مجلة الرسالة/العدد 146/الساعات العربية

مجلة الرسالة/العدد 146/الساعات العربية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



بقلم السيد أحمد دهمان

لما شعر الأقدمون بحاجتهم الماسة إلى معرفة الأوقات، اهتدوا بعد التأمل والتفكير إلى اختراع الساعة الرملي، وهي ساعة بسيطة التركيب، تتركب من قارورتين قد ألصقت فوهة إحداهما بفوهة الأخرى بواسطة الشمع، وملئت العليا رملاً، فينزل الرمل بالتدريج إلى السفلى من ممر بينهما صنع بنسبة مقدرة، وتقلب الساعة عندما تفرغ العليا من الرمل، وهكذا دواليك

فإذا أرادوا معرفة الوقت نظروا إلى مقدار الرمل الباقي في العليا، أو إلى مقدار ما نزل منه إلى السفلى

ولبثت هذه الساعة شائعة الاستعمال عند بعض قرويي دمشق حتى قبيل الحرب العامة. وقد أدركنا أحد الشيوخ المسنين يصنعها ويبيعها في حانوت له خارج باب دمشق الغربي (في سوق المسكية)

أما الساعة المائية التي شاعت عن الكلدان والهنود فهي كالساعة الرملية، بإبدال الرمل بالماء، وكانت أقل دقة منها، لأن اختلاف الجو برداً وقيظاً كان ينقص مقدار الماء

وكان ألفرد الكبير عاهل الإنكليز يأمر باتخاذ شمع طول الواحدة منها اثنتا عشرة إصبعاً، مقسمة بعلامات خاصة إلى أربعة وعشرين قسما، عدد ساعات الليل والنهار، وكانت توقد ليلاً ونهاراً، ويجعل أمامها جسم شفاف وقاية لها من الريح

أما العرب فقد تفننوا في صنع الساعات مستندين إلى فن الهندسة، واخترعوا لها آلات عجيبة أصبحت فيما بعد أساساً للساعات التي نراها اليوم

وقد بدأ شيوع استعمال الساعات في البلاد العربية منذ القرن السادس للهجرة وبقي حتى الثامن، فكان في مراكش وتلمسان والأندلس ومصر وبغداد ودمشق عدة ساعات تنصب في الأماكن العامة لمعرفة الأوقات، وسنأتي على ذكرها مفصلاً

مهندسو الساعات

اشتهر في تلك العصور كثير من المهندسين العرب الذين تخصصوا في صنع الساعات، وكانوا يديرون آلاتها بواسطة الماء إلى أن جاء ابن الشاطر المهندس الدمشقي فسعى ف ترقيتها وتوصل لجعلها صغيرة الحجم بالنسبة لغيرها من الساعات، وأصبحت تعلق على الجدران ولا تحتاج آلاتها إلى الماء، فكانت أقرب ما تكون إلى الساعات المستعملة اليوم. واليك تراجم أشهر من اشتغل بصنع الساعات:

محمد رستم الساعاتي - أصله من خرسان قدم دمشق وأقام بها، وكان أوحد أهل زمانه في علم الفلك وصنع الساعات. قال ابن أبي أصيبعة: وهو الذي صنع الساعات التي عند باب الجامع بدمشق، صنعها في زمن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وكان له الإنعام الكثير والجامكية والجراية لملازمته صنع الساعات إلى أن توفي - ولم يذكر سنة وفاته

أبو عبد الله بن القيراني - هو محمد بن نصر بن صُعيَر، ولد بعكا سنة 487 أديب شاعر، كان بينه وبين ابن منير الشاعر الطرابلسي المشهور مكاتبات وأجوبة ومهاجاة، ومع ذلك فقد كان بارعاً في العلوم الرياضية من حساب وفلك وهندسة، تولى إدارة الساعات بدمشق، ثم رحل إلى حلب، ثم رجع إلى دمشق وتوفي بها في 11 شعبان سنة 548

محمد بن عبد الكريم الحارثي - لقبه مؤيد الدين، وكنيته أبو الفضل، كان معروفاً بالمهندس، ولد ونشأ بدمشق، وكانت حياته نادرة من نوادر الدهر تجلى فيها النبوغ الشرقي، فقد كان في أول أمره نحاتاً ينحت الحجارة، ثم صار نجاراً فبرّز على النجارين في حسن الصنعة؛ وأبواب البيمارستان النوري بدمشق من صنعه؛ ثم تعلم الهندسة لتزداد براعته في النجارة، وقد وصف المدرسة التي تعلم فيها الهندسة بقوله: (كنت أشتغل في مسجد خاتون الذي تحت المنيبع غربي دمشق، وكنت لا أصل إلى المسجد إلا وقد حفظت شيئاً من كتاب أقليدس وحللت بعضاً من مسائله إلى أن أتممته حفظاً وفهماً)، ثم قرأ المجسطي وحلّ مسائله أيضاً، وانصرف إلى الهندسة انصرافاً تاماً، حتى اشتهر بعد ذلك بالمهندس

وقدم دمشق الشرف الطوسي وكان إماماً في العلوم الرياضية فقرأ عليه ما نقصه من الحساب والهندسة والفلك

وقرأ بعد ذلك علم الطبي على أبي المجد محمد بن أبي الحكم، إلى أن برع فيه، وتعين طبيباً في البيمارستان النوري، مهندساً لساعات المسجد الأموي وكان يتقاضى مخصصات منهما وفي زمنه تخربت ساعات المسجد الأموي فأصلحها أحسن تصليح: من مؤلفاته. رسالة في معرفة رسم التقويم، مقالة في رؤية الهلال، اختصار كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، عشرة أجزاء وقفها في المسجد الأموي بدمشق وجعلها في مشهد عرِوة، كتاب الحروب السياسية، كتاب في الأدوية المفردة مرتبة على حروف الهجاء، توفي بدمشق سنة 599

ابن الشاطر - هو أبو الحسن علاء الدين، علي بن إبراهيم ابن حسان الأنصاري الدمشقي، نشأ يتيما فتعلم صنعة تطعيم العاج من زوج خالته، ثم تعلم العلوم الرياضية والفلكية، فلقب بالمطعم وبالفلكي

رحل إلى مصر والإسكندرية ليأخذ العلوم الرياضية عن أربابها وكان صاحب ثروة. ويقول ابن العماد أن داره من أحسن الدور وضعاً وعزابة. ويقول الصلاح الصفدي: (دخلت منزله في شهر رمضان سنة 743 لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعه فوجدته قد وضعه في قائم حائط في منزله داخل باب الفراديس بدرب الطيار، ورأيت هذا الإسطرلاب فأنشأ لي طرباً، وجدد لي في المعارف رأياً، وقلت أن من تقدمه من الأفاضل عند جبل علمه الراسخ هباء. . . (إلى أن قال: (وصورة هذا الإسطرلاب المذكور قنطرة نصف أو ثلث ذراع تقريباً يدور أبداً على الدوام في اليوم والليلية من غير ماء وعلى حركات الفلك، لكنه قد رتبها على أوضاع مخصوصة تعلم منها الساعات المستوية والساعات الرملية الزمانية.)

ومما ذكره الصفدي وسماه إسطرلاباً يعلم أن ابن الشاطر أول مخترع لساعات الجدران وأن ما سماه إسطرلاباً ليس بالإسطرلاب المشهور، لأن اختراع الإسطرلاب المعروف قديم جداً، وإنما هو اختراع جديد من وضع ابن الشاطر

ومن أعمال ابن الشاطر البسيط الذي وضعه في منارة العروس إحدى منارات المسجد الأموي؛ وقد زينت دمشق يوم وضعه وبقي فيها إلى سنة 1293 فاختل وضعه من مرور السنين عليه ومال أحد جوانبه، ولما أريد إصلاحه انكسر فصنع بدلا منه العلامة المرحوم الشيخ محمد الطنطاوي، جدّ بني الطنطاوي بدمشق، وجعل حسابه على الأفق الحقيقي، وزاد فيه قوس الباقي للفجر، فجاء في غاية الضبط والإتقان، جزاه الله خير الجزاء. وقد قال الشيخ عبد المجيد الخاني من قصيدة مؤرخاً له:

ما قال أهل الشام في تاريخه ... تم البسيط بنفحة القدوس ولابن الشاطر المذكور اختراعات عديدة من آلات فلكية وهندسية، وله آراء ونظريات في الحساب والجبر والهندسة والفلك، أضحت مصباحاً مشرقاً لمن جاء بعده. وتولى في المسجد الأموي وظيفة التوقيت ورياسة المؤذنين، وله مؤلفات عديدة ذكر أكثرها في كشف الظنون. توفي سنة 777

علي بن ثعلب الساعاتي: - هو نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي، تولى تدبير ساعات المدرسة المستنصرية في بغداد؛ وكان مولده سنة 601 وتوفي سنة 863

وإليك بعد هذه التراجم بعض ما وفقت عليه من وصف تلك الساعات

1 - ساعة هارون الرشيد

ذكر فولتير وغيره من المؤرخين الفرنسيين أن أول ساعة عرفت في أوروبا هي الساعة التي أهداها أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا سنة 807 وكانت بدعاً في ذلك العصر، حتى أنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولا؛ كان لها اثنا عشرة باباً صغيراً بعدد الساعات، فكلما مضت ساعة فتح باب وخرجت منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صور أثنى عشر فارساً على خيل تدور على صفحة الساعة. ولم تقف لهذه الساعة على ذكر فيما اطلعنا عليه من الكتب العربية

2 - ساعة مسجد مراكش

ذكرها القلقشندي في صبح الأعشى فقال: وبمراكش جامع جليل يعرف بالكتبين، طوله مائة وعشر أذرع، وعلى بابه ساعات مرتفعة في الهواء خمسين ذراعا، كان يرمى فيها عند انقضاء كل ساعة صنجة زنتها مائة درهم تتحرك لنزولها أجراس تسمع على بعد

3 - ساعة الملك الكامل

ذكرها القليوبي في نوادره فقال: إن السلطان الكامل كان عنده شمعدان فيه أبواب، فكلما مضت ساعة يخرج من باب منها شخص يقف في خدمته إلى مضي ساعة، وهكذا إلى تمام الأبواب اثنتي عشرة ساعة، فإذا تم الليل خرج شخص فوق الشمعدان ويقول: أصبح السلطان؛ فيعلم أن الفجر قد طلع فيتأهب للصلاة. وهذه الساعة مصرية لأن إقامة الملك الكامل كانت في مصر

4 - ساعة المدرسة المستنصرية ببغداد

جاء في مجلة - الزهراء - السنة الثالثة - ص 254 ما نصه (من مخطوطات الخزانة التيمورية بالقاهرة جزء قديم (في كتب التاريخ رقم 1383) من كتاب مجهول الاسم والمؤلف. رتبه مؤلفه على السنين. وما في هذا الجزء من سنة 626 إلى 700 وقد جاء في حوادث سنة 633 منه وصف للساعة التي وضعها أمير المؤمنين المستنصر في مدرسة الطب والمستشفى التابعين لمدرسته العظمى المعروفة باسم (المستنصرية) وقد أدخل العلامة أحمد تيمور باشا وصف هذه الساعة في كتابه (التصوير عند العرب) الذي لم يطبع بعد. فآثرنا التعجيل بنقل ذلك إلى قراء الزهراء:

(وفيها - أي في سنة 633هـ - تكامل بناء الإيوان الذي أنشئ مقابل (المدرسة المستنصرية) وعُمل تحته صّفة يجلس فيها الطبيب، وعنده جماعته الذين يشتغلون عليه بعلم الطب ويقصده المرضى فيداويهم

وبني في حائط هذه الصفة دائرة. وصورت فيها صورة الفَلك، وجعلت فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة: وفي الدائرة بازان من ذهب، في طاسين من ذهب. ووراءهما بندقتان من شبَهٍ لا يدركهما الناظر

فعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازين، وتقع منهما البندقيتان وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب تلك الطاقات، والباب مذهب فيصير حينئذ مفضضاً. وإذا وقعت البندقتان في الطاسين تذهبان إلى موضعهما. ثم تطلع أقمار من ذهب في سماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقة، وتدور مع دورانها وتغيب مع غيبوبتها، فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها، كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر، ثم تبتدئ في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل الشمس، فتعلم بذلك أوقات الصلوات)

ثم أورد صاحب هذا التاريخ المخطوط أبياتاً لشاعر من شعراء ذلك العصر الذهبي يذكر بها هذه الساعة:

(يا أيها المنصور يا ملكاً ... برأيه صعب الليالي يهون

شيدت لله ورضوانه ... أشرف بيان يروق العيون إيوان حسن وضعه مدهش ... يحار في منظره الناظرون

صور فيه فلك دائر ... والشمس تجري ما لها من سكون

دائرة من لازورد حكت ... نقطة تبر فيه سرّ مصون

فتلك في الشكل وهذي معاً ... كمثل هاء ركبت وسط نون)

وجاء في حوادث سنة 603 من هذا المخطوط أن نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي توفي في تلك السنة، وكان يتولى تدبير الساعات التي تجاه المستنصرية، وأن مولده كان سنة 601 هـ

5 - ساعة المدرسة القمرية بدمشق

نسبة لمنشئها الأمير سيف الدين علي بن يوسف القمري، أنشأها في نصف القرن السابع الهجري، ثم نسبت المحلة التي فيها المدرسة للمدرسة، فقيل حي القمرية، والقمري نسبة لقيمر قلعة بين الموصل وخلاط. وكان سيف الدين القيمري أميرا كبيرا وشجاعاً باسلا، وهو الذي أسر (لويس التاسع) إمبراطور فرنسا سنة 648 بين المنصورة ودمياط. وله في دمشق أعمال خيرية، فقد بنى فيها مارستاناً ومسجدا ومدرسة تسمى القيمرية الكبرى، وتعرف الآن بمدرسة القطاط، وكان على باب هذه المدرسة ساعة مهمة بلغت مصاريفها كما يقول العلموي أكثر من أربعين ألف درهم. وهذه الساعة وإن لم نطلع على وصف لها، فإنا نستفيد من نص العلموي مقدار المصروف عليها

6 - ساعة باب جامع دمشق الشرقي

يعرف هذا الباب بباب جيرون، وقد شاهدها ابن جبير الرحالة المشهور فوصفها بقوله: (وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صُفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صِفر من فمي بازين مصورين من صفر (نحاس) قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبوار، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانها بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دويّ وينغلق باب تلك الساعة لحين بلوح من الصفر، ولا يزال كذلك عند انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول

ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطبقات المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله خلف الطبقات المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها بعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها)

وهناك ساعة ثانية على باب جامع دمشق القبلي ويعرف هذا الباب بباب الزيارة، ويقول النعيمي إن مكانها في العنبرانية - المشهورة في عصرنا بالعمرانية، ويقول ابن كنان إنها من عمل أبي الفضل الحارثي الدمشقي المهندس، وقد تقدمت ترجمته - وصفة هذه الساعة هي: بيكار (لعله بنكام) عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس، وغراب من نحاس.

فإذا تمت الساعة خرجت الحية، وصفرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست

7 - ساعة ابن الشاطر

تقدم ذكرها في ترجمته، ويمكن القول بأن ساعة ابن الشاطر آخر طراز وصلت إليه الساعة العربية، وقد أخذ الغربيون هذا الطراز عنها في ساعات الجدران، وقد اطلعت على ساعة قديمة أوروبية ترجع في تاريخ صنعها إلى ما قبل ثمانين سنة، إذا مضت ساعة من الوقت يخرج عصفور من باب في أعلاها ويصيح

دمشق

أحمد دهمان