مجلة الرسالة/العدد 144/عشر كلمات

مجلة الرسالة/العدد 144/عشر كلمات

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 04 - 1936



مهداة إلى (الأستاذ الزيات)

للأستاذ علي الطنطاوي

- 1 -

قال الله تعالى: (يا أيها الّذينَ آمنوا اصبروا وصابروا) (ولنَبْلُوَنّكم بشيء من الخوفِ والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين). (ولنَبْلونكم حتى نعلَم المجاهدين منكم والصابرين). (واستعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين) (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

- 2 -

قال أبو سنان: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما فرغت قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله : إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة وسموه بيت الحمد

وعن أنس قال: اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج ولم يعلم، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح؛ فظنّ أبو طلحة أنها صادقة، ثم قربت له العشاء، ووطّأت له الفراش، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته بموت الغلام، فصلى مع النبي ثم أخبره، فقال: لعّله أن يبارك لكما في ليلتكما، فجاءهما تسعة أولاد كلهم قرءوا القرآن

- 3 -

قال محمد بن خلف: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة، قد حفظ القرآن، ولقنه من الفقه شيئاً كثيراً، فمات، فجئت أعزيه، فقال لي: كنت اشتهي موته. فقلت: يا أبا اسحق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبيّ قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم القلال فيها الماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكأن اليوم حار شديد حره، فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إليّ فقال: لا، ليس أنت أبي، فقلت: فأيش أنتم؟ قال: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء، فلهذا تمنيت موته

- 4 -

كتب سعيد بن حميد إلى محمد بن عبد الله: ليس المعزّى على سلوك السبيل التي سلكها الناس من قبله، والمضيّ على السنة التي سنها صالحوا السلف له، وقد بلغني ما حدث من قضاء الله في أم الأمير، فنالني من ألم الرزية، وفاجع المصيبة ما ينال خدمه الذين يخصهم ما خصه من النعم، ويتصرفون معه فيما تناوله الله به من المحن، فأعظم الله للأمير الأجر، واجزل له المثوبة والذخر، ولا أراه في نعمة عنده نقصاً، ووفقه عند النعم للشكر الموجب للمزيد، وعند المحن للصبر المحرز للثواب، إنه هو الكريم الوهاب، ورحم الله الماضية رحمة من رضى سعيه، وجازاه بأحسن عمله، ولو كانت السبل إلى الشخوص إلى باب الأمير سهلة، لكان الله قد أجلّ الأمير عن أن يعزيه مثلي بالرسول دون اللقاء، وبالكتاب دون الشفاه؛ ولكن الكتاب لقاء من لا سبيل له إلى الحركة، وقبول العذر عمن حيل بينه وبين الواجب

- 5 -

لما حضرت الإسكندر الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعاماً ويحضره الناس، ثم تقدمي إليهم ألا يأكل منه محزون، ففعلت، فلم يبسط أحد إليه يده، فقالت: مالكم لا تأكلون؟ فقالوا: إنك تقدمت إلينا ألا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من أصيب بحميم أو قريب. فقالت: مات والله أبني، وما أوصى إليّ بهذا إلا ليعزيني

- 6 -

كتب ابن السماك إلى الرشيد يعزيه عن ابن له: أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك لله حين قبضه، أكثر من شكرك له حين وهبه فافعل، فإنه حين قبضه أحرز لك هبته، ولو سلم لم تسلم من فتنته، أرأيت حزنك على ذهابه، وتلهفك لفراقه؟ أرضيت الدار لنفسك فترضاها لأبيك؟ أما هو فقد خلص من الكدر، وبقيت أنت معلقاً بالخطر؛ واعلم أن المصيبة مصيبتان إن جزعت، وإنما هي واحدة إن صبرت، فلا تجمع الأمرين على نفسك

- 7 -

قدم رجل من عبس، ضرير محطوم الوجه على الوليد، فسأله عن سبب ضرّه، فقال بت ليلة في بطن واد ولا أعلم على الأرض عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فأذهب ما كان لي من أهل ومال وولد، إلا صبياً رضيعاً، وبعيراً صعباً، فنذّ البعير والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير لأحبسه، فما جاوزت إلا ورأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته واتبعت البعير فاستدار ورمحني رمحة حطم بها وجهي، وأذهب عيني. فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد

فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه، وكان عروة بن الزبير أصيب بابن له وأصابه الداء الخبيث في إحدى رجليه فقطعها، فكان يقول: كانوا أربعة - يعني بنيه - فأبقيت ثلاثة وأخذت واحداً، وكن أربعاً - يعني يديه ورجليه - فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثة؛ أحمدك، لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت أبقيت لقد عافيت. وشخص إلى المدينة فأتاه الناس يبكون ويتوجعون، فقال: إن كنتم تعدونني للسباق والصراع فقد أودى، وإن كنتم تعدونني للسان والجاه فقد أبقى الله خيراً كثيراً. .

- 8 -

وعزى موسى بن المهدي سليمان بن أبي جعفر عن ابن له فقال: أيسرك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة؟

وعزّى سهل بن هارون فقال: التهنئة على آجل الثواب، أولى من التعزية على ما حلّ من المصيبة

وقال عبد الله بن الأهتم: مات لي ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعاً شديداً، فدخل عليّ ابن جُريج يعزيني، فقال يا أبا محمد، اسلُ صبرا واحتساباً، قبل أن تسلو غفلة ونسياناً

وعزّى عليّ كرم الله وجهه الأشعث عن ابنه، فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفاً من كل هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت آثم

- 9 -

جزع رجل على ابن له فشكى ذلك إلى الحسن، فقال له: هل كان أبنك يغيب عنك؟ قال: نعم، كان مغيبه عني أكثر من حضوره. قال: فاتركه غائباً، فإنه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه الغيبة

- 10 -

وكتب بعض الكتاب معزياً: لو كان يمسك من أذى يشترى أو يفتدى، رجوت أن أكون غير باخل بما تضن به النفوس، وأن أكون سترا بينك وبين كل ملم ومحذور، فأعظم الله أجرك، وأجزل ذخرك، ولا خذل صبرك، ولا جعل للشيطان حظا فيك ولا سبيلا عليك

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

علي الطنطاوي