوقت والمجال على حسن صنيعهما!

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين