مجلة الرسالة/العدد 146/زوجة وفت!. .
مجلة الرسالة/العدد 146/زوجةٌ وفَت!. .
للأستاذ محمد سعيد العريان
هم الفتى (أبو العاص ابن الربيع. . .! ابن عبد شمس) ينصرف من مجلس خالته (خديجة بنت خويلد) رائحاً إلى داره، وإن في نفسه لحديثاً ما إن يحاول بيانه ولا طاقة له بأن يكتمه. . ونظرت خديجةُ في وجه الفتى الذي اتخذته ولداً، وقد ثكلت الولد، فأنكرته وما نَكِرتْ حديث عينيه؛ ثم عادت تنظر إلى ابنتها (زينب) فتطيل النظر، فما لبثت أن ألهمت الرأي مما نظرت في وجه الفتى والفتاة. . . .
وسعت خديجة إلى زوجها تستعينه وتشير عليه: (يا محمد! أرأيت إلى ابن أختي (هالة) - أبي العاص بن الربيع - إنه لذو جاه ومال وأمانة، وهو منا ومنك حيث علمت، نعم الفتى القرشيّ. . . أفترى أن نتخذه ختَناً وولداً فتزوجه زينب. . .؟)
وافتر ثغر النبيّ الكريم عن ابتسامة الرضى، فما كان ليخالف خديجة في رأي تراه، ولها في نفسه ما لها من الحب والإعزاز، وهي في نفسها مَن هي في أصالة الرأي وحسن التقدير. . .
وزفت زينب بنت محمد إلى أبي العاص بن الربيع. . .
ومضت خديجة إلى الزوجين المتحابين تبارك لهما وتدعو، أطيب ما تكون نفساً وأهنأ فكراً. . . ومدت يمناها إلى طوقها لتخلع قلادتها لتجعلها في عنق زينب، هديةَ عروس. .
ونعم الزوجان بالسعادة حيناً في دنيا من الحب والفاء والإيثار. . .!
وأشرقت الأرض بنور ربها، وانبثق الفجر من غار حراء، يسعى محمدٌ في نوره داعياً إلى دين الله وإلى نبذ الشرك وعبادة الأوثان؛ فصدّق من صدّق واتبعه على هدى وبصيرة، ولجّ من لج في الطغيان والعناد، وآمنت زينب فيمن آمن، ولكن أبا العاص لم يَهُن عليه أن يخلع دينه. . . وضرب الزمن ضربته بين القلبين المتحابين فباعد بينهما إلى حين
أسفت زينب، ونال منها إصرار أبي العاص على الكفر أي منال، وأسف أبو العاص، ونال منه إسلامُ زوجته مثلَ ما نال منها كفره؛ وشعر كلا الزوجين أن قوة أكبر من الحب تحاول أن تفصم عروته وتحلّ وثاقه: أما أحدهما فأعلن التمرد والعصيان، وقال لصاحبته: (لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني، فلن أسلمك للفراق. . . .!)، وأما هي فقالت: (قليلا يا صاحبي، لست حلاً لك وأنت على ذاك الدين، فأسلمني لربي أو أسلم معي. . لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت!)
واصطرعت في نفس الزوج المحب قوتان تتجاذبانه: حفاظه على ذلك الدين الذي أورثه آباؤه، وذلك الحب الطاغي المستبد الذي يحاول أن ينتزع امرأة مسلمة من دينها الذي آمنت به. . وأطرق الزوجان ساعة، ثم التقى النظران. . . وفرق الدين بينهما جسدين، وظل قلباهما مؤمنين بالحب؛ وعاشا يظلهما سقف واحد ولا يلتقيان إلا نظرات. . . وتصرمت سنون. . .
ودعت قريش إلى النفير العام: (يا أهل مكة، إلى بدر، إلى بدر؛ إن محمدا وأصحابه قد وقفوا لتجارتكم على الطريق بين الشام ومكة، فرُدوا عليهم كيدهم. . .!)
وخرج أبو العاص فيمن خرج من المشركين إلى لقاء محمد وأصحابه في بدر، ليُجازوهم بما اعتدوا؛ وظلت زينب في دارها تنتظر. . . إن هنالك قوتين تصطرعان، وموجتين تتدافعان، ما تدري لأيهما تتمنى الغلبة، بلى؛ إنها لتدري، فهنالك أبوها محمد، لو لم تحببه وتتمنّ له النصر لأنه أبوها، لأحبته وتمنت له النصر لأنه رسول الله، لأنه قائد جيش الإسلام، لأن إلى جانبه في الصف أخوتها في الله. . . ولكن. . . ولكن زوجها. . . وجلست تدعو الله: اللهم اجعل الدائرة على المشركين، ولكن نج أبا العاص. . .!
وعاد الركب المنهزمون ينبئونها: (يا زينب، لقد دارت علينا الدائرة، ونال منا المسلمون كلّ منال، يا زينب، ولكن أبا العاص في الأسرى، لا ندري ماذا سيفعل بهم أصحاب محمد. . .!)
فما توانت الزوجة الوفية هنيهة؛ لقد كان لديها من مال زوجها ما تفتديه به، لديها المال والنعم، ولكنها نظرت أمراً. . . ورفعت يدها إلى صدرها فخلعت قلادتها، ثم شيعت بها الرسول يفتدي بعقد خديجة ابن أخت خديجة وختَنَ محمد. . . وجعلت هدية عرسها من أمها مهر الحرية للزوج الذي فقدته مرتين. . .
وذهب رسول زينب يسعى عن أمرها حتى وقف على محمد: (يا محمد، هذا مال من مال أبي العاص، وهذه قلادة خديجة بنت خويلد، بعثتني بهما زينب في فداء أبي العاص. . .!)
ونظر رسول الله إلى القلادة نظرةً جمعت له الزمان كله في لحظة فكر، واحتشدت صور الماضي أمام عينيه من خلل حبات العقد الغالي، ورفّت في ذهنه صورٌ حبيبة إليه، فكأنما نشرت خديجة من موت، وكأنما انطوت البيداءُ بزينب، فاجتمعتا إليه تسألان العفو عن هذا الأسير. . . ونظر محمد في أصحابه فقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا. .!)
وعاد أبو العاص إلى مكة، وفي نفسه صورة أكثر إشراقاً لهذه الزوجة البرة الكريمة، ولكنه عاد لا ليشكر لها ما منّت عليه، بل ليقول: (عودي إلى أبيك يا زينب!) وفاء بما أخذ عليه رسول الله من عهد بأن يطلقها تسير إليه. . . وخنقته العبرة فما استطاع أن يتمالك ولا أن يشيعها إلى طرف البادية؛ ومن أين له أن يجد في نفسه القدرة على توديع من يحب، وإنه ليعلم أنه الوداع الأخير مادام سلطان هذا الدين قائماً بين القلبين. . .!
ومضى يقول لأخيه كنانة ابن الربيع: (يا أخي، إنك لتعلم موضعها من نفسي، فما أحب أن لي بها امرأة من قريش؛ وإنك لتعلم أن لا طاقة لي بأن أفارقها، فاصحبها عني إلى طرف البادية، حيث ينتظرها رسولا محمد (ببطن يأجج)، وارفق بها في السفر، وارعها رعاية الحرمات ولو نثرت دونها كنانتك، لا يدنو منها رجل حتى تبلغ. . .!)
وافترق الزوجان فلا سبيل إلى لقاء؛ وأقام أبو العاص بمكة لا يعيش في أيامه، وأقامت زينب عند رسول الله بالمدينة معتلّة البدن واهنة القلب، لولا الإيمان والتقى يشدان من عزمها ويربطان على قلبها لأعجلها الموت ولم تظفر بلقاء. . .
ومضت سنوات وسنوات؛ وخرج أبو العاص في تجارة إلى الشام، يحمل من أموال قريش وبضاعتها فوق ما يحمل من ماله وبضاعته، وبلغ حيث أراد، فباع واشترى وتعوض، ثم قفل راجعاً بمال كثير وربح جم؛ وفيما هو على الطريق إذ لقيته سرية لرسول الله ﷺ، فأصابوا ما معه وأعجزهم هارباً؛ وآب المسلمون إلى المدينة فرحين بما أفاء الله عليهم، ووقف أبو العاص على رأس شاهقة يتلفّت صِفر اليدين، فما وجد إلا الصحراء تبرق بالحصى، ومد النظر إلى البعيد، فما عرف له طريقاً يسلك، وخُيّل إليه أن وراء كل ثنية فارساً معلماً يتربص به لقد فقد ماله ومال الناس، ولا سبيل إلى أن يرد الأمانات إلى أصحابها، وإنه لموشك أن يفقد حياته بعدما فقد ماله وأمانته؛ واجتمع عليه الهم فما درى أين النجاة لنفسه ولعرضه مما عرض له، إن النحس ليلاحقه في كل مسير. . .
وعادت إليه الذكرى، ورجع الزمانُ القهقري أمام عينيه، كما يجتمع التاريخ بزمانه ودنياه في لحظة ومكان لعيني محتضر؛ وتذكر من قريب تلك الحبيبة التي أحيته مرتين: حين وهبت له الشعور بالحياة في الحب، ثم حين وهبت له الحياة نفسها وافتدته عند أبيها بقلادة خديجة. . . وخُيل إليه أنه يراها، وأنه يحدثها فتستمع إليه، فهمس: (أتهبين لي الحياة ثالثة يا زينب. . .!)
وأقبل أبو العاص إلى المدينة تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله؛ فاستجارها وطلب إليها أن تعينه على رد ماله، فأجارته. . .
وأصبح الناس يسعون إلى المسجد، وكبر رسول الله ﷺ وكبر معه؛ وإذا صوت يهتف من وراء جدار: (أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. . . فهو في حمايتي وأمني!) وكانت زينب هي التي تهتف. . .
وفرغ النبي من صلاته فأقبل على الناس فقال: (أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟. . . أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم. أنه يجير على المسلمين أدناهم. . .!) ثم دخل على ابنته فحدثها وحدثته. وأكبر محمد أن يرى في ابنته هذا الوفاء لزوجها الذي فارقته لأمر الله، وامتنعت عليه لأمر الله، وقطعت ما بينه وبينها من شهوات النفس لأمر الله؛ ثم ما برحت مع كل أولئك تمنحه البر والوفاء والمعونة؛ برّ المسلمة، ووفاء الصديقة، ومعونة الإنسان. . . ونال من نفس النبي ما سمع وما علم، فأضمر في نفسه رجاء إلى الله. . .
ثم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال: (إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً؛ فإن تحسنوا وترددوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك؛ وأن أبيتم، فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. . .) قالوا: (بل نرده عليه. . .). وقال نفر منهم: (يا أبا العاص، هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؟ فأنها أموال المشركين. . .) فقال الرجل: (بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. . .!) واستعلنت كبرياؤه وأمانته وهو بين ذلة المستجير وأسر الفقر، وأطلت نفسه المؤمنة بفطرتها من وراء ظلمات الشرك الذي يجهر به، مستكبراً أن يبيع دينه بالمال. . .!
وردوا إليه ماله، كرامة لرسول الله وإكباراً لزينب، وعاد الرجل إلى مكة بماله ومال الناس، ونفسه تفيض بمعان شتى، وبين عينيه صورة لا تفارقه، وفي قلبه وجيب لا يهدأ، وعلى طرف لسانه كلام. . . فلما بلغ أدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال: (يا معشر قريش، هل بقى لأحدكم منكم عندي مال؟) قالوا: (لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً.) قال: (فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. . .)
وخرج أبو العاص بن الربيع إلى المدينة يهديه نوران في قلبه وأمام عينيه، وسار في مثل موكب العروس تتدافعه المنى على رمال الصحراء، إلى حيث يجد نور اليقين وأنس الحبيب، في حديث محمد وفي وجه زينب، وتلاقى الزوجان المتحابان مرة ثانية، بعد فراق طويل مر من دونه سنوات وسنوات، ولكن الزوجة الوفية كانت قد أدت واجبها وفرغت من دناياه حين هدتِ الرجل الذي أحبته ووفت له بمقدار ما أحبها ووفى؛ فما مضى زمان بعد هذا اللقاء استكمل فيه الرجل أسباب دينه، حتى كانت هي قد استوفت أنفاسها على الأرض؛ وماتت زينب ولكنها خلفت ذكرى أطيب الذكرى، وضربت المثل أبلغ المثل، في وفاء الزوجة، وإخلاص المحبة، وصدق الإيمان
محمد سعيد العريان