مجلة الرسالة/العدد 146/صور من التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 146/صور من التاريخ الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



أم المؤمنين خديجة بنت خويلد

للأستاذ عبد الحميد العبادي

كم يود صاحب هذا المقال لو كان شاعرا وثاب الخيال، مطلق العاطفة، جزل الألفاظ، سري المعاني! إذاً لاستطاع أن يصوغ للقراء من سيرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قصيدة عصماء يضمنها مناقب تلك السيدة الجليلة، وما مناقبها إلا مناقب المرأة الكاملة من جمال، وطهر، وعفاف، وزوجية بارة، وأمومة صحيحة، ومواساة في أشرف معانيها

ولكن صاحب هذا المقال، وا أسفاه! ليس شيئاً من ذلك الشاعر الذي يتمنى أن يكونه. إن هو إلا مؤرخ يعرض لوقائع الحياة العامة من ناحيتها الوضيعة جهد طاقته، ويشد خياله الراكد إلى تلك الواقع، فلا يأذن له ولا بمحاولة التطاير والتحليق، ويكتم عاطفته حتى لا يطغي عليه سلطانها فيتنكب سبيل المؤرخ الذي همه البحث والتحقيق، ثم العرض البسيط للأشياء؛ فليقنع القارئ الكريم بالصورة المجملة التي أرسمها في هذا المقال، حتى يتأذن الله بظهور شاعر عظيم ينظم الإلياذة العربية، فيطالع فيها إذ ذاك فصلا عن تلك السيدة يكون من أبلغ ما خطه يراع شاعر وأروعه

كانت جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي قد أخذت تتهيأ للأحداث الجسام التي تمخض عنها القرن السابع، وقد بدا ذلك التهيؤ في جميع مناحي الحياة العربية العامة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ونحن إنما تهمنا في هذا المقام الناحية الاجتماعية، ويهمنا منها بصفة خاصة نظام الأسرة. كان نظام الأسرة قد أخذ يتحول في حواضر الحجاز عامة ومكة خاصة إلى النحو الذي أقره في جملته الإسلام فيما بعد، فأخذت تتلاشى ضروب الازدواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحا، ويحل محلها نظام الزواج القائم على التراضي والتعاقد. وصاحب هذا التطور الخطير في بناء الأسرة تطور خطير مثله في مكانة المرأة الاجتماعية؛ فبعد أن كانت المرأة العربية ليس لها حق التمسك ولا حق الإرث، بل بعد أن كانت هي نفسها تملك وتورث في بعض الحالات، أصبحت تستمتع بحق الملكية وحق الميراث وحق التصرف في مالها، وحق مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرية المستحدثة جعلت المرأة العربية عاملا فعالا في الحياة المكية العامة قب وفي عصر النبوة

ولدت خديجة بمكة حوالي منتصف القرن السادس المذكور، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان خويلد ممن قاد قريشا في حرب الفجار، ثم هي ابنة فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي، ولا نعرف عن فاطمة شيئا، غير أن الذهبي يقول في جدها عمرو بن خنثر المزني أنه كان من أبطال الجاهلية. فنسب خديجة خديجة لأبيها وأمها يدل على أنها تنتمي إلى بيت من أعز بيوت قريش هو بيت عبد العزى ابن قصي، وإلى قبيلة من أعز قبائل مضر هي عامر بن لؤي؛ واكتنف عمود هذا النسب الجليل فروع وحواش زاهية زاهرة، نعد منها عم خديجة عمرو بن أسد وكان سيدا من سادات قريش، وأبناء عمومتها حكيم بن حزام، وورقة بن نوفل وأخته قتيلة بنت نوفل، فأما حكيم فكان صاحب مروءة وعاطفة طيبة تتجلى في صنيعه لبني هاشم والمطلب عندما حصرتهم قريش في الشعب، وأما ورقة بن نوفل فكان معدودا في تلك العصبة المستنيرة التي يعرف آحادها باسم (المتحنفين) قد ترك الوثنية، وتنصر وقرأ التوراة والإنجيل، وكتب العبرانية، وشاركته أخته قتيلة في ميوله الأدبية والدينية، فكانت (ممن ينظر في الكتب) على حد تعبير القدماء؛ ومن هذه الفروع أخو خديجة العوام بن خويلد، وكان من رجالات قريش، وهو والد الزبير بن العوام حواري رسول الله

فخديجة من أوسط قريش نسباً، كما يقول مؤرخو العرب، وإذا جاز للمؤرخ أن يلحظ عمل الوراثة في هذا المقام، فإنا نقول أنها ورثت عن أبويها مزايا السؤدد العربي، من نبل وكرم خلق ووفاء وشجاعة؛ كما لقفت من عمومتها تلك الاستنارة العقلية، وذلك السمو الروحاني الذي أعدها لتقدير الدعوة الإسلامية وقبولها عن طيب نفس وطواعية خاطر

تزوجت خديجة مرتين في مقتبل حياتها وقبل تزوجها من محمد بن عبد الله. تزوجت للمرة الأولى من عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، ثم مات عنها عتيق فتزوجت بعده أبا هالة هند بن زرارة التميمي. ثم توفى أبو هالة فغدت أيما. وقد ورثت على ما يظهر عن أبويها وزوجيها ميراثاً قيما رأت أن تقوم على استغلاله في التجارة التي كانت مرتزق قريش في ذلك الزمان. فكانت كما يحدثنا الرواة تستأجر الرجال في الاتجار بمالها لقاء نصيب تسهمه لهم من الربح لكن خديجة الحسيبة النسيبة، الثرية الوسيمة، لم تزل بعد نصفاً في النساء، عوانا بين الشباب والكهولة، قد شارفت الأربعين ولما تعدها، وهي سن لها عند بعض النساء جمال وروعة، وملاحة وأخذة، وكان غير واحد من كبار قريش حريصاً على خطبتها، ولكن خديجة كانت تتأبى على الخطاب، لا رغبة منها في العزوبة، فهي أعمر قلباً وأنظر شباباً من أن ترغب فيها، ولكن لأن الأيدي التي كانت تمتد لخطبتها ليست من الطراز الذي يعجبها. لقد نضج عقلها، وكبر قلبها، وأصبح كل منهما ينشد الكفء والمثيل، ومن لها بالعقل الراجح، والقلب الكبير في مجتمع خشن، كثيف، غليظ؟ أصبحت لا يروقها ذلك السؤدد العربي الجاهلي بما ينطوي عليه في واقع الأمر من بداوة وأعرابية، لا يمكن أن تفيء منهما إلى ظل ظليل

وبينا خديجة تروض النفس على احتمال الحياة الجديدة إذا بقلبها قد أخذت تنطبع عليه شيئاً فشيئاً صورة نجم شارق في أفق المجتمع المكي، ويوشك أن يتكشف عن كوكب وقاد يملأ الكون نوراً هادياً. وحرارة تبعث فيه الحياة قوية بعد أن لم يبق منها إلا الذماء ولقد كانت تلك الصورة منتزعة من الحقيقة لا من الوهم ولا الخيال. أنها كانت صورة فتى لا يزال مغمورا، ولكن كل مخايله كانت تؤذن في نظر خديجة بأنه سوف يأخذ بزمام العالم ويوجهه وجهة جديدة. ذلك الفتى محمد بن عبد الله

كان محمد إذ ذاك شاباً قد ناهز الخامسة والعشرين من عمره، سوي الخلقة، مشرق الطلعة، نبيل المظهر، كريم المخبر، وكان يحيا حياة لعله لم يكن يحياها بمكة أحد غيره. كان زاهداً في الناس، عزوفاً عنهم، إلا ما اقتضته ضرورة المعايشة والمساكنة، نزوعاً إلى التفكير، محباً للعزلة، قادعاً للشهوة رداعاً للنفس، فأوشك بذلك أن يستغني بنفسه عن غيره. وغدا أنسه في وحشته وانبساطه في انقباضه، وغناه في إقلاله. قد حد ما بينه وبين الناس بحد واضح المعالم. ثم لم يأذن لعلاقته بهم أن تتجاوز هذا الحد فتنغص عليه نعمة بالهن وتفسد عليه هدوء سر به

لقد كان قلب خديجة يخفق خفقاناً شديداً ما كانت تلمح هذا الفتى العجيب، يروح لطيته ويغدو في طرق مكة وأسواقها وأنديتها، وأدركت من فورها أنه حاجة قلبها ومهوى فؤادها. ولكن كيف تفضي إليه بدخيلة نفسها، وتبثه لاعج حبها؟ إن الحسب، والنسب، والخفر والحياء، كل ذلك كان يمنعها أن تكون هي التي تخطو في الأمر الخطوة الأولى وتقول فيه الكلمة الأولى. لقد كان الموقف دقيقا كل الدقة، حرجا كل الحرج. فلتسر في الأمر بحذر واحتياط محافظة على نسبها وحسبها، وتوفيرا لخفرها وقنية لحيائها

إنها كانت تستأجر الرجال في الاتجار لها بمالها وتساهمهم بنصيب مسمى من الربح، فلم لا تستأجر محمداً وتضاعف له الجعل الذي كانت تجعله لغيره؟ وأنشأت من فورها تجيب عن هذا السؤال؛ فوسطت إلى محمد من عرض عليه رغباتها. فقبل محمد ما عرض عليه، وسافر إلى الشام في صيف عام 594 متجراً في مال السيدة، وسافر معه ميسرة غلام خديجة ليرقبه عن كثب وينهي إلى السيدة عند عودته جملة حاله في السفر، فتلم بجملة حاله في السفر والحضر. وباع محمد، واشترى، ولقي الرهبان ببادية الشام، وتحدث إليهم، وتحدثوا إليه، ثم عاد وقد ربحت التجارة ربحاً وفيراً، وقص ميسرة على السيدة ما رأى من محمد في السفر من رقة الشمائل، وسهولة الخلق، وصدق المعاملة؛ فعلمت السيدة عند ذلك أن قلبها لم يكذبها؛ فقطعت تردد؛ وأجمعت أن تخطو هي الخطوة الأولى وتقول هي الكلمة الأولى. وكانت لها صديقة تثق بها اسمها نفيسة بنت منبه، فدستها إلى محمد لتلوح له بالأمر وتعلم رأيه فيه:

نفيسة - يا محمد! ما يمنعك أن تزوج؟

محمد - ما بيدي ما أتزوج به!

نفيسة - فإن كفيت ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟

محمد - فمن هي؟

نفيسة - خديجة!

محمد - وكيف لي بذلك؟

نفيسة - علي!

محمد - فأنا أفعل!

لاشك أن محمداً لم يقل مقالته الأخيرة إلا بعد أن أصبح يشعر نحو السيدة خديجة بمثل شعورها نحوه، وبعد أن أصبح يبادلها عطفا بعطف، وتقديراً بتقدير. نعم أنها أسن منه، ولكن ذلك ليس شيئاً بالقياس إلى محاسنها وفضائلها الكثيرة التي جعلته يرى فيها رغيبة نفسه وطلبة قلبه، وعرض محمد الأمر على عمومته كما عرضته خديجة عمها، فكل وافق، وبنى محمد بها بعد أن أصدقها عشرين بكرة كما يروون

كان هذا الزواج لمحمد وخديجة فاتحة حياة زوجية هادئة وادعة هنيئة، كأهدأ ما تكون حياة زوجية وأروعها وأهنئها ولم لا تكون كذلك؟ وكانت تقوم على الكثير المتبادل من الحب والإخلاص والتقدير. كانت خديجة تقدر في محمد كرم الخلق ورقة القلب، وروحانية النفس، وكان هو يقدر فيها رجاحة العقل وكثرة العطف عليه، والإعجاب به، والتوفير لأسباب راحته في منزله، ومطابقته فيما يحب وما لا يحب، ولا تنس أن محمداً لم يكن كسائر الرجال يعيش كيفما اتفق، فهو رجل كثير العناية بأمر نفسه، ليس كل الطعام يطعم، ولا كل الشراب يشرب، ولا كل الملبس يلبس، ولا بكل الزينة يزدان، ثم هو ميال بطبعه إلى العزلة، مؤثر للصمت، مطيل للفكر، فعلى جليسه وعشيره أن يعرف فيه كل ذلك ويرعاه له، وقد عرفت خديجة ذلك ورعته له أتم رعاية؛ فلاشك أنها كانت تعد له ما يستطيبه من الدباء والعسل، والتمر المنقوع في اللبن أو المخلوط بالقثاء أحياناً، ولاشك أنها كانت تقل في طعامه من البصل والثوم اللذين كانت تعاف كثرتهما نفسه، كما كانت تعنى بنظافة ثيابه وأدوات طيبه وأدهانه، فقد كان محمد يحب أن يبرز للناس عطر الجسم، نظيف الملبس، ولاشك أنها كانت توفر له الهدوء في المنزل، وإذا جنح إلى الخلوة أو التحنث في الغار لم تقطع عليه سكونه؛ بل أعانته على ذلك بإعداد الزاد الذي يحتاج إليه، فإذا طالت غيبته افتقدته في غير إزعاج له، ولا تكدير لصفو نفسه

وكما كانت خديجة مثال الزوجة الحفية بزوجها، فإنها كانت مثال الأم المعنية بأولادها. لقد رزق محمد منها كل أولاده غير إبراهيم. رزق منها القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب ورقية، وفاطمة وأم كلثوم، وكل هؤلاء ولدوا قبل النبوة، ثم ولد له في الإسلام عبد الله الذي عرف بالطيب والطاهر، وقد مات الغلامان صغيرين، أما البنات فكلهن أدركن الأسلم وتزوجن وهاجرن، وقد انضم إلى هؤلاء علي بن أبي طالب، ضمه النبي إلى أولاده تخفيفاً عن عمه أبي طالب الذي كان فقيراً كثير العيال، وليس بأيدينا مع الأسف نصوص نعرف منها كيف كانت خديجة تعول أولادها وتنشئهم؛ غير أن ما ورد من الأخبار على قلته لا يخلو من الفائدة فيما نحن بصدده. روى ابن سعد عن الواقدي قال: (وكانت سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تقبل خديجة في ولادها، وكانت تعق عن كل غلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادها)، وكما كانت خديجة تعنى بولادة أولادها، ورضاعتهم، وتنشئتهم، فقد كانت تتخير الأزواج لبناتها، فهي التي أشارت على النبي بأن يزوج أبو العاص بن الربيع من بنتها زينب؛ فلما زفت إليه أهدتها خديجة قلادة كان لها شأن بعد سيرد ذكره. ثم إن كل من أصهر إلى محمد سعد بزواجه، فأبو العاص بن الربيع أبى أن يفارق زينب عندما أرادت قريش حمله على طلاقها نكاية في محمد مع أن سعداً لم يكن قد أسلم بعد، وقد تزوج عثمان بن عفان رقية، فلما توفيت ورآه النبي حزيناً مهموماً لهفان زوجه أختها أم كلثوم، وكانت فاطمة عند زوجها علي بن أبي طالب بالمحل الرفيع، والمكان الممتاز

لكن فضل خديجة الأكبر، وفخرها الخالد خلود الزمن؛ إنما هو في موقفها من زوجها عندما نبئ، ومن الدعوة الإسلامية التي أخذ يدعو إليها، بعد خمس عشرة سنة من زواجه منها

لقد أصبح محمد بعد تزوجه من خديجة هادئ السرب، ناعم البال، وأصبح له منزل وأهل يسكن إليهما فانصرف إلى ما كانت تصبو إليه نفسه من الخلوة وإطالة الفكر، فكانت خديجة تعينه على ذلك دون أن ترى في مسلكه بأساً. فلما فجئ الوحي محمداً، وأصابه أول الأمر من الذهول والحيرة، ورجع إلى منزله رعباً حائراً وقال لها: (لقد خشيت أن يكون بي جنن!) لم يكن منها إلا أن تثبت فؤاده، وسكنت خاطره بمقالتها المشهورة (والله لا يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. الخ) ثم إنها انطلقت من فورها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وقصت عليه خبر زوجها، فبشرها ورقة بأن الذي رآه محمد إنما هو الناموس الأكبر الذي نزل على عيسى وموسى، وقد أثلجت تلك المقالة فؤادها وغدت من ذلك الوقت مؤمنة بدعوة زوجها، فكان بذلك أول من صدقه وآمن به، روى الطبري بإسناده إلى عفيف الكندي أنه قال: (كنت امرأ تاجراً، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي؛ فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ قال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ، فكنت أكون ثالثاً.)

ولم يزداد إيمان خديجة مع الزمن إلا رسوخاً، ولا يقينها إلا قوة، ولا تعلقها بزوجها إلا شدة، فكانت في السنوات العشر الأولى للبعثة، وهي السنوات التي توالت فيها الأرزاء والمحن على محمد وأصحابه، واضطهدت فيها الدعوة أيما اضطهاد، كانت خديجة في تلك السنوات إلى جانب زوجها تريش بتأييدها جناحه، وتأسو بعطفها جراحه، روى ابن الأثير بإسناده فقال: (وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس)

ولم تتردد خديجة عندما جد الجد، أن تشرك زوجها في محنته، وتقاسمه مر العيش كما قاسمته حلوه، وتعمل لنصرة دعوته، صابرة محتسبة. فعندما اشتدت قريش على بني هاشم والمطلب وحصرتهم في الشعب ومنعتهم حتى الماء والزاد، كانت خديجة في الشعب تقاسي ما يقاسيه زوجها وأقرباؤه على كبر سنها واضمحلال بنيتها. فلما فاءت قريش إلى صوابها وخلت سبيل أولئك المجاهدين المجهودين، كان طول الحصار قد أضر بخديجة واخترم المرض جثمانها فلم تعش إلا قليلاً، وقضت لعشر خلون من رمضان من العام العاشر للبعثة، بالغة من العمر خمسة وستين عاماً، وقد دفنها الرسول بالحجون، وسوى عليها التراب بعد أن نزل قبرها وألقى عليها النظرة الأخيرة

وقضى الله أن يفقد الرسول بعد خديجة وفي نفس العام عمه أبا طالب، وهو الذي كان ينافح دونه ويتولى حمايته من عدوان أعدائه. فاجتمع على محمد في وقت واحد خطبان فادحان، ورزآن بالغان، ولكن لاشك في أن داخل رزئيه كان الأفدح، وباطن جرحيه كان الأدمى؛ لقد تهدم صرح سعادته المنزلية، وغدت الحياة مشغلة له في الداخل والخارج، على كثرة ما أعطاه الله في الداخل والخارج

كان محمد أكبر من أن ينسى لمحسن إحسانه، وأكرم من ألا يفي لحبيب صدقه الحب، وأصفاه الود ولو باعدت بينه وبينه أطباق الثرى، وكذلك كان شأنه مع خديجة بنت خويلد، لقد وفى لها في حالي الحياة والموت، أحبها ولم يتزوج عليها في حياتها، فلما لحقت بربها لم تبرح صورتها خاطره، ولا فارق تذكرها لسانه، وهم يروون في ثنائه عليها ودوام تذكره لها أخباراً كثيرة. يرون أنه فضلها هي ومريم بنت عمران على نساء العالمين، وأنه بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، وأنه عندما أرسلت إليه أبنته زينب بقلادة قلدته إياها خديجة، لتفتدي بها زوجها أبو العاص بن الربيع وكان قد أسر ببدر، رق النبي لذلك رقة شديدة، وطلب إلى أصحابه أن يطلقوا لزينب أسيرها ومالها ففعلوا، وأنه كان إذا ذبح شاة تتبع صديقات خديجة يهدي إليهن منها، وأنه كان لا يكاد يخرج من منزله حتى يذكر خديجة ويثني عليها، والحق أن دوام تذكره لها هاج غيرة عائشة وهي بعد آثر نساءه لديه، وأجملهن، وأصغرهن سناً. روى ابن الأثير بإسناده إلى عائشة أنها قالت: (كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)

تلك بالاختصار سيرة أول امرأة مسلمة، وخير امرأة مسلمة يعرف فيها القارئ المثل الأعلى للمرأة زوجة، وأما، وعونا على جلائل الأمور في غير خروج على طبيعة الجنس ومواضعات الناس منذ صار الإنسان إنسانا.

عبد الحميد العبادي