مجلة الرسالة/العدد 145/صور من القرن الثامن عشر

مجلة الرسالة/العدد 145/صور من القرن الثامن عشر

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1936


2 - جاكومو كازانوفا

جوَّاب مجتمع ومغامر مرح

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قضى كازانوفا صباه وفتوته الأولى محروماً من عطف والديه، يجوز حياة مضطربة، ويتقلب بين شظف العيش ورفاهته، ويلقي بنفسه المضطرمة إلى غمار من اللهو والإدمان والخلاعة، ويلتمس متاع الحياة بأي الوسائل. وكان يرى لهواً ولعباً، ولكن الحياة الناعمة تتطلب الرزق الوفير، ولابد أن يجد كازانوفا لنفسه وسائل الارتزاق. وكانت المقامرة يومئذ رذيلة المجتمع الرفيع، ولكنها كانت أيضاً ملاذ المغامرين من كل ضرب، يلتمسون بها الرزق والثراء؛ وكازانوفا مقامر بارع، فلم لا ينزل إلى هذا الميدان؟ وبسم له الحظ في المقامرة، وانتظم في سلك المقامرين المحترفين الذين يستحلون كل الوسائل للكسب أو للسرقة المستترة؛ ورأى فوق ذلك أن يتشح بثوب الخفاء، وأن يحترف الشعوذة وكشف الأسرار؛ وكانت الأذهان يومئذ تشغف بالخفي والمجهول، وكان كازانوفا يجيد هذا الضرب من الشعوذة، وقد رأيناه يتخذه سبيلا لتمكين نفوذه لدى صديقه وحاميه الجديد السيد براجادين

وهكذا نزل كازانوفا إلى ميدان المغامرة مسلحاً بأسلحة العصر، يلتمس الرزق من طريق المقامرة، ويلتمس النفوذ من طريق الشعوذة، ومن ورائه عصبة من الأصدقاء الأقوياء الذين يخلبهم بروائه وظرفه وشعوذته؛ وكانت هذه الحياة في نظر المغامر هي المثلى، وكان يرى المجتمع من حوله موبوءاً يموج رذيلة وفساداً، ويرى الشرف والكرامة والنزاهة وكل ما إليها كلمات جوفاء لا يتحلى بها أرفع من يسودون المجتمع من أمراء وأحبار وسادة، فكيف يطلب إليه هو أن يخضع حياته لمثل هذه الأباطيل؟

وكان كازانوفا ينزل يومئذ عن السيد براجادين كما رأينا، ويعيش منعما مرفهاً، يقضي أيامه في لهو ولعب ونزه وغزل لا ينقطع، يجوب شوارع البندقية المائية في قاربه الوثير، ويتسقط مواعيد الحب كل مساء. وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وكان الحب فنه ومهنته التي كأنه فطر عليها بطبيعته وخلاله وعواطفه، وكان مسلحاً لهذه الغاية بأخص الصفات التي تذلل له غزو القلوب، فقد كان بديع القد والتكوين، وسيم الطلعة، ذا سمرة جذابة؛ وكانت عيناه الواسعتان تشعان سحرا وذكاء وشهوة؛ وكان ذا شخصية جذابة، حلو الحديث والشمائل، جواداً، جم الأدب والظرف، يضطرم حباً وجوى؛ وكانت له فراسة خاصة في تفهم عقلية المرأة وميولها؛ وكان ظفره المتوالي في الحب يذكي عزائمه ورغباته، ويدفعه دائماً إلى البحث عن غزوات جديدة؛ وكان يشعر شيئاً فشيئاً أن البندقية لم يبق فيها ما يمكن أن يغزوا وأن يستمرئ، وأن إيطاليا كلها قد غدت تضيق بجولاته ومغامراته؛ وكانت فرنسا تجذبه يومئذ بشهرتها وروعة الحياة الساطعة التي يحياها المجتمع الرفيع فيها؛ وسرعان ما سنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته، فسافر إلى باريس ليخوض غمار هذه الحياة الساطعة، وكان يومئذ في نحو السادسة والعشرين

وكان المجتمع الفرنسي، ينحدر يومئذ، في عهد لويس الخامس عشر، إلى نوع من الخمول الباهر، ويستمرئ حياة عاطلة من المثل المعنوية الرفيعة، فياضة بالرغبات والشهوات الوضيعة؛ وكانت دولة الغانيات، من أمثال دوباري وبومبادور هي صاحبة الحول والسلطان يومئذ؛ وكان يلتف حول هذا الملك الخليع بلاط وضيع الخلال، يضرب بتهتكه وانحلاله للمجتمع الرفيع أسوأ المثل؛ وكانت حياة هذا المجتمع - مجتمع النبلاء والسادة - كلها لهو ولعب وحب وغزل وفساد ورياء؛ فإلى هذا المجتمع الباهر الخامل معاً هبط كازانوفا يبحث عن طالعه في عالم الحب؛ وهنالك تعرف منذ مقدمه بمواطنه الممثل الشهير ماريو باليتي وزوجته سلفيا، وكانا يومئذ من أعلام مسرح (الكوميديا الإيطالية)؛ فعلمه شيئاً من اللغة الفرنسية، وعرفه بكثير من الشخصيات البارزة من رجال ونساء؛ واندفع كازانوفا إلى هذا العالم الجديد يتذوق مسراته، ويتابع غزواته النسائية بين الممثلات والراقصات وسيدات المجتمع الرفيع؛ وهو يذكر لنا في مذكراته التي نشير إليها فيما بعد، طائفة من أسماء هؤلاء اللائى ظفر بهن في تلك الفترة مثل ميمي ابنة السيدة التي نزل عندها، والآنسة فزيان وهي فتاة أجنبية زائرة، ولويزون مورفي الشهيرة التي أدخلت (حريم) لويس الخامس عشر فيما بعد، والآنسة سنت هيلير، وسيلفيا زوجة صديقه، وغيرهن؛ واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يتذوق طرفاً من الحياة الأدبية، وأن يتصل ببعض كبار الأدباء والكتاب مثل فونتينل ودلامبير والأب فوازنون ومدام دي بوكاج، وأن ينظم بعض القصائد، وأن يترجم بعض القطع والرسائل

وعاد كازانوفا إلى البندقية (سنة 1753) وقد فاضت نفسه غبطة وزهوا بما تذوق من صنوف اللهو الرفيع، وما حقق لنفسه من ظفر في ميدان الحب، وبدت له البندقية عندئذ ضيقة متواضعة، بالنسبة لما رأى وشهد في باريس؛ وذكت أطماعه وأمانيه، وزاد غروراً وترفعاً واستهتاراً، وأخذ ينظر إلى هذا المجتمع البندقي من عل، ويتصل بالكبراء والسفراء ولاسيما سفير فرنسا الأب دي برني؛ ولم يكن كازانوفا متحفظاً في أقواله أو أعماله. فكان يطلق العنان لآرائه المتطرفة، ويزاول الشعوذة علناً، وكان يثير على نفسه السخط في كل ناحية، وكانت علائقه الغرامية موضع الحديث ومثار النقمة؛ وكان ثمة جماعة من النبلاء والكبراء الذين يضايقهم بلسانه ومنافساته الغرامية يتربصون الفرص لسحقه؛ وكان من هؤلاء كبير من كبراء الدولة هو (الشيخ) كوندلمر النائب العام؛ وكان لهذا الشيخ القوي صاحبة تدعى مدام زورزي سطا عليها كازانوفا وانتزعها منه، فاعتزم التنكيل به، وأطلق في أثره جواسيس الشرطة يقدمون عنه التقارير القاذفة، وفيها أنه يتصل بالسفراء الأجانب بعلائق مريبة، ويخدع البسطاء بمزاعمه السحرية، ويعيش على نفقة الغير، ويغوي البنات والنساء المتزوجات، ويسخر من الدين، وينتمي إلى البناء الحر (الماسونية)، وغير ذلك من التهم الخطيرة التي تكفي لإدانته وإهلاكه

وعلى أثر ذلك قررت محكمة التحقيق (التفتيش) اعتقال المتهم، وفي فجر 26 يوليه سنة 1755 ذهب مدير الشرطة مع ثلة من رجاله إلى منزل كازانوفا واعتقله، وأخذه مصفدا إلى قصر الدوجات؛ وهنالك ألقي به إلى السجن المواجه في غرفة لا هواء فيها ولا نور تعمرها الجرذان والحشرات المختلفة، وتكاد لانخفاضها تقصر عن إيواء قامته المديدة؛ وفي الحادي والعشرين من أغسطس قضت محكمة التفتيش بإدانته في التهم التي نسبت إليه ولاسيما الطعن في الدين، وقضت بسجنه خمسة أعوام في سجن (الرصاص) الشهير (بيومبي) وهو الذي اعتقل فيه. وقضى كازانوفا أيامه الأولى في السجن في ذهول ويأس يكاد يمزقه الغيظ والكمد، وكان منقطع الصلة بالعالم الخارجي، لا يعرف شيئاً عن سبب اعتقاله أو مداه؛ وكان يؤمل بادئ ذي بدء أن يسترد حريته بسرعة بمؤازرة بعض أصدقائه الأقوياء، ولكن الشهور تعاقبت عليه دون أن ينفذ إلى وكره المظلم شعاع من الأمل، وأعقب الصيف الخريف ثم تعاقبت الفصول، عندئذ ترك اليأس جانباً، واستعاد عزمه وقوة نفسه، وعول على الفرار؛ وما زال يعمل في خفاء وصمت، ويغالب الصعاب والرقابة الصارمة حتى نضج مشروعه. وفي ليل اليوم الأول من نوفمبر، فر كازانوفا مع شريكه وجاره في السجن الأب بالبي، وذلك بأن خرقا عرش الغرفة الرصاصي، واستطاعا بعد مجهود عنيف مروع أن ينحدرا من جدران القصر إلى ميدان القديس مرقص، واستقلا زورقا حملهما في جوف الظلام بعيدا عن مواطن الخطر؛ ولم يأمن كازانوفا على نفسه حتى جاز حدود البندقية إلى ارض بورجو دي فالزجانو المجاورة، وبذلك أمن شر مطارديه واستطاع أن يتنفس نسيم الحرية مرة أخرى

وتركت تلك المحنة في نفس كازانوفا اعمق الأثر، وكان قد جاوز الثلاثين يومئذ، واستحالت لديه نزعات الحداثة إلى نوع من التفكير المتزن، وأخذت الأطماع والأماني تغلب على نفسه، وتخضع لديه نزواته المضطرمة؛ وكان همه دائماً أن يغزو المجتمع الرفيع، ولكن غزو المجتمع الرفيع يقتضي مالا ومغامرة؛ وكان المجتمع الباريزي الذي عرفه حيناً وتذوق فيه لذة الظفر والأمل يجذبه دائماً ويلوح له بأعظم الأماني؛ ولهذا نراه في باريس في يناير سنة 1757 يبحث عن طالعه كرة أخرى؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين يمده بمرتب حسن، وكان صديقه الأب دي برني سفير فرنسا السابق في البندقية قد عاد إلى فرنسا، وتولى وزارة الخارجية، فتقدم إليه يطلب عونه، فأوصى به بعض كبراء الدولة؛ وكانت المشكلة المالية أهم ما يشغل فرنسا يومئذ وفي سبيل حلها تقدم أغرب المشاريع والاقتراحات. وكان من بين المشاريع التي وضعت لإيجاد بعض المال أن تصدر الدولة (أوراق يانصيب) يغطي إيرادها نفقات المدرسة الحربية التي أنشئت يومئذ لتخريج ضباط للجيش الفرنسي؛ وكان يضطلع بالمشروع أخوان إيطاليان يدعوان كالسابيجي، فاتصل كازانوفا بذوي النفوذ والمشرفين على العمل، وكان يتمتع في ذلك الميدان ببعض الخبرة ويقدم عن المشروع آراءه وملاحظاته، فرؤى أن يعين مديرا للمشروع بمرتب ضخم وعمولة حسنة، وصدر بالمشروع قرار وزاري في أكتوبر سنة 1757 وهكذا تبوأ كازانوفا منصباً خطيراً مربحا يحقق له تلك الحياة الناعمة المستقلة التي طالما طمح إليها، واتخذ له مسكنا فخماً في ضاحية سان دني يموج بالنعم والحشم. وأقبل الناس على شراء أوراق اليانصيب الحكومية إقبالا حسنا؛ ووقع السحب الأول في إبريل من العام التالي وأسفر عن نتائج مرضية؛ ثم وقع مراراً خلال العامين التاليين، وظفرت المدرسة الحربية بكل النفقات اللازمة؛ وحقق كازانوفا لنفسه ربحاً وفيراً يقال إنه بلغ مائة ألف في العام، هذا عدا ما كان يربحه من أعمال التنجيم والشعوذة التي لم ينقطع عن مزاولتها؛ وعهد إليه أثناء ذلك ببعض المهام الرسمية السرية فأداها بنجاح؛ وعهد إليه أيضاً بمهمة مالية في هولندة فأسفرت عن نتائج مرضية؛ وهكذا ذاع اسمه وتوطد مركزه، وزاد ثراؤه، وشعر لأول مرة في حياته بأنه غدا الرجل الذي طمح أن يغدو، ينثر الذهب من حوله بلا حساب، ويحقق لنفسه أعز الرغبات والأهواء والأماني

واتخذ كازانوفا لنفسه خارج باريس مسكناً آخر غير مسكنه الباريسي أنيقاً وثيراً به حاشية باهرة، وخيل مطهمة، وهنالك كان يقظي معظم أوقاته في متاع ومرح، يطلق لنفسه عنان الهوى والحب، ويستمرئ غزواته النسائية بلا انقطاع؛ وكان كازانوفا يعشق الحياة الفخمة، ويتعلق بمظاهر العظمة والأناقة، ولكنه لبث دائماً ذلك المحب النهم الذي تغلب لديه الغرائز الوضيعة، والذي يسعى إلى إرضاء شهواته المضطرمة بأي الوسائل، وفي أي الظروف والمناسبات

وانفق كازانوفا في باريس بضعة أعوام في عيش طروب خفض يغزو جميع القلوب، وينعم بوصل السيدات والغانيات من كل ضرب ويزاول التنجيم والشعوذة؛ وكان يتسمى عندئذ بالشفاليه دي سنجال، أو الشفالييه سنجال دي فاروزي، ويبهر الناس بروعة مظاهره وأساليبه، ويتقرب من الأكابر، وينعم بالجاه والنفوذ والثراء. بيد أن هذه الحياة الباهرة كانت تنضح دائماً عن جوانب وثغرات مريبة؛ ذلك أن كازانوفا لم يكن متحوطاً في مغامراته وعبثه؛ ولم يكن يحجم عن أي الوسائل لاستلاب المال أو القلوب؛ ومن ذلك أنه اشترك في حادث تزوير أوراق مالية، وأغرى عدد من أكابر السيدات، ومنهن المركيزة دورفي التي خدعها واستحوذ على قلبها ومالها بشعوذته؛ وسطا على كثير من الأزواج والآباء، فاستلب منهم زوجاتهم أو بناتهم، واتصل بجماعة خطرة من الأفاقين ولصوص المجتمع الرفيع يدبر معها الخطط والمشاريع المريبة؛ وذاعت هذه الوقائع والفضائح المزرية، وكادت تدفع بالمغامر الجريء إلى غمار لا تحمد عواقبها، ولكنه آثر الهجرة مرة أخرى، ويمم عندئذ شطر هولندة مزوداً ببقية من المال والجاه وتوصيات بعض الأكابر

ونزل كازانوفا في لاهاي سنة 1759؛ واستأنف هنالك حياة البذخ والطرب، يعيد سيرته التي جازها في كل المواطن، عاشقاً مضطرماً تحمله شهواته حيثما يحمله ظفره، وتسقطه فرائسه بين أذرعه تباعا، ويبتز المال من هنا وهنالك بكل الوسائل والحيل، ويستمرئ حياة الخديعة والشعوذة والغواية إلى الذروة، ويثير حوله بعد حين نفس الشكوك والريب التي يثيرها أينما حل؛ وإذ يشعر بأن وسائله وحيله ومظاهره كلها قد نفقت، وأن الجو يتجهم من حوله، يعتزم الرحيل والنقلة. وهكذا غادر كازانوفا لاهاي كما غادر باريس من قبل مثقلاً بالريب والفضائح، وهبط إلى لندن في خريف سنة 1763 تحدوه آمال وأماني أخرى

(للبحث بقية)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان