مجلة الرسالة/العدد 146/الإسلام كعامل في المدنية
مجلة الرسالة/العدد 146/الإسلام كعامل في المدنية
للأستاذ أحمد أمين
لعل أهم تراث الإسلام وأثره في المدنية أمران: (الأول) العقيدة الإسلامية، لأني أرى أن كل ما نشأ عن الإسلام من فتح وعلم وإدارة وفن وغيرها أثر من آثارها، فالعربي قبيل الإسلام كان هو العربي بعيده، في جسمه وجوهر عقله ومعدنه، ولم يجعله يتجه إلى الفتح ويرى نفسه جديراً بأن يقف في المستوى الذي تقف فيه أرقى الأمم في عصره - وهما الفرس والروم - بل يرى نفسه أرقى منهما، وأجدر بأن يحكمهما ويوجههما وجهة خيراً من وجهتهما ويدخل التعديل على مدينتهما - إلا عقيدته؛ فهي - وحدها - الشيء الجديد في حياة العربي المسلم. لم يأت الإسلام في أول دعوته بنظريات هندسية، ولم يخترع آلات حربية، ولا فنوناً جديدة، ولا نوعاً من الإدارة جديداً، لأن هذه كلها أمور ثانوية بجانب العقيدة؛ فالعقيدة إذا صلحت أصلحت كل فاسد، ونشأ عنها كل أسباب التقدم ولو كان صاحبها فقيراً جاهلاً، حتى ولو كان في بلد جدب وأرض قفر، ولو لم ينشأ في مدنية ولو لم يرث حضارة. والعقيدة إذا فسدت أضاعت الثورة الموروثة ولم ينفع معها علم ولم يفد غنى، كلا ولا تنفع أرض خصبة ولا مدنية فخمة، ففيلة الفرس لم تثبت أمام بعير البدوي، ولا الدروع المضاعفة الرومانية استطاعت أن تصمد أمام نبال العربي وقوسه الساذجة، لأن بعير البدوي كان يحمل على ظهره قلباً مؤمناً، وفيل الفارسي كان يحمل فؤادا هواء؛ والقوس العربية كانت تصدر عن عقيدة صحيحة قوية ملتهبة، ودروع الروماني كانت تتضمن قلباً لا عقيدة فيه، كل همه شهوة ينالها ومتاع زائل بأمل أن يلتذ به، فإن فقد العربي حياته في القتال فلا بأس فإنما يعجل ذلك من قربه من الله، وإذا فقد الفارسي أو الروماني نفسه فيالها من خسارة، فقد حرم الخمر والنساء وحرم متع الحياة؛ فإذا قاتل العربي قدم حياته فحفظت حياته، وإذا قاتل الآخر قدم عدده وادخر حياته فخسر عدده وحياته. لم يتغير شيء في حياة العربي عند ظهور الإسلام إلا عقيدته، وكل شيء تغير غيرها فبسببها. وقد كنت أود أن أقتصر على الكلام فيها لولا أن هناك ناحية أخرى تهمنا كأثر قوي في بناء المدنية وهي (أثر الثقافة الإسلامية في المدنية)، فهي من جهة أكبر أثر للعقيدة، ومن جهة أخرى أقوى مركز ترتكز عليه المدنية. لهذا سنحصر قولنا في هات الناحيتين وفيهما الغناء
العقيدة الإسلامية -
كان العرب في جاهليتهم يعبدون الأصنام، قد اتخذت كل قبيلة إلهاً من صنم أو وثن، وقدمت إليه القرابين وجعلته الآمر الناهي، وهو طور تكاد تكون الأمم كلها قد مرت عليه وأن اختلفت أسماء أصنامها باختلاف بيئاتها؛ ذلك لأن في طبيعة الناس الإيمان بقوة فوق قوتهم تدفع عنهم الشر وتجلب لهم الخير، وتحي وتميت، وتخلق وتفني؛ وإذا كان العقل قاصراً ركز هذه القوة في شيء من المادة خلع عليه هذه الصفات، فأحياناً يكون صنما، وأحيناً يكون الشمس والنجوم، وأحياناً يكون شجراً، وأحياناً يكون حيواناً، وأحياناً يكون نهراً أو بحراً، فكل هذه الكوائن عبدت عند الأمم المختلفة، لأنها أحست أن في أعماق نفسها عقيدة بقوة فوق قواها. تساوت الأمم في هذا، ولكنها اختلفت في الشكل الذي تجسد فيه هذه القوة فتعبده، بحسب قوتها العقلية والخيالية ومواضعها الجغرافية وبيئتها الاجتماعية
وكانت هذه هي الحالة الساذجة للعبادة عند الأمم يعترفون بإله أو إلهة، ويشكلونها في شيء محسوس يقدمون لها صنوف التعظيم والتمجيد - فكرة حق ولكنها اتخذت مظاهر خرافية كالطفلة في غريزتها الأمومة، وفي طبيعتها الإشراف على تنظيم الحياة البيتية، فهي تتخذ لها لعباً من عرائس تجعلها أبناءها وبناتها وتمنحها عطفها، وتنفذ عليها أوامرها إجابة لداعي الغريرة الكامنة وإرهاصاً لما يكون منها بعد نموها
وأحياناً يحاول أن يتخلص من المادة فيعبد أرواحاً جناً أو ملائكة أو نحو ذلك، ولكن سرعان ما ينتكس ثانية فيسبغ عليها أوصاف المادة فيجعلها ذكوراً وإناثاً، ويجعل لها أجنحة تطير بها، ويجعل لها قروناً وذيولاً لأنه لم يرق حتى يستطيع أن يتحرر من عبادة المادة بتاتاً
كذلك كان العرب بل كان أكثرهم في حالة منحطة من عبادة المادة، يعبدون الحجر لا النجوم ولا الأرواح، ويأتمرون بأمرها في زعمهم في إقامة ورحيل، وإقدام وإحجام، وزواج وطلاق
وعبادة الأصنام كائنة ما كانت - تشل حركة العقل، وتضعف قوة النفس، وتحط الحياة الاجتماعية، وتجعلها حياة خرافية وضيعة. مثل هذه العقيدة تعوق العلم، لأن العلم لا يلائمها، وتعوق التفكير الصحيح لأنه ليس من طبيعتها، وتعوق التقدم الاجتماعي لأنه أساس إطلاق الفكر من قيوده، والفكر مشلول بعبادة الأصنام
ومن أجل هذا كان أهم ما أتت به سلسلة الأنبياء محاربة هذه العقيدة، وتخليص الفكر من قيوده التي قيدته بها العقيدة في الحجر والشجر، والنجوم والبحار والأنهار؛ وكان نجاحهم في أول الأمر قليلا قليلا، لأنه لم يكن يقوى على احتمال تجريد الإله عن المادة إلا القليل من الناس، وحتى في العصور الحديثة لا تزال النزعة إلى مادية الإله تتسرب في أشكال مختلفة، مع رقي العقل البشري ونموه ونضوجه
وقد بدأت هذه الدعوة إلى التجديد في الأمم السامية من عهد إبراهيم، واستمرت بين الظهور والخفاء، وكلما تقدم الناس كانوا أكثر لها استعدادا وأقرب قبولا، حتى أتى محمد (ص) فدعا دعوته الجريئة الصريحة إلى كسر الأصنام وتحطيم الأوثان وتخليص العقيدة من كل شرك، وتجريد الله من كل مادية؛ وكان شعار عقيدته (لا إله إلا الله)، ومدار عقيدته (ليس كمثله شيء)؛ فالأصنام ليست تصلح لشيء إلا للمعاول، والنجوم هو الذي خلقها ونظم حركاتها، والبحار والأنهار هو الذي خلقها وأجرى ماءها، والملائكة هو الذي خلقهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، لا شيء يشاركه في ألوهيته من مادة أو روح - هو حقيقة واضحة معقولة في شكل - غيبت عن العقول حقيقته، وظهرت لهم صفاته، فهو الخالق لكل هذه الظواهر، وهو الذي يسيرها، وهو غرضها الأسمى؛ هو وحدة لا تعدد بأي حال - تنزه عن المادة وتنزه عن الشريك
سلك القرآن في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا، فبعد أن أبان للإنسان أن الله خالق كل شيء، وأنه رب العالمين، طلب إليه أن ينظر إلى كل شيء في العالم من صغير وكبير، فسيرى فيه مظهراً من مظاهر الألوهية، ودليلا على عظمة الله وقدرته لم ينهج القرآن منهج الفلاسفة في دوران العقل حول نفسه ليستخرج منها نظريات مجردة، ومقدمات ونتائج منطقية، إنما طلب أن تمتزج النفس بالعالم، وأن ينفذ العقل إلى رب العالم عن طريق العالم، لأن هذه الطريقة أكثر إحياء للشعور، ومبعثاً لحياة القلوب؛ والإيمان ليس يعتمد على العقل وحده، بل هو يعتمد على القلب أكثر من اعتماده على العقل. من أجل هذا طلب القرآن النظر إلى كل شيء في العالم من الذباب والنحل والعنكبوت، إلى الفيل والجمل، إلى البحر والنهر، إلى السماء والأرض، إلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، إلى الشمس والقمر، إلى الليل والنهار. والقرآن مملوء بالآيات التي تصل الإنسان بالعالم، وتصل العالم بالقلب، وتبعث حرارة الإيمان بالله، وتملأ القلب حياة وحماسة. وهذا هو الذي ملأ صدر الصدر الأول من المسلمين بالعقيدة، وجعلهم يبيعون أنفسهم في سبيل الله عن سخاء. وهذا بعينه هو الذي شجع المسلمين على البحث العلمي، فقد اتجهوا إلى العالم يستدلون به على خالقه فدفعهم ذلك إلى العالم يتعرفون طبيعته وقوانينه، وهذا هو العلم. لم يطلب إليهم الإسلام أن يعيشوا في صوامع يديرون طاحونة العقل على هواء، بل طلب إليهم أن يتصلوا بالعالم يدرسونه وينظرون فيه خلقه وخالقهم، فكان ذلك داعية للعلم والمدنية معاً. لم يتطلب الإسلام من صاحبه أن يعيش عيشة روحية مطلقة مجردة عن المادة، بل طلب إليه أن يمزج الحياة الروحية بالحياة المادية، وأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يتزوج ويصلي، وأن ينعم بالحياة فلا يحرم على نفسه زينة الدنيا وطيبات الرزق كما ينعم بالنظر وبالتفكير في ملكوت الله، وبعبارة أخرى لم يتطلب الإسلام من الإنسان أن يكون ملكا، وإنما طلب إليه أن يكون إنساناً كاملا، يعيش وفق ما خلق، فقد خلق جسما وروحا، فلجسمه عليه حق، ولروحه عليه حق؛ فلا عجب بعدُ أن رأينا المسلم يساهم في بناء المدنية لأنها واجبه، وفي بناء الروحية لأنها مطلبه
لم ينح الإسلام منحى العلم، يقرر القوانين جافة جامدة كما تفعل العلوم الرياضية والطبيعية، وكما تفعل الميتافيزقيا اليونانية فهذا هو العلم؛ ولكنه سلك مسلكا سماه (الحكمة) وقال: (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)؛ وما الفقر بين العلم والحكمة؟ العلم هو هذا النوع من المعرفة التي تأتي من طريق الحواس وما تألف منها؛ فإذا نظمت هذه المعارف ووضعت كل طائفة منها في مجموعة سميت علماً. أما الحكمة فمزج الروح والنفس بالعالم، والعلم يغذي العقل وحده؛ أما الحكمة فتغذي العقل والمشاعر، وهذه المشاعر هي التي عبر عنها الدين بالقلب والفؤاد. إذا كان العلم ينظر إلى الإنسان فيقسمه إلى أجناس، وإلى أمم، وإلى ذكور وإناث، فالحكمة تنظر إلى الإنسانية في الإنسان وإلى الإنسانية التي من ورائها الله يسيرها وينظمها ويمنحها الوجود ويمدها بروح منه. وإذا كان العلم يقسم النبات إلى فصائل، ويميز اختصاص كل فصيلة، فالحكمة ترى في اختلاف أنواع النبات دليلا على القدرة الإلهية. وهكذا بينا في العلم تمد الطبيعة رباطا بينها وبين العقل، تمد الحكمة رباطين أولهما وأولاهما بينها وبين القلب، وثانيهما بينها وبين العقل
ومن أجل هذا عني القرآن بمظاهر الاختلاف بين القوانين الطبيعية أكثر مما عني بتقرير القوانين الطبيعية الجزئية، فهو يلفت النظر إلى الإنسان، كان نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم كان من المضغة عظام، ثم كسا العظام لحما، ثم كان ذلك إنسان
ولفت النظر إلى اختلاف الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، واسترعى النظر إلى السحاب يسير بإذن الله، ثم يمطر ماء فتكون منه زروع وجنات يأكل منها الإنسان والأنعام، وإلى الإنسان واختلاف ألوانه واختلاف ألسنته، وإلى حركة الماء في البحار والأنهار وتلاقيهما. وهكذا عُني القرآن بهذه المناظر المتغيرة، وبهذه الحركة الدائمة لأنها أمس بالشعور وأقرب إلى الحكمة وأدل على المحرك والخالق والمدبر، فكانت بذلك مبعث إيمان صادق حار لا يفتر
وقد غفل علماء الكلام من المسلمين عن الفرق بين العلم والحكمة، وبين الفلسفة والدين. وبين منهج القرآن ومنهج اليونان، فحولوا - وعلى رأسهم المعتزلة - الدين من القلب إلى العقل البحت، وألفوا العقائد في شكل قضايا منطقية، فتحجر الدين، وانقلب جسما جامدا لا روح فيه، فخمدت حرارته، وضعفت شعلته، وقل نوره وضياؤه
بهذه العقيدة التي ألممنا بها نقل الإسلام العرب من أفق خرافي ضيق كسم الخياط ينحصر في تقديس الحجر والرجوع إليه في أهم الأحداث، إلى أفق فسيح لا حد لسعته، يطالع فيه جميع المخلوقات في الأرض والسماء، ويسبح بعقله وشعوره فيها، ويمتزج بها، بل هو لا يقف عند ذلك، ويتعداه إلى إله مجرد عن المادة، ومنزه عن شبه المادة، يحكم العالم ويسيطر عليه، وينظمه ويسيره، وهو وحده لا شريك له رب العالمين
وضع الإسلام في يد العرب الذين كانوا يدينون بالأصنام معاول يكسرون بها الأصنام، وهم إذ كانوا يكسرونها حسياً كانوا يعلنون بعلمهم أنهم تحرروا من رق الخرافة، وسموا عن تقديس حجر، وارتفعوا بتفكيرهم وشعورهم إلى ما فوق المادة، واتصلوا بإله الكون يستمدون منه القوة، ونظروا من طيارة إلى من حولهم من الناس يرثون لحالهم، إذ رأوهم بائسين، كما كانوا هم بالأمس، من فرس مجوس يعبدون ناراً، وما النار إلا مخلوق ضعيف تشبه في ضعتها الأحجار التي كانوا يعبدونها أيام جاهليتهم، ومن رومان تركوا وراءهم دينهم الصحيح وأخذوا يعبدون شهواتهم فعبدوا الخمر وعبدوا النساء وعبدوا المال وعبدوا الجاه، وما كل ذلك إلا أصنام كأصنامهم التي حطموها بالأمس، وما هي إلا ضرب آخر من ضروب النار التي يعبدها المجوس تشب بين جوانحهم. هؤلاء الفرس وهؤلاء الرومان الذين كانوا بالأمس القريب، المثل الأعلى للعرب، والذين كانوا يرون في أعماق نفوسهم أنهم أنفسهم عبيد، وأن الفرس والروم سادتهم، وأنهم سوقة والفرس والروم ملوكهم، وأنهم أذلة والفرس والروم أعزة، وأنهم فقراء وأمل الآمل منهم أن ينال من متاجرته مع الفرس والروم شيئاً من فتاتهم ومما تناثر من أيديهم؛ هؤلاء الفرس والروم أصبحوا في نظر العربي المسلم أسرى عقائد فاسدة، وأسرى شهوات وضيعة، وأن مالهم وجاههم وعدتهم وزينتهم لا تساوي شيئاً بجانب صحة عقيدتهم هم، لقد كانوا ينظرون إليهم من غواصة فيحسدونهم على استنشاق الهواء على ظهر الأرض، فأصبحوا ينظرون إليهم من طيارة عالية جداً فيرونهم حشرات حقيرة تتقاتل على متع دنيئة، ويرونهم المثل الأدنى للإنسانية. وقد كانوا المثل الأعلى، وأنهم أحق بالعطف عليهم والأخذ بيدهم، وقد كانوا من قبل يستجدونهم ويستذلون لهم ويخطبون ودهم. لم يقلب هذا الوضع عند العرب إلا العقيدة، وكفى بها ثورة: ثورة في العقل وفي القلب وفي الخلق جعلتهم كأنهم خلق آخر
هذه العقيدة بما أضاءت وبما بعثت من حكمة جعلتهم فوق العلم. أن شئت فانظر إلى عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة، وسعد ابن أبي وقاص وأمثالهم - ماذا كانت ثقافتهم العلمية بالمعنى الذي نفهمه الآن؟ كانت لا شيء، أو كانت ضعيفة كل الضعف، فليسوا على علم واسع بقوانين الحساب والهندسة، ولا بالجغرافية، ولا بشيء من فروع العلم، ولكن أضاءت الحكمة أذهانهم وقلوبهم ففاقت العلم؛ وإلا فكيف استطاع عمر بن الخطاب - مثلاً - أن يدير هو وأعوانه مملكة الفرس والروم، وقد بلغتا في الحضارة شأواً بعيداً، يعرف أهلهما الجغرافية معرفة واسعة، ويؤسسون المملكة على نظم إدارية وحربية دقيقة، وعندهم علم وأدب وفن. لو عهد بإقليم من أقاليم الفرس والروم إلى عمر في الجاهلية لحار في إدارته وارتبك، ولساسه كما يرعى الشاه والإبل، ولكنه الإسلام وما بعث من حكمة غير نظره إلى الأشياء وجعله ينفذ ببصيرته إلى نظم الفرس والروم فيدرك منها الصالح وغير الصالح، ويعدل في إدارتها وشؤونها الاجتماعية تعديلاً لا يستطيعه العالم الماهر الذي تنتجه، حتى حضارة اليوم. فهو يغير من نظام الضرائب، وتوزيع الأراضي، وتدوين الدواوين، ويستطيع وهو في مكة أن يرسم خطة السير لحكومة تسوس العراق ومدن الفرس، كما تسوس الشام ومدن الروم! إنها إحدى العجائب الكبرى أن يصل بدوي إلى ذلك، وعهدنا بالبدوي الهمجي يخرب ولا يعمر، وإذا غزا وانتصر فكل مطمعه في الغنيمة. فما بال عمر وأمثال عمر يدخل التحسينات على الحضارة، ويقترح فيما يزيد العمران، ويبث في الحضارة القديمة روح العدل والإحسان؟ لا شيء غير العقيدة الإسلامية محصت نفسه، وطهرت قلبه، وجعلت نظره ينفذ إلى بواطن الأمور، يعدل على الذين لا يرون إلا الظواهر، ولا يهمهم إلا بهرجة الدنيا، والزخرف الظاهري
فإن نحن عددنا العقيدة الإسلامية - بالشرح القليل الذي شرحنا - أثمن ما قدمه الإسلام إلى المدينة لم نكن مبالغين
هذه العقيدة لا تقر بعظمة إلا عظمة الله، ولا تقر بتقديس ملك ولا بامتياز لرجال دين، ولا تعترف بوساطة أحد بين الإنسان وربه، ولا بأي نوع من أنواع الأرستقراطية: لا أرستقراطية المال ولا أرستقراطية العلم ولا أرستقراطية رجال الدين. كل الناس سواء. الناس من تراب وإلى التراب يعودون. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وخير الناس أنفعهم للناس
(البقية في العدد القادم)
أحمد أمين