مجلة الرسالة/العدد 147/ترجمة معاني القرآن
مجلة الرسالة/العدد 147/ترجمة معاني القرآن
رأى صاحب السعادة الأستاذ محمد علي علوبه باشا وزير المعارف في رحلته إلى الشرق الأقصى قوماً من اليابان ينظرون في الأديان ليختاروا من بينها طريقهم إلى الله، وهم لذلك يتلمسون الوسائل لفهم القرآن فلا يجدون إلا ما كتب المستشرقون والمبشرون وأولو العِلاَّت من الجهل والغرض. وكل ما في أيديهم من ذلك ترجمتان: ترجمة أوربية لم تصدر عن معرفة، وترجمة (أحمدية) لم تصدر عن عقيدة؛ فالأولى تشويه من زور العلم، والأخرى تمويه من خداع السياسة. والدعوة الدينية اليوم فضلاً عن آثارها الروحية وسيلة من وسائل الاستعمار في الأمم الضعيفة، ونوع من أنواع التحالف في الأمم القوية
رأى الأستاذ ذلك وسمع أمثال ذلك فكان من أمانيه أن تصدر عن مصر كنانة الله وموطن الأزهر ومعقل العربية، ترجمة رسمية لمعاني القرآن تكون في الترجمات كما كان مصحف عثمان في المصاحف. فلما تولى وزارة المعارف كان من أول ما أمضى النية عليه أن طلب إلى مجلس الوزراء (ترجمة معاني القرآن ترجمة رسمية بحسب ترتيب سوره وآياته، وبأسلوب موجز واضح يمكّن المترجم من نقله إلى اللغة الأجنبية بالتدقيق الواجب توخيه في ترجمة رسمية؛ على أن يبدأ بترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية بمعرفة لجنة أحد عنصريها جماعة من المستشرقين أو غيرهم من الأجانب، يراجع عليها كاتبان أحدهما مصري والآخر إنجليزي، يراجعان الترجمة مراجعة نهائية). وجعل الغرض لهذه الترجمة: (نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تتكلم العربية، والقضاء على الأثر السيئ الذي أحدثته الترجمة الخاطئة). فعرض هذا الأمر صاحب الدولة رئيس الحكومة على صاحب الفضيلة رئيس الأزهر، فاستفتى فيه جماعة كبار العلماء فأفتوا بجوازه، وعلى ذلك أقره مجلس الوزراء وانقطع القول فيه
ما كان لنا إذن بعد أن أفتى كبار العلماء وأقر مجلس الوزراء أن نتكلم فيما فرغ الناس منه وتبين الحق فيه، ولكن (الرسالة) من واجبها أن تلاحظ ومن حقها أن تسجل. والجدل الذي قام على هذا المشروع المفهوم بالضرورة، بين من أيَّد وبين من فند، إنما دل على مغمزين في بعض رجال الدين لا يتجدد بهما حبل الإسلام ولا تبلغ عليهما رسالة الأزهر. دل على أن في العلماء من لا يزالون يعتقدون أن من سنة الدين إلغاء العقل بإلغاء الرأي. فهم فيما يوردون وفيما يصدرون عبيد للنقل، لا يفتون إلا بقول قيل، ولا يحكمون إلا بنص كتب، وقد لا يكون من الفروق بينهم وبين صاحب هذا القول أو كاتب هذا النص إلا أنه سبقهم إلى الوجود بقرن أو أكثر!
صفحوا أوراق الأسفار الضخمة لعلهم يقعون على نص فقهي يحظر أو يبيح المعاني القرآنية إلى اللغة الإنكليزية، فلما أعياهم المحال بالطبع تقارعوا بالنصوص الحمالة، وتراشقوا بالنقول المبهمة، وفاتهم حين فاتوا الاجتهاد أن دعوة الإسلام عامة، ومن مقتضيات هذا العموم أن يترجم كتابها إلى كل لغة، وأن الداعي الأعظم (ص) الذي كان يجيب كل وفد بلحنه، ويخاطب كل إنسان على قدر عقله، ويهوّن على الفارسي فيكلمه ببعض لسانه، ويسهّل على قارئ القرآن بلهجته، ويوافق سلمان على ترجمته الفاتحة لقومه، لو نسأ الله في أجله حتى تُفتح الفرس وتُغلب الروم لأمر في أغلب الظن أن ينقل كلام الله إلى كلام الناس ليتصلوا به من غير حجاب، ويتفقهوا فيه من غير وساطة
إن في جعل بعضهم تعلم العربية شرطاً في فهم القرآن واعتناق الإسلام صداً عن سبيل الله وإبطالاً لدعوته. وإن إغفال الترجمة الإسلامية لآيات الله لم يحمل الفرس والترك والهنود على أن يتعربوا، وإنما ظلوا إلى اليوم يكابدون اختلاف الدعاة وتضليل الجهلة، وما تعرب منهم من تعرب إلا ابتغاء الرزق أو الجاه أو العلم في دولة العرب. وعدم الترجمة في مصر لم يحل دون وجودها في غير مصر؛ فإن الناس في الشرق والغرب يقرءون القرآن في أكثر اللغات بأسلوب مفكك وبيان قاصر، وواجب العلماء أن يغيروا هذا المنكر بالمحو وهو محال، أو بالتصحيح وهو ممكن. وليس في ترجمة معاني التنزيل استحالة ما أمكنت القدرة. والقول بأن المسلمين ما برحوا عاجزين عن فهم القرآن قول بأن الإسلام يقوم على أساس غير واضح. ولعل ترجمة المفهوم من لفظ القرآن أسلم من ترجمة المراد من معناه؛ فإن الأولى تفسير لغوي للنص، والثانية تقييد رسمي للرأي. وفي ذلك وشبهه مجال لعقل الفقيه إذا خلص من قيود التقليد لحظة
كذلك دل هذا الجدل على أن في العلماء من يلبسون الدين بالهوى ابتغاء لعرض الدنيا أو استشفاء من مرض القلب، فقد تحدث الناس عن رجلين معروفين بمرونة الرأي قاما يحاربان المشروع بنية مدخولة، حتى بلغ الأمر بأحدهما أن أهاب بدافعي الضرائب أن يحولوا بين الحكومة وبين الإنفاق على هذا العمل الباطل!! يا ورثة الأنبياء فيم ورثتموهم ولم يتركوا ضياعا ولا قصورا ولا مراكب؟؟ إنكم ورثتموهم في الدعوة إلى الله فلا تبطلوها، وفي تنفيذ الشريعة فلا تعطلوها، وفي نشر الفضيلة فلا تطووها طي المتاع الكاسد
لقد شعر المصلحون بأن الدين جوهر كل إصلاح، فساعدوهم على كشف الطريق بنور الحق، وبلوغ الغاية بهدى الله، وإلا فليس على الدين مسيطر، ولا على الناس لله وكيل!