مجلة الرسالة/العدد 145/اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات

مجلة الرسالة/العدد 145/اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1936


الاستقلال

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحيُّ المكتنُّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصورُ عليه في تركيبه؛ كعصير الشجرة لا يُرى عمله والشجرة كلها هي عمله

وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في الاختلاف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بازاء غيرها قانون التناصر والحميَّة؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوازع متآزرة، فتجتمع الأمة كلها على الرأي: تتساند له بقواها، ويشد بعضها بعضاً فيه. وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها

والخلق القومي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه، إذ يعمل في الحيِّز الباطن من وراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرِّفاً لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وضعُ الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم

أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة. والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها؛ وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل؛ وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها، فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه في المستعبدين لزوم الكلمة والكلمات القليلة

وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مك شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه. فأما إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابعٌ لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئٌ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان

لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحوّلُ إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده. فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء

وما ذلَّت لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً؛ وأما الثالث فتقييدُ مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع

والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قِبَل الدين أو القومية. فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرءون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهةٌ للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم؛ فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي؛ ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام، وقد يكون الوطني مثله أو أجمل منه بيد أنه فقد الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته لا تميزه

وأعجبُ من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمِّي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذلة. . . وما ذاك إلا صِغَر نفوسهم وذلتها، إذ لا ينتخون لقوميتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي

والشرق مبتلى بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعاً إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا نحن الشرقيين بهذا، لكان هذا وحده علاجاً حاسماً لأكثر مشاكلنا

فاللغات تتنازع القومية، ولَهيَ والله احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه

أما إذا قويت العصبية، وعزت اللغة، وثارت لها الحّميّة؛ فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يُرتَفَق بها، ويرجع شبر الأجنبي شبرا لا متراً. . . . وتكون تلك العصبية للغة القومية مادةً وعوناً لكل ما هو قومي؛ فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة، هي قوة الإيمان بالمجد الوطني واستقلال الوطن؛ ومتى تعين الأول أنه الأول، فكل قوى الوجود لا تجعل الذي بعده شيئاً إلا أنه الثاني

والدين هو حقيقة الخلق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب

ولهذا كان الدين من أقوى الوسائل التي يعول عليها في إيقاظ ضمير الأمة، وتنبيه روحها، واهتياج خيالها؛ إذ فيه أعظمُ السلطة التي لها وحدها قوة الغلبة على الماديات. فسلطان الدين هو سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوى هذا السلطان في شعب، كان حمياً أبيّاً، لا ترغمه قوة، ولا يعنو للقهر

ولولا التدين بالشريعة، لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين، لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة، وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعل ذلك كله نظاماً مستقراً فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائماً نحو الأكمل

وكل أمة ضعف الدينُ فيها، اختلت هندستها الاجتماعية، وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة في هذه الأرض؛ وذلك لتنظيم الغايات الأرضية في الناس؛ فلا يأكل بعضهم بعضا، فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرَّة، وثواب الأسفل في أن يصير على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح والخير، والتعاون على البر والتقوى

ومادام عمل الدين هو تكوين الخلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبي على الذل، الكافر بالاستعباد، المؤمن بالموت في المدافعة عن حوزته، المجْزِيّ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس - مادام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق - فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفس الأمة وانطبعت عليه

وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تَشْرُف وتسود وتعتز، يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل

وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس، يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له؛ إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله، الثبات على النزعة السياسية، والصلابة في الحق، والإيمان بمجد العمل، وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه: من مال، أو جاه، أو منصب، أو موافقة الهوى، أو خشية النقمة، أو خوف الوعيد، إلى غيرها من كل ما يستميل به الباطل أو يرهب به الظلم

ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن، القوي الإيمان، الممتلئ ثقة ويقيناً ووفاءً وصدقاً وعزماً وإصراراً على فضيلته وثباتاً على ما يلقي في سبيلها - لا يكون رجلاً كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته وغايته السامية لا تنفصل عنه، هو رجلُ صِدْقِ المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر

والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب؛ تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون ديناً ضيقاً خاصاً به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعاً بمذهب واحد: هو إجلال الماضي

وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي، هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه، وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظائمهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه

والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئاً نفسياً حقيقياً؛ حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة. وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك هناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا

وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر

ومتى صدقت الوطنية في النفس، أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني

وباللغة والدين والعادات، ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها؛ فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتسافه من تاريخه؛ وإذا ألجئ إلى حال من القهر، لم ينخذل ولم يتضعضع، واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة: إن لم تترك لنفسها، لم تعط من نفسها إلا الوَخْز. . . . . . . . .

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي