مجلة الرسالة/العدد 146/الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي

مجلة الرسالة/العدد 146/الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي

مجلة الرسالة - العدد 146
الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



للأستاذ محمد عبد الله عنان

عرضت لنا من قبل فرصة للتعريف بنشأة الأزهر الجامعية، وكيف أنه أنشئ في البداية ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية، ثم نشأت صفته الجامعية في ظروف عرضية، ولم تلبث أن استقرت بعد ذلك وتأثلت؛ وذكرنا ما كان للوزير ابن كلس من كبير أثر في إسباغ هذه الصفة العلمية الجليلة على الأزهر، وكيف أنه يعتبر منشئ الجامعة الأزهرية في معنى من المعاني

والآن نذكر طرفا من الآثار الفكرية التي ترتبت على قيام هذه الجامعة الإسلامية الكبرى في عصرها الأول، أعني في العصر الفاطمي، ونذكر أيضاً بعض أعلام التفكير في هذا العصر ممن تولوا التدريس في هذا المعهد الجليل أو تخرجوا فيه أو اتصلوا به وبحلقاته اتصالاً كان له أثر في تكوينهم الفكري والعلمي

لم تبلغ العلوم والآداب في ظل الدولة الفاطمية من التقدم والازدهار ما كان خليقا أن تبلغه في ظل هذه الدولة القوية الباذخة؛ ذلك أن الدولة الفاطمية كانت لظروفها الدينية والسياسية ترمي إلى الإنشاء في كل شيء، ولم ترد أن تقوم على تراث الماضي أو أن تستأنف السير به؛ ولم يمد لها في عهد الإنشاء الفتي، فلم يأت منتصف القرن الخامس حتى سرت إليها عوامل الانحلال والوهن

وقد كان هذا شأن الحركة الفكرية، فإنها لم تلبث طويلاً في قوتها وازدهارها. وكان الأزهر، وهو يومئذ إلى جانب دار الحكمة والمسجد الجامع، من صروح الحركة الفكرية، يتبع مصاير هذه الحركة من قوة وضعف، فلم يبلغ في هذا العصر، - عصر الإنشاء والنمو - ما بلغه في العصور التالية من التقدم والأخذ بزمام الحركة الفكرية؛ ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نحصي في هذه المرحلة من تاريخ الجامع الأزهر كثيراً من الأعلام الذين تخرجوا في حلقاته أو درسوا فيها. والواقع أنه من الصعب أن نعين بالتحقيق من تخرج في الأزهر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر، وإن كنا نستطيع أن نعين بعض الأساتذة الذين تولوا التدريس في حلقاته؛ ذلك أن الأزهر لم يكن ينفرد يومئذ بتنظيم الدراسة العالية، بل كان إلى جانبه دار الحكمة تنافسه وتتفوق عليه أحياناً، والمسجد الج يحتفظ دائماً بحلقاته القديمة؛ ومن المرجح أن معظم العلماء والأدباء الذين ظهروا في هذا العصر كانوا ينتفعون بالدرس في المعاهد الثلاثة، ومن المرجح أيضاً أن الأزهر كان له في تخريج أولئك العلماء والأدباء أوفر نصيب، لأن دار الحكمة لم تتمتع دائماً بكثير من الثبات والاستقرار، وقد أغلقت فيما بعد؛ ولم يكن المسجد الجامع معهداً منتظماً للدرس، وكان الأزهر أكثر المعاهد الثلاثة انتظاماً واستقرارا

كان في مقدمة الأساتذة الذين تولوا التدريس والإقراء بالأزهر منذ إنشائه بنو النعمان قضاة مصر؛ فكان القاضي أبو الحسن علي بن النعمان أول من درس بالأزهر، فعقد أول حلقاته في صفر سنة 365هـ وقرأ فيها مختصر أبيه في فقه آل البيت، وكان فوق تضلعه في فقه آل البيت أديباً شاعراً، وتوفي سنة 374هـ؛ ودرس بالأزهر أيضاً أخوه القاضي محمد بن النعمان المتوفى سنة 389هـ، ثم ولده الحسين بن النعمان قاضي الحاكم بأمر الله؛ ومن المرجح أن فقيه مصر ومؤرخها الكبير الحسن بن زولاق (المتوفى سنة 387هـ) كان بين الذين تولوا الدرس بالأزهر يومئذ، فقد كان صديق المعز لدين الله ومؤرخ سيرته، ثم صديق والده العزيز، ومن المعقول أن يقع الاختيار عليه للتدريس بالمعهد الفاطمي الجديد

ويجب ألا ننسى أن الوزير ابن كلس نفسه كان في مقدمة العلماء الذين تولوا التدريس في الأزهر. وقد رأينا في بحثنا السابق كيف كان هذا الوزير العلامة أيام العزيز بالله يعقد حلقاته الدراسية أحياناً بالأزهر وأحياناً بداره، ويقرأ فيها محاضراته في الفقه الشيعي ولاسيما رسالته الشهيرة المعروف (بالرسالة الوزيرية) وقد كانت من أقدم كتب الدراسة التي درست بالأزهر

ونستطيع أن نذكر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر عدة، وهم بلا ريب ممن كان للأزهر في تكوينهم العلمي أثر كبير؛ فمنهم المسبحي الكاتب والمؤرخ الأشهر، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد الحراني، ولد بمصر سنة 366هـ وتوفي سنة 420؛ وكان من أقطاب الأمراء ورجال الدولة الفاطمية؛ وتولى الوزارة للحاكم بأمر الله ونال حظوة لديه؛ وأخذ بقسط وافر في مختلف علوم عصره، وشغف بتدوين التاريخ، وألف فيه عدة كتب منها تاريخه الكبير المسمى (أخبار مصر) وهو تاريخ مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء وما بها من العجائب والأبنية، وذكر نيلها وخواصها ومجتمعاتها حتى فاتحة القرن الخامس الهجري. ولم يصلنا هذا الأثر الضخم الذي يلقي بلا ريب أعظم الضياء على تاريخ الدولة الفاطمية في عصرها الأول، ولكن الشذور التي وصلتنا منه على يد المقريزي وغيره من المؤرخين المتأخرين، تنوه بقيمة هذا الأثر ونفاسته؛ وكتب المسبحي كتباً أخرى في التاريخ والأدب والفلك ولكنا لم نتلق شيئاً منها

ومنهم، القضاعي الفقيه والمحدث والمؤرخ؛ وهو أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع، وتوفي بها سنة 454هـ: كان من أقطاب الحديث والفقه الشافعي؛ وتولى القضاء وغيره من مهام الدولة في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وأوفده المستنصر سفيراً إلى تيودورا إمبراطورة قسطنطينية سنة 447هـ (1055م) ليحاول عقد الصلح بينها وبين مصر، وكتب عدة مصنفات في الحديث والفقه والتاريخ منها (الشهاب) و (مسند الصحاب) وهما في الحديث وكتاب (مناقب الإمام الشافعي)، و (أنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء)، و (عيون المعارف) وهما مختصران في التاريخ، وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وهو تاريخ مصر والقاهرة حتى عصره

ومنهم الحوفي النحوي اللغوي، وهو أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن سعيد كان من أئمة اللغة في عصره، واشتغل أعواماً طويلة بالتدريس في مصر والقاهرة، وألف كتباً كثيرة في النحو والأدب منها كتاب (إعراب القرآن) وكانت وفاته سنة 430هـ

ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن هاشم المصري، وقد كان من كبار المحدثين والمقرئين، واشتهر حيناً بتدريس علم القراءات وتوفي سنة 445هـ

ومنهم ابن بايشاذ النحوي الشهير، وهو أبو الحسن طاهر ابن أحمد المصري المعروف بابن بايشاذ، كان إمام عصره في اللغة والنحو، وألف فيهما عدة تصانيف ضخمة، واشتغل حيناً بديوان الإنشاء في عهد المستنصر بالله، وتوفي سنة 469هـ

ومنهم أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي، تلميذ القضاعي، كان أيضاً من أئمة اللغة والنحو، وتوفي سنة 520هـ

ومنهم الفقيه العلامة الحسن بن الخطير الفارسي، كان من أقطاب الفقه الحنفي والتفسير، وكان أيضاً عارفاً بالرياضة والطب وعلوم اللغة والتاريخ، وله عدة مصنفات في التفسير والفقه، واشتغل زمناً طويلاً بالتدريس بالأزهر، وتوفي سنة 598هـ هذا وأما أعلام الوافدين على القاهرة وأزهرها في ذلك العصر فنستطيع أن نذكر منهم عدة أيضاً. منهم العلامة الأندلسي أمية ابن عبد العزيز بن أبي الصلت، وفد على مصر في أوائل القرن السادس أيام الأفضل شاهنشاه، وأقام حيناً بالقاهرة يتصل بمعاهدها وعلمائها وأدبائها؛ وكان ماهراً في الرياضة والفلك والموسيقى والعلوم الطبيعية، وكان أيضاً أديباً شاعراً بديع النثر والنظم؛ ألف كثيراً من الكتب في مختلف العلوم، ووضع رسالة عن علماء مصر وأدبائها في هذا العصر، وتوفي سنة 528هـ

ومنهم العلامة المقرئ الشهير أبو القاسم الرعيني الشاطي الضرير، ولد بشاطبة من أعمال الأندلس في سنة 538هـ، وبرز في علوم القرآن، واشتهر بالأخص بالتضلع في علم القراءات، وقدم إلى مصر عقب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية (سنة 572هـ) يسبقه صيته، وتصدر للأقراء والدرس بالقاهرة يدرس القرآن وعلوم اللغة، فهرع إليه الطلاب من كل صوب، وكان إمام القراءات في عصره. ووضع في علم القراءات قصيدته الشهيرة المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني)، وأنشأ بمصر مدرسة حقة للقراءات؛ وتوفي سنة 590هـ

ومن الشعراء الذين وفدوا على مصر أيام الدولة الفاطمية، واتصلوا بمعاهدها وأدبائها، أبو حامد بن محمد الانطاكي، المعروف بأبي الرقعمق الشاعر المتفنن الماجن، وفد على مصر في أوائل الدولة ومدح المعز لدين الله وولده العزيز والوزير ابن كلس وتوفي سنة 399هـ؛ وأبو الحسن علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلا، قدم إلى مصر أيام الحاكم بأمر الله ومدحه، وتوفي سنة 412هـ وهو صاحب المقصورة الهزلية الشهيرة التي يعارض فيها مقصورة ابن دريد؛ ومنهم الشاعر الأشهر عمارة اليمني، وهو أبو محمد عمارة بن أبي الحسن، قدم إلى مصر سنة 550هـ في خلافة الفائز بن الظافر، وكان فقهياً أديباً شاعراً فائق النثر والنظم، شهد سقوط الدولة الفاطمية ورثاها، واتهم بالتآمر مع آخرين على السلطان صلاح الدين، وأعدم سنة 569هـ، ومن آثاره كتاب أخبار اليمن، وكتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية

ومن الرحل الذين وفدوا على مصر في ذلك العصر، الرحالة الفارسي ناصري خسرو، قدم إليها سنة 439هـ في خلافة المستنصر بالله، وشهد أزهرها، وأشار إليه خلال وصفه لمدينة القاهرة

كان للأزهر بلا ريب أثره في توجيه الحركة الفكرية المصرية في هذا العصر، فقد كان مذ بدأت مهمته الجامعية موضع الرعاية الرسمية. كان يشترك في عقد حلقاته الدراسية أقطاب العلماء من رجال الدولة، كبني النعمان قضاة مصر، والوزير ابن كلس، وداعي الدعاة؛ وكانت هذه العناية تسبغ على حلقاته ودروسه أهمية خاصة؛ بيد أن هذا الأثر كان محدوداً، خصوصا منذ قيام دار الحكمة، جامعة الدولة الرسمية، وتبوئها مقام الزعامة في توجيه الحركة الفكرية؛ وقد كان أثر الأزهر أقوى وأشد ظهوراً في نشر العلوم الدينية، وتخريج علماء الدين، لأنه كما قلنا كان موئل الثقافة الدينية، بينما كانت دار الحكمة موئل الثقافة المدنية؛ وعلى أي حال فإن مؤرخ الآداب العربية لا يسعه إلا أن ينوه بما كان للأزهر من أثر في سير الحركة العلمية والأدبية أيام الدولة الفاطمية، وان كان هذا الأثر لم يبلغ يومئذ ما بلغه فيما بعد من الأهمية والخطورة

ونلاحظ من جهة أخرى أن أثر الأزهر في توجيه الحياة العامة في تلك المرحلة الأولى من حياته لم يكن عظيما. ذلك أن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي أشد الحرص وتمعن في التمسك بعصبيتها، ولا تفسح كبير مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها الدينية إلا توطيداً لدعوتها السياسية، ولم يكن للدعاة من العلماء ورجال الدين من النفوذ المستقل إلا ما يتجه نحو هذه الغاية ويخضع لسياسة الدولة العامة. كذلك لم يكن للفقهاء والمتشرعين المستقلين كبير أثر في سير التشريع في ذلك العصر، لأن الدولة الفاطمية كانت تهتدي في صوغ شرائعها بمبادئها المذهبية الخاصة، ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نلمس أثراً يذكر لرجال العلم والدين في توجيه الشؤون العامة في العصر الفاطمي

محمد عبد الله عنان