مجلة الرسالة/العدد 146/علم الحيل عند العرب

مجلة الرسالة/العدد 146/علم الحيل عند العرب

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



للأستاذ قدري حافظ طوقان

لقد أصبح علم الطبيعة من العلوم التي لها اتصال وثيق بالحياة، وشأن عظيم في تقدم المدنية الحديثة القائمة على الاختراع والاكتشاف، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن علم الطبيعة هو الأسّ الذي شيد عليه صرح الحضارة الحالية. وهو لم يتقدم تقدماً محسوساً إلا حينما أشرف القرن التاسع عشر للميلاد على ختامه. وفي هذا القرن - القرن العشرين - دبت إليه عوامل التحول واعتنى به علماء عصرنا عناية فائقة، فأنشئوا المختبرات وأنفقوا عليها المبالغ الطائلة، وبلغوا في إتقانها درجة كبيرة استطاعوا بواسطتها أن يحلوا بعض المشاكل العلمية، وأن يجيبوا على مسائل كثيرة غامضة؛ وظهرت من ذلك عجائب الكون بصورة أوضح وأتم، واستخدم الإنسان ما اكتشفه من نواميس الطبيعة والحياة فيما يعود عليه بالتقدم والرقي، فلولا بعض هذه النواميس ولولا فهمه إياها فهماً مكنه من الاستفادة منها لما كانت السابحات في السماء والعائمات على الماء، ولما كان في الإمكان الغوص إلى أعماق البحار وجعل المولدات والمحركات الكهربائية في متناول الإنسان، ولما استطاع أن يطوق القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملأ الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والحوادث. . . ولما نمت الصناعة هذا النمو الغريب. وازدهرت هذه الازدهار العجيب. وعلى كل حال يمكن القول إنه بفضل البحث العلمي وبفضل ما اكتشفه الإنسان من القوانين الطبيعية وعلاقاتها مع بعضها سيطر الإنسان على عناصر الطبيعة هذه السيطرة القوية، سيطرة جعلته يعمل من المستنبطات قوى يستخدمها في قضاء مآربه المتنوعة المتعددة، ويخضعها لتقوم بأعمال المدينة الحديثة المختلفة المعقدة، سيطرة أحدثت انقلاباً بعيد الأثر خطير الشأن في الحياة والحضارة. . . إن علم الطبيعة وهذا شأنه وتأثيره وهذه خطورته لجدير بنا أن نهتم وأن نتعرف عليه ونقف على تطوره وتاريخه وأثر الأمم في تقدمه، ويهمنا بصورة خاصة أن نعرف مآثر أسلافنا وما أحدثوا فيه النظريات والآراء. وسنتناول في هذا المقال المجهود العربي في علم الحيل - أي علم الميكانيكا - محاولين تبيان فضلهم عليه وما قدموه من جليل الخدمات في هذا الميدان

. . . إن علم الطبيعة من العلوم التي اعتني بها الأقدمون فقد كان معروفاً عند علماء اليونان، وإليهم يرجع الفضل في اكتشاف كثير من مبادئه الأولية ولهم مؤلفات عديدة ترجم العرب أكثرها. ولم يكتف العرب بنقلها بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات هامة تعتبر أساساً لبعض المباحث الطبيعية. وهم الذين وضعوا أساس البحث العلمي الحديث وقد قويت عندهم الملاحظة وحب الاستطلاع، ورغبوا في التجربة والاختبار فأنشئوا (المعمل) ليحققوا نظرياتهم وليتأكدوا من صحتها. ومن الفروع التي أصابها شيء من اعتناء العرب واهتمامهم بحوث الميكانيكا أو علم الحيل، ومع أنهم لم يبدعوا فيه إبداعهم في البصريات إلا أنهم استنبطوا فيه بعضاً من المبادئ والقوانين الأساسية التي كانت من العوامل التي ساعدت على تقدمه ووصوله إلى درجته الحالية. لقد ترجم العرب كتب اليونان في الميكانيكا ككتاب الفيريكس لأرسطوطاليس، وكتاب الحيل الروحانية، وكتاب رفع الأثقال لايرن، وكتاب الآلات المصوتة على بعد ستين ميلاً لمورطس، وكتب هيرون الصغير في الآلات الحربية، وقطيزنيوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه وغيرها. اطلع العرب على هذه المؤلفات ودرسوها ووقفوا على محتوياتها ثم أخذوها وأدخلوا تغييرات بسيطة على بعضها وتوسعوا في البعض الآخر، واستطاعوا بعد ذلك أن يزيدوا عليها زيادات تعتبر أساساً لبحوث علم الطبيعية المتنوعة. وليس في الإمكان أن نجول كثيراً في هذه العجالة حول مآثر العرب في الميكانيكا، ولكن سنأتي على ذكر شيء من مجهوداتهم فيه وما قدموه من الخدمات لهذا الفرع من المعرفة، وما كان لهذه المجهودات ولتلك الخدمات من أثر بيّن في تقدمه ورقيه.

لقد كتب العرب في الحيل، وأشهر من كتب في هذا البحث محمد وأحمد وحسن أبناء موسى بن شاكر (ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. .)

وهي - أي الحيل - شريفة الأغراض، عظيمة الفائدة، مشهورة عند الناس ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي عشرون منها ذات قيمة عملية. وكان علماء العرب يقسمون علم الحيل إلى قسمين: الأول منهما يبحث في بحر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته. والثاني في آلات الحركات وصنعة الأواني العجيبة. وألّف العرب في علم مراكز الأثقال، وهو (علم بتعرف منه ثقل الجسم المحمول، والمراد بمركز الثقل حد في الجسم يتعادل بالنسبة إلى الحامل)، ومن الذين ألفوا فيه أبو سهل الكوهي، وابن هيثم، وبنو موسى

وكذلك للعرب فضل في علم السوائل، فلأبي الريحاني البيروني في كتابة الآثار الباقية شروح وتطبيقات لبعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها، ووضعوا في هذا كله مؤلفات قيمة. وقد استنبطوا طرقاً واخترعوا آلات تمكنوا بواسطتها من حساب الوزن النوعي وكان لهم فيه ميل خاص، وقد يكون ذلك آتياً من رغبتهم الشديدة في معرفة الوزن النوعي للأحجار الكريمة وبعض المعادن، وهم أول من عمل فيه الجداول الدقيقة فقد حسبوا كثافة الرصاص مثلا فوجدوها 11 , 33 بينما هي 11 , 35 والفرق بين المقدرين ضئيل

وفي كتاب عيون المسائل من أعيان المسائل لعبد القادر الطبري جداول فيها الأثقال النوعية للذهب والزئبق والرصاص والفضة والنحاس، والصفر، والحديد، ولبن البقر، والجبن والزيت، والياقوت، والياقوت الأحمر، والزمرد واللازورد والعقيق، والماء والبلخش والزجاج؛ واستطاعوا أن يحسبوا أثقال هذه المواد النوعية بدقة أثارت إعجاب العلماء. وعمل البيروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل لذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء وبالماء تمكن من معرفة المقدار المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي. وقد وجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً من الأحجار الكريمة والمعادن، ويعترف سارطون بدقة تجارب البيروني في ذلك

واخترع الخازن آلة لمعرفة الوزن النوعي لأي سائل، واستعمل بعض علماء العرب قانون أرخميدس في معرفة مقدار الذهب والفضة في سبيكة ممزوجة منهما من غير حلها. وعلى كل حال فالذين كتبوا في الوزن النوعي كثيرون، منهم سند بن علي والرازي وابن سينا والخيام والخازن وغيرهم، وكانت كتاباتهم مبنية على التجربة والاختبار، واستعمل البعض موازين خاصة يستعينون بها في إيجاد الكثافة، فقد استعمل الرازي ميزاناً سماه الميزان الطبيعي وله في ذلك كتاب محنة الذهب والفضة والميزان الطبيعي. وللخازن كتاب ميزان الحكمة كتبه سنة 1137م وفيه وصف دقيق مفصل للموازين التي كان يستعملها العرب في تجاربهم، وفيه أيضا وصف لميزان غريب التركيب لوزن الأجسام بالهواء والماء، ونجد فيه جداول الأوزان النوعية لكثير من المعادن والسوائل والأجسام الصلبة التي تذوب في الماء وهذه الجداول دقيقة جداً ومستخرجة بطرق متنوعة. ويقول سارطون إن ابن سينا والخيام أوجدا طرقا عديدة لإيجاد الوزن النوعي. وكتاب ميزان الحكمة المذكور من الكتب الرئيسية المعتبرة جدا في علم الطبيعة إذ هو أكثر الكتب استيفاء لبحوث الميكانيكا، وقد يكون الكتاب الوحيد الذي ظهر من نوعه في القرون الوسطى. واعترف بلتن في خطاب ألقاه في أكاديمية العلوم الأمريكية بأهمية هذا الكتاب. ومن هذا الكتاب يستدل على أنه كان لدى الخازن آلات مخصوصة لحساب الأوزان النوعية ولقياس حرارة السوائل. ووفي الكتاب نفسه بحث في الجاذبية وبأن هناك علاقة بين سرعة الجسم الساقط والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه، وبأن قوى التثاقل تتجه دائماً إلى مركز الأرض

ولم ينفرد الخازن ببحوثه في الجاذبية، فقد بحث غيره من قبله ومن بعده من علماء العرب فيها وفي الأجسام الساقطة، ووضعوا قوانين لذلك، وقد كنا وفّينا هذا الموضوع بعض حقه في مقال لنا في (الرسالة عدد 72 عنوانه (الممهدون للاكتشاف والاختراع)، ولا نرى الآن ضرورة لإعادة ما كتبناه في هذا الموضوع. ويحتوي الكتاب المذكور على بحث في الضغط الجوي وبذلك يكون العرب قد سبقوا اتورشيللي في هذا البحث. ويحتوي أيضاً على المبدأ القائل إن الهواء كالماء يحدث ضغطاً من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه، ومن هذا استنتج أن وزن الجسم في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وكل هذه المبادئ والحقائق هي كما لا يخفى الأسس التي عليها بني (فيما بعد) بعض الاختراعات كالبارومتر ومفرغات الهواء

وللعرب بحوث في الروافع وقد أجادوا في ذلك كثيراً؛ وكان لديهم عدد غير قليل من آلات الرفع وكلها مبنية على قواعد ميكانيكية تمكنهم من جر الأثقال بقوى يسيرة، فمن هذه الآلات التي استعملوها المحيطة والمخل والبيرم وآلة الكثيرة الرفع والأسفين واللولب والأسقاطولي وغيرها، وقد يطول المطال إذا أردنا أن نبين ماهية كل منها، ويمكن لمن يريد الوقوف على ذلك أن يرجع إلى كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي ففيه بعض التفصيل. ومن الطريف أن العرب عند بحثهم في خواص النسبة أشاروا إلى أن عمل القبان هو من عجائب النسبة، فقد جاء أن: - (من عجائب خاصية النسبة ما يظهر في الأبعاد والأثقال من المنافع. من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق والآخر قصير قريب منه، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير، تساويا وتوازنا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد راس الطويل من المعلاق. . .) والمقصود من المعلاق هنا نقطة الارتكاز

واستعمل العرب موازين دقيقة للغاية وثبت أن فرق الخطأ في الوزن كان أقل من أربعة أجزاء من ألف جزء من الجرم. وكان لديهم موازين أدق من ذلك، فقد وزن الأستاذ فلندرس بتري ثلاثة نقود عربية قديمة، فوجد أن الفرق بين أوزانها جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام، ويقول الأستاذ المذكور تعليقا على هذه الدقة: (إنه لا يمكن الوصول إلى هذه الدقة في الوزن إلا باستعمال أدق الموازين الكيميائية الموضوعة في صناديق من الزجاج (حتى لا تؤثر فيها تموجات الهواء) وبتكرار الوزن مراراً حتى لا يبقى فرق ظاهر في رجحان أحد الموازين على الآخر، ولذلك فالوصول إلى هذه الدقة لمما يفوق التصور، ولا يعلم أن أحداً وصل إلى دقة في الوزن مثل هذه الدقة. . .) ومن هنا يظهر أن العرب درسوا مسألة الميزان دراسة دقيقة؛ وقد ألفوا في ذلك مؤلفات قيمة جداً، فثابت بن قرة ألف كتابين في ذلك: أحدهما في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك؛ والثاني في القرسطون، ولا تزال في هذا الكتاب الأخير نسخة في برلين وأخرى في وكالة الهند بلندن. ومن الذين كتبوا في الموازين والأوزان نظرياً وعملياً الكوهي والفارابي وابن سينا وقسطا بن لوقا البعلبكي وابن الهيثم والخازن والجلدكي وغيرهم. . . وعلى ذكر الجلدكي نقول إن هذا النابغ حلق في الكيمياء ووصل فيها درجة لم يصلها أحد من معاصريه، وهو الذي يقول إن العناصر يفعل بعضها ببعض على نسب محدودة؛ فكأنه اتصل إلى المبدأ الجوهري قبل دلتون. واستعمل العرب لموازينهم أوزاناً متنوعة، وأحسن كتاب في هذا البحث الكتاب الذي وضعه عبد الرحمن بن نصر المصري للمراقب (المحتسب) العام لأحوال الأسواق التجارية في أيام صلاح الدين الأيوبي. وتوجد كتب أخرى تبحث في هذا الموضوع ككتاب ابن جامع وغيره

وفوق ذلك فقد كتب العرب في الأنابيب الشعرية ومبادئها وتعليل ارتفاع الموائع وانخفاضها فيها، وهذا طبعاً قادهم إلى البحث في التوتر السطحي وأسبابه وبحث في هذا كله الخازن. . . وقد يجهل كثيرون أن ابن يونس هو الذي اخترع بندول الساعة (الرقاص) واعترف بذلك سيديو وشيدويك وبيكر وتايلر وغيرهم. وكان عندهم (أي العرب) أيضاً فكرة عن قانون الرقاص. يقول سمث: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .) وسبق لنا أن كتبنا شيئاً من هذا في (الرسالة) عدد (57)

. . . هذا مجمل ما عمله العرب في علم الحيل أو الميكانيكا وهو يدل كما قلنا - في أول المقال - على أنهم أخذوا ما عرفه اليونان وغيرهم في هذا الفرع الجليل وتوسعوا فيه ثم زادوا عليه زيادات هامة يعد بعضها أساساً لبعض البحوث والمواضيع والنظريات في علم الطبيعة

(نابلس - فلسطين)

قدري حافظ طوقان