مجلة الرسالة/العدد 145/قصة المكروب
مجلة الرسالة/العدد 145/قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسيّ، وكاشف ترياقها الألمانيّ
ومضت أربع سنوات تحققت بعدها نبوءة لُفلار، وبم تحققت؟ بتجربة تظهر لك غاية في السخافة، والحقيقة التي لا شبهة فيها أنها تجربة أوغلت في الخيال وتفانينه بقدر ما بعدت عن دائرة الحقيقة واليقين. تجربة ما كان يحسب حاسب إلا أنها تنتهي بقتل الخنزير الغيني الذي استُخدم فيها غرقاً؛ ولم تكن هذه التجربة بدعاً في الذي أوحاه هذا العصر من تجارب، فبحث المكروب في باريس كان عندئذ على أشده حدّة وعنفاً، يصدر عن قلوب هائجة محمومة لا عن عقول هادئة باردة، ففي هذا العصر كان بستور خائر القوى، منهدم الكيان، بعد نُصرته التي كانت من كشفه فكسين الكلب، فقنع بأن يشرف في ضعفه على بناء المعهد بالمليون فرنك الذي كان يقام في شارع ديتو وكان في باريس في هذه الفترة متشكنيوف وكان رجلا جموحا احترف البحث في المكروب فسلك فيه سبيلا وسطاً بين العلم والشعوذة، وكان جاء باريس من أوديسا الروسية ليجشأ فيها بنظريات غريبة تتحدث عن بلع كرات الدم البيضاء للجراثيم؛ وأخذ في هذا العصر أشياع بستور يحزمون مجاهرهم في عيابهم ويسافرون إلى سيجون في الهند الصينية وإلى أستراليا، يقصدون إلى كشف مكروبات لأدواء عجيبة لم يكن لها وجود أبداً. وفزعت أمهات كثيرات إلى بستور، والأمل يملأ قلوبهن، يرجونه في كتب لا عد لها أن يُنجي أولادهن من أمراض شنيعة عديدة، ولكن بستور كان رجلا مجهودا منهوكا
كتبت إليه إحداهن تقول: (إنك لو شئت لوجدت دواء لهذا الداء اللعين الذي يدعى بالدفتريا، انك لو فعلت لأعطيت الحياة لأطفالنا وكان لك ثواب ذلك، أننا نذكرك لهم، ونحفّظ اس إياهم بأنك رب خير للإنسانية كبير عميم
ولكن بستور كان قد غاض معينه، فلم يبق فيه إلا ذَماء، فقام عنه رو يحاول محو الدفتريا من على ظهر الأرض، وأعانه في هذا يرسين وهو رجل لا يهاب الموت، كان من نصيبه بعد ذلك أن اكتشف جرثومة الموت الأسود فنال بها مجداً كبيرا، ولم يكن الذي أتاه رو من ذلك علما، إنما كان جهادا وحرباً. كانت تحدوه عاطفة قوية فاقتحم السبل إلى غايته اقتحاماً، فلم يتريث كما يتريث المكتشفون لاختطاط الخطة ومصابرة الفرصة في دهاء وافتنان. ولست أقول إن (رو) بدأ بحثه من أجل هذا الكتاب الذي كتبته تلك البائسة تسترحم فيه بستور، ولكني أريد أن أقرر أن رو بدأ بحثه وأكبر همه تخليص الأرواح لا علم الحقائق، فهذا البيت في شارع ديتو ما كان يضم إلا رجالا إنسانيين همهم خلاص البشرية وتخفيف ويلاتها، يستوي في ذلك ربّه الشيخ المشلول، وغاسل القناني الخامل الحقير. كلهم كانوا يعملون لخلاص الناس، وهذا طيب جميل، ولكنهم حادوا من أجله أحياناً عن السبيل الذي لا بد من سلوكه لبلوغ الحقيقة. . . . ومع هذا، وبرغم هذا، فقد كشف رو كشفاً رائعاً مجيداً
كانت الدفتريا تفتك بباريس فتكاد ذريعاً. فذهب رو ويرسين إلى مستشفى الأطفال فوجدا هناك نفس البشلة التي كان وجدها لُفلار. فربوها في حساء بقارورة، وترسما الخطى المعروفة، فحقنا مقادير كبيرة من هذا الحساء في كثير من طيور وحيوانات منحوسة الطالع فماتت ضحية العلم، دون أن تعلم بما ضحت، فترضى وتطيب نفساً عن نصيبها. ولم يكن هذا الذي بدءا فيه بحثاً كثير النفع كثير الإنتاج مستنيراً، ولكنهما لم يلبثا أن وقعا وشيكا على الدليل الذي أعوز لُفلار، فإن الحساء شلّ الأرانب. ذهب مفعوله في أوردتها فلم تمض إلا أيام قلائل حتى سارت تجر أرجلها الخلفية وراءها عرجا. فسر أصحاب التجربة سروراً كبيراً. وزحف الشلل إلى أجسامها حتى بلغ أكتافها وأرجلها الأمامية ثم ماتت في شللها وبللها ولزاجتها شرّ ميتة
قال رو وقد ملأته رغبة شديدة في الإيمان بالذي يقول: (إن هذه البشلة تقتل الأرانب على نحو ما تقتل الأطفال. . . . لابد إذن أنها هي سبب الدفتريا الذي لا شك فيه، ولابد أني واجد الآن هذه الجرثومة في هذه الأرانب. واستخرج عدداً كبيراً من الأنسجة من كل ركن من بضعة جثث من هذه الأرانب، واستخرج أطحلتها وقلوبها، وزرع منها زريعات كثيرة، ولكنه لم يجد بها بشلة واحدة. أنها أيام قلائل فقط مضت منذ حقن بلايين من البشلات في كل أرنب منها. ولكن هاهي ذي ملقاة أمامه، قد انتزع أحشاءها، وقطّع أوصالها، وفتش فيها مبتدئاً بأنوفها الحمراء منتهياً بما تحت ذيولها البيضاء، ولكنه لم يعثر بها على بشلة واحدة. إذن فما الذي قتلها؟!
فجاءت نبوءة لُفلار تمر سريعة كالبرق بخاطره. فتفكر وقال: (لابد أن هذه البشلات تصنع سما وهي في الحساء، ولابد أن هذا السم هو الذي يشل ويقتل
وانبعثت فيه روح البحث الصحيح، روح المعرفة للمعرفة، فنسي الأطفال وبلواهم، وأكبّ على الخنازير الغينية والأرانب يثخنها قتلا وجزرا، فقد وجب عليه أن يثبت أن هذه البشلات تعصر سماً من أجسامها الدِقّاق
وبدأ هو ويرسين يدوران يتحسسان في الظلام عن تجارب تهديهم إلى إثبات ما يبغيان إثباته. وطال تحسسهما، وبعدت طرائقهما عن طرائق العلم. ولهما العذر في ذلك، فلم يكن لديهما في هذا الباب طرائق معروفة، ولم يكن سبقهما فيه سابق فيترسمون خطاه على هدى وبصيرة. ولم يسمع أحد قبلهما بأن باحثاً فصل سماً من أجسام المكروبات، إلا بستور فقد كان حاول شيئاً لم يستتمه من هذا. كانا وحدهما في ظلمة هذه الجهلة. ولكنهما استطاعا أن يقدحا عود كبريت. . . قالا: (إن البشلة لابد تصب سمها في الحساء، كما تصب سمها في دم الطفل وهي مقيمة على غشاء حلقه). بالطبع هما لم يثبتا هذا
ووقف رو حجاجه النظري، وسئم الدوران منه في دائرة لا تنتهي، واعتزم حل المُعْضل في المعمل بيديه. وجد أن التلمس في هذا العماء لا يجديه نفعاً. وجد أنه كرجل اختل محرك سيارته فتعطلت، فأراد أن يصلحه وهو لا يدري من عمل المحركات شيئاً. فكان الأولى به أن يتعلم كيف تعمل المحركات أولا. فقام إلى قارورات من الزجاج كبيرة، ووضع فيها أحسية خالية من المكروب طاهرة، ثم بذر فيها بشلات نقية من الدفتريا، ثم أودعها في المدافئ لتربى. فلما بقيت فيها أربعة أيام وتم نضجها قال رو: (والآن فعلينا فصل الحساء من المكروب). وجهز الاثنان لذلك جهازا غريبا، مُرشّحاً له شكل الشمعة إلا أنه أجوف، صنعاه من مادة صينية دقيقة اكتنزت حباتها وضاقت مسامها فأذِنت بنفاذ الحساء ورفضت فوات المكروب فيها. ونصبا هذه الشمعات الجوفاء في مخابير من الزجاج لامعة صقيلة، وقاما يصبان الأحسية فيها على حذر شديد مخافة أن يصيبهما رشاش قاتل منها، ولكنها أبت أن تنفذ من الشموع إلى المخابير، وأخيراً استطاعا أن ينفذاها بهواء مضغوط ضغطا شديدا، فلما تم لهما ذلك تنفسا الصعداء وهما يصفقان على المنضدة، ذلك الراشح الرائق قد تراءى في قواريره الصغيرة أصفر كالكهرمان ولم تكن به جرثومة واحدة
وتمتم رو لنفسه: (هذا السائل لا شك يحتوي السم. نعم لقد حبست الشموع ما كان به من جراثيم، ولكنه مع هذا لابد أنه يقتل الحيوانات، وهرج المعمل ومرج بالمساعدين وهم يحضرون الخنازير والأرانب، فلما حضرت ذهبت إبر المحاقن في بطونها بهذا السائل الذهبي، ضربتها فيها يد رو، وهي يد خفيفة بارعة
وانقلب رو فصار فتاكا سفاحاً، وملأ قلبه حب القتل، فلم يجيء إلى معمله يوماً إلا وفي نفسه رغبة كرغبة المجنون أن يجد حيواناته قتيلة صريعة. وكأني بك تسمعه يصيح إلى يرسين: (إن السم لابد فاعل فعله الآن فيها، لابد أنه ضارب بنابه الآن في مقاتلها)، ثم هما ينظران معاً فلا يجدان ما يشفي غليلهما ويؤمن على نبوءتهما، فلا الشعور انتفشت، ولا الأرجل الخلفية شلت فتجرجرت، ولا الأجسام ارتعشت وانتفضت
كان وقع ذلك شديداً عليهما. بعد كل هذا التعب، وكل هذا التجريب والتفنين في دقة وحذر، تظل هذه الحيوانات تقرض بقولها في أقفاصها قرضاً، وتثب فيها وثبا، وتتغازل ذكورها وإناثها وتتهارش هذا الهراش السخيف الذي لابد منه لإيجاد النسل وتواصل الجنس. . . إنها تملأ أمعدتها وتشبع شهوتها ولا تأبه لشيء. أما هؤلاء الأناسي المردة الطوال الذين أحسنوا غذاءها هذا الإحسان فليحقنوا في أوردتها أو في بطونها من ذاك الحساء ما شاءوا. أيدعونه سما؟ لقد طال بهم الخيال، وكذب الخال. إن يكن سما فهو لا يزيدها إلا هناءة وطيب حال
وحاول رو مرة أخرى فحقن مقادير أكبر من حسائه في طائفة حيواناته، ثم في أخرى، ثم في أخرى، ولكن من غير جدوى. لم يكن في الحساء سم
لو أن رو رجل عاقل عادي لكفاه الذي جرى، واقتنع بأن الحساء الذي أودعه المدفأ أياماً ثم رشحه لم يكن به سم قط. ألم يكفه هذا العدد العديد من الحيوانات التي ضاعت سدى؟ ولكن رو - ولتحمده الأمهات والأطفال المساكين، ولترعه الملائكة التي تحفظ البحاث المجانين - ولكن رو كان في تلك الساعة مجنونا. أصابه مس كالذي كان يصيب أستاذه بستور فيجعله يرى الصواب في الذي يراه الناس أجمع خطأ، ويقدح ذهنه فتخرج منه التجربة المستحيلة الناجحة. كأني بك تسمع هذا الرجل المسلول ذا وجه الصقر يصيح لنفسه: (هنا، في هذا الحساء سم لا محالة). وكأني بك تراه يدور في معمله يصيح هذه الصيحة إلى القوارير المصففة على الأرفف التربة، وإلى الأرانب والخنازير الغينية، وهي لو استطاعت لضحكت من هذا المجهود الخائب الذي بذله ويبذله رجاء قتلها. (لابد من سم في هذا الحساء الذي نمت فيه بشلات الدفتريا، وإلا فكيف ماتت الأرانب إذن؟)
وأخيراً، بعد أن قضى الأسابيع يحقن أحسيته في الحيوانات ويزيد مقدار ما يحقن فيها كل مرة، أخيراً عزم على أن يحقن في الخنزير ثلاثين مقداراً من الحساء دفعة واحدة، ففعل وكاد يغرق الخنزير بحسائه. كان مثله في ذلك مثل المقامر الذي سئم الخسارة، فلما يئس جازف فوضع على الرقعة كل ماله. حتى بستور ما كان ليجسر هذه الجسارة فيحقن الخنزير الغيني الصغير تحت جلده بخمسة وثلاثين سنتميتراً من الحساء كما فعل رو. أليس في هذا المقدار لو أنه ماء نقي ما يقتل الخنزير بمجرد حجمه. وهو إذا مات فأي نتيجة تستخرج من هذا عن وجود السم في الحساء. . . . ولكن رو لم يأبه لذلك، فدفع بهذا المقدار من الحساء وهو كالبحر في بطن الخنزير. ودفع بمقدار مثله في وريد بأذن أرنب، فكان كمن صب جردل ماء في أوردة إنسان متوسط الجرم
ولكن بهذا الأسلوب الغريب كتب رو اسمه في لوحة المجد، فعلى الناس أن يخلدوها على الدهر ويحفظوها من البلى ما بقي على ظهر هذه البسيطة إنسي. احتمل الأرنب والخنزير تلك الشربة الهائلة وصمدا لجرمها الكبير، وهَنِئا بالسلامة ونعما بالعيش يوماً أو يومين بعد هذا، ولكن لم يمض على ذلك غير ثمان وأربعين ساعة حتى انتصب شعراهما على ظهريهما، وأخذا يتنفسان اختلاجا. وماتا بعد خمسة أيام، وظهرت عليهما نفس الأعراض التي ظهرت على الحيوانات الأخرى التي ماتت عقب حقنها بمكروب الدفتريا نفسه لا بحسائه المرشَّح. وبهذا اكتشف رو سم الدفتريا. . .
لو أن الأمر اقتصر على هذه التجربة، وما تضمنته من جرعة هائلة من حساء ضعيف السم، إذن لضحك قناص المكروب منها ومن صاحبها رو، ولتخذوا منها فكاهة فاضحة: (إن تكن قارورة كبيرة من مكروب الدفتريا لا تخرج إلا هذا السم القليل حتى ليحتاج إلى أكثر هذه القارورة لقتل خنزير غيني صغير، فأنى لبشلات قليلة تحل في زور الطفل أن تصنع من هذا السم ما يكفي للقضاء على جرمه الكبير! هذا حمق أي حمق!)
ومع هذا فرو حل بذلك العقدة الأولى. وبهذه التجربة السخيفة قدح أول قدحة وأطار أول شرر شعّ في ظلمة الطريق فعرف به إلى أي ناحية يتجه وعلى أي جنبيه يميل. فأخذ يتحسس طريقه بين الأحراج ويشق سبيله بين الأدغال بطائفة من التجارب الدقيقة حتى انفتح له السبيل بغتة عن أرض عراء فعرف مكانه واستوثق مما هو فيه. واستغرق في ذلك شهرين عرف بعدهما السبب في ضعف السم بحسائه. واتضح له أنه لم يكن ترك الحساء ببشلاته في المدفأ مدة كافية، فلم تتمكن البشلات من العمل فلم تصنع من السم ما تعودت أن تصنعه. وعلى هذا صنع حساء جديداً ووضع فيه بشلات جديدة أودعها المدفأ وأبقاها هناك في حرارة كحرارة الجسم مدة اثنين وأربعين يوماً. فلما أخرجها أخرج سماً كأقوى ما تكون السموم، وحقن القليل منه في حيواناته فصنع بها ما لا يُصنع. وأخذ في تقليل مقدار ما يحقن فيها عسى أن يقلل فتكه بهذه الحيوانات ولكنه حاول عبثاً، وظل ينظر بعين واسعة وقلب مغتبط تياه إلى القطرات القليلة من هذا السم تذهب بالأرانب وتقتل الشياه وتلقي بالكلاب صريعة. ثم أخذ يتلهى بهذا السائل الفتاك، فجففه، وأراد دراسة كيميائه فأخفق. ثم ركّزه تركّيزاً كبيراً، ووزن ما ركّز، ثم عكف يجري عمليات حسابية طويلة
فوجد أن الأوقية منه تقتل 600000 خنزير غيني، أو 75000 كلب كبير. ووجد أن الخنزير الغيني الذي يناله من هذا السم جزء من 600000 جزء من الأوقية تتحول أنسجة جسمه فتكون كأنسجة جسم الطفل الذي يموت بالدفتريا
هكذا أوّل رو حلم لفلار وحقق نبوءته؛ وعلى هذا النحو كشف عن رسول الموت السائل الذي يتحلّب من أجسام هذه البشلات الصغيرة الحقيرة كشف رو لنا عن الطريقة التي تقتل بها هذه البشلات الأطفال، ولكنه لم يكشف لنا عن طريقة ندفع بها شرها، والكتاب الذي بعثته تلك الأم البائسة لبستور تسأل فيه دواء لهذا الداء بقي على المكتب لا يجد له جواباً، ومع هذا فعمل رو بلغ أمره الأطباء فتعلموا كيف يربون تلك البشلات من حلوق المرضى من الأطفال، وأثمر عدة اقتراحات بغرغرات نافعة يغسلون حلوقهم بها، ولكن رو لم يكن له صبر بستور ولا حيلته
في العدد القادم: بارنج يكتشف ترياق الدفتريا
أحمد زكي