مجلة الرسالة/العدد 146/من مناظر الهجرة

مجلة الرسالة/العدد 146/من مناظر الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



أم سلَمة

بقلم ناجي الطنطاوي

- 1 -

(في البادية، قبل الفجر، أم سلمة ممتطية بعيراً وابنها في حضنها وأبو سلمة آخذ بخطام البعير يسوقه، في طريقهم إلى المدينة مهاجرين)

أم سلمة

(أبا سلم) حث المطي فأنني ... أخاف من القوم المكيدة والغدرا

إذا أدركونا اليوم كان نصيبنا الرّ ... دى وغدت هذي الرمال لنا قبرا

وإنيَ لا أخشى على نفسيَ الردى ... ولا أرهب الموت الزؤام ولا الأسرا

ولكن طفلي سوف يصبح إن أمت ... يتيماً، ويمسي طعم عيشته مرا

إذا صاح (أمي) لم يجد من يجيبه ... فتذري أحر الدمع مقلته الشكرى

لنسرعْ فإني قد شعرت بوحشة ... وذعر

أبو سلمة - ... دعي يا أم سلمة ذا الذعرا

ألم تعلمي أن المقدر كائن ... إذا عاندته النفس أعقبها خسرا

سننجو معاً إن يكتب الله نجوة ... ويلحقنا ضر إذا كتب الضرا

ألا في سبيل الله كل مصيبة ... إذا نزلت فينا ادَّرعنا لها الصبرا

ثقي أن ما نلقى من البؤس والضنى ... سيجعل رب العرش فيه لنا أجرا

دعانا إلى الدين القويم محمد ... فقلنا له لبيك رمت بنا خيرا

أطعنا وآمنا بك العمر كله ... فمرنا فإنا قد بذلنا لك العمرا

وقفنا على نصر النبي نفوسنا ... وأرواحنا لا نبتغي الحمد والشكرا

سلام على عهد بمكة سالف ... لهونا به لم نعرف الحزن والضيرا

نهاجر من أرض غذانا نميرها ... لو أنا استطعنا ما نوينا لها هجرا

فهل يكتب الله المؤمّل عودة ... لنا أم ستبقى في خيالتنا ذكرى أم سلمة: أرى الطفل قد أغفى

أبو سلمة: لينعم بنومه=ولا توقيظه ريثما نقطع القفرا

أما ذاق طعم النوم بالأمس؟

لا

أذن دعيه ينم ما شاء ولنرقب الفجرا

(يتطلعان إلى السماء لرؤية الفجر، وبعد لحظة يسمعان جلبة وصوت حوافر خيل، وتعلو أصوات من حولهما قائلة:)

قفا

استسلما

إياكما أن تقدما سيقتل حالاً من عصى الأمر أوفرا

أبو سلمة -

وقفنا فمن أنتم؟

مطاعين من بني ال ... مغيرة قد سقنا لكم عسكراً مَجْرَا

(أبا سلم) دع حفظ نفسك أننا ... غلبنا عليها ما استطعنا لها قهرا

وضم إلينا أم سلمة مرغماً ... وإلا فإنا سوف نستصرخ السمرا

(يقف أبو سلمة حائراً، واثقاً أنه إذا أراد المقاومة، قتل هو وزوجته وابنه جميعاً بينما يتقدم القوم فينتزعون خطام البعير من يده ويأخذون أم سلمة)

أم سلمة -

إلى أين؟ يا رباه! ماذا يراد بي؟ ... أيتركنا زوجي بأيدي العدا أسرى؟

أأفصل عنه وهو دوني ماثل ... يراني ولا يبدي حراكاً ولا أمرا؟

(يسحبونها ويسيرون بها)

دعوني يا رهط اللصوص فليس لي ... من العزم ما أرجو به لكم دحرا

شجاعتكم جبن إذا هي أعلنت ... على امرأة مثلي مولهة حرى

أبادتكم بالشر أول مرة؟ ... أأضمرت طول العمر يوما لكم شرا؟

سألتكم بالله إلا عطفتم ... عليّ لعل الله يجزيكم خيرا (يسخرون منها ويضحكون)

أقالت لعل اللات؟

إني سمعتها تقول لعل الله

أبلغ بذا كفرا!

لقد صبأت

لابد من قتلها إذن

أوافق

لا، فالسجن قبل بها أحرى

ستسجن حينا ثم تردى قتيلة

أم سلمة - ... حنانيكم يا قوم. . .!

لا تطلبي غفرا

(يمرون في طريقهم على بني عبد الأسد رهط أبي سلمة، فلا يكاد هؤلاء يعرفون الخبر حتى يهجموا عليهم قائلين:)

على رسلكم يا عصبة الشر

ما لكم؟

ألم تأخذوا بالأمس صاحبنا قسرا؟

كذبتم لقد أمسى طليقاً

ولم ينل بسوء

إذن خلوا لنا طفله حرا

وما شأنكم بالطفل؟

ما شأننا به؟ وهل ينتمي إلا إلى أمه الكبرى؟

(يهجمون عليهم، ويتجذابون سلمة حتى يأخذوه بعد أن تخلع يده ويذهبون به)

أم سلمه (تصيح) -

أغثني يا ربي وهب لي مخرجا ... من البؤس وارفع عني السوء والضرا

(يغمى عليها) - 2 -

(بعد عام كامل، أم سلمة جالسة وحدها بالأبطح في حي بني المغيرة تبكي وتقول)

أم سلمة -

- سقى الله عهداً غاله الدهر لم يكن ... سوى حلم عذب شهي بنا مرا

شربنا به كاس المسرة والصفا ... ورفرف طير الحب من فوقنا دهرا

ولم نك ندري فيه ما لوعة النوى ... وما حرقة الحزن التي تقصم الظهرا

أحن إلى أهلي حنين موله ... وقد ينقضي يوم فأحسبه عشرا

ألا هل أرى زوجي وطفلي قبلما ... أموت وألقى في الثرى جسداً قرا

لقد نفد الدمع الذي كان سلوتي ... فمن لي بدمع يذهب الشجن المرا

أقول لقلبي والأسى يتبع الأسى ... هداديك قد أفنيت شطراً فدع شطرا

(أبا سلم) اذكرني فإني مقيمة ... على العهد لا أنساك صبحا ولا عصرا

أعندك أني منذ عام سجينة ... أقاسي من الآلام ما يصدع الصخرا

وأني لا أدري إلام يطول بي ... عذابي، أيوما بعد عامي أم شهرا

إلى الله أشكو ما ألاقي من الأسى ... ومنه أرجى العون والغوث والنصرا

(يدخل عليها رجل من بني عمها، وهو أحد بني المغيرة، كان قد عرف حالها، وكلم قومه في أمرها، فرضوا بإطلاق سراحها، ويكون قد سمع شكواها)

- أقلي من الشكوى، ولا تكثري البكا

- ومن أنت؟

- واستبقي الجلادة والأزرا

- ومن أنت؟

- لا تخشي فديتك زائرا ... أتاك على وهن به يحمل البشرى

- وأية بشرى؟

- أبشرى بالخلاص من إسارك

- دع عنك الته التهزؤ والسخرا

- لقد قلت حقاً، ما التهزؤ شيمتي ... ولا أعرف المين المعيب ولا الهذرا - أأصبحت أسطيع الخروج إلى. . .

(يدخل نفر من القوم، ويصيحون بها قائلين)

- أخرجي، فأنا عفونا عنك

- شكراً لكم شكرا!

(تخرج من الأسر وهي تقول في نفسها)

- أيا رب حمدا لا انتهاء لحده ... ويا رب شكرا لا أطيق له حصرا

(تذهب في طريقها سائرة وحدها إلى المدينة)

- 3 -

(تمر في طريقها على بني عبد الأسد، فيراها القوم فيسألونها عن خبرها فتخبرهم بما وقع لها من الخلاص من الأسر، وأنها ذاهبة إلى زوجها فيواسونها ويرددون عليها سلمة، فتأخذه وتذهب في طريقها مسرورة تضمه وتقبله وتقول له:)

- حبيبي أحقا عدت لي اليوم بعدما ... فقدتك عاما ما عرفت به البشرا

أسائل عنك الريح عند هبوبها ... وأستنطق الأفلاك والسحب والبدرا

وكم كنت أخشى أن تمد يد الردى ... إليك شباكا تقنص الليث والنسرا

فسل مقلتي هل داعب النوم جفنها ... وسل قلبي الولهان هل نسى الذكرا

أحقا تراك العين يا من سلبتها ... لذيذ الكرى، أم ذاك وهم بها قرا

لحا الله من أقصاك عني، أنه ... - ولم يدر - أقصى عني الأمل النضرا

لقد خلعوا يمناك شلت يمينهم ... فيا ليتها اليمنى بجسمي واليسرى

ويا ليت ما قاسيت من ألم سرى ... إلي وحملت الأسى عنك والبهرا

قضى الله أن نشقي فكان الذي قضى ... فهل كتب الله السعادة واليسرا؟

(تتابع سيرها دون أن ترى أحداً في طرقها، ثم تصل إلى التنعيم، فتلمح عن بعد رجلا قادماً نحوها، لا تكاد تقرب منه حتى تنظر إليه فتعرفه وإذا هو عثمان بن طلحة أخو بني عبد الدار)

عثمان - إلى أين؟

- قصدي أرض يثرب - منذ كم تسيرين؟

- لي يومان أضرب في الصحرا

- تسيرين في الصحرا وحدك؟

- ما معي ... سوى الله وابني ذا، وأنعم به ذخرا

- فما لك يا أختاه والله مترك ... ولابد لي من أن أبلغك الوكرا

(يعود معها إلى المدينة، فتذكر له ما جرى لها، ويتابعان السير حتى يصلا إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء (قرب المدينة) فيدخلانها، ويعلمان من أهلها أن أبا سلمة فيها، فيذهبان إليه)

- 4 -

(أمام داره، تطرق أم سلمة الباب)

أم سلمة - أأدخل؟

- من ذا يطرق الباب؟

عثمان - زائرا

- على الرحب يا من جاءنا يبتغي زَورا

- تفضل إذا شئت

(يدخل عثمان ووراءه أم سلمة متلثمة، وولدها معه لا يظهر إلا وجهه)

عثمان - السلام عليكمُ ... عليكم سلام الله منهملاً ثراً

فقدناك دهراً يا ابن طلح فما الذي ... عناك؟

- نضالي العيش والجوع والفقرا

- عذرت، وقاك الله كل مصيبة ... وأذهب عنك السوء والضيق والعسرا

(يلتفت إلى أم سلمة ويقول له:)

- ومن هذه؟

- أختي

(ينظر إلى الطفل طويلا، ولا يدري أهو ابنه أم لا)

- ألست ترى ابنها؟ - بلى

- إن لي ابنا مثله كما بي مغرى

- ومازال؟

- لا أدري فإني فقدته ... وأما له من خيرة الناس

- هل فرا؟

- يفران؟ كلا، بل أحاط بنا بنو المغيرة واستاقو هما معهم قهراً

- متى كان هذا؟

- منذ عام تفتت ... به كبدي، والدمع سال به نهرا

أبيت فلا يعتاد مقلتي الكرى ... وأصبح لا أسطيع نطقا ولا سيرا

أم سلمة - (بصوت متكلف)

- ولم لم تدافع عنهما حين أقبلوا

أيسطيع غرقى البحر أن يدفعوا البحرا

أم سلمة - أتعرفني يا عم؟

- (بدهشة) انك أخته

- (ترفع اللثام) أتعرفني؟

- ماذا؟ أأنت التي أقرى؟

(يقوم إليها ويعانقها طويلا ويضم ابنه ويقبله)

أبو سلمة - لك الحمد يا من ليس يحمد غيره ... جمعت شتيت الشمل في الأنفس الحيرى

بلوت فكان الصبر أكبر همنا ... فشكرا على عفو غمرنا به غمرا

(دمشق)

ناجي الطنطاوي