مجلة الرسالة/العدد 149/صاحب الجلالة فاروق الأول
مجلة الرسالة/العدد 149/صاحب الجلالة فاروق الأول
لم تر مصر في أرجح الظن قبل احتفالها بمقدم فاروق، قلبها يخفق
بالحب عن إخلاص، ونفسها تفيض بالإجلال عن حقيقة، ولسانها يجأر
بالدعاء عن عقيدة، وسوادها يتسابق إلى الاحتفال عن طواعية؛ فقد
كان ملكها الشاب منذ عودته من دار علمه إلى دار حُكمه مهوى أفئدتها
ونجوى ضمائرها ومجمع أمانيها وموضع إعجابها، لا تصدر في ذلك
عن رياء، ولا تنقل عن تقيد، ولا تعمل عن تكلف؛ إنما الطرقات
والشرفات والنوافذ كانت مسايل روحية تزخر بعواطفها الكريمة لملك
نَشَّأَته على طبعها وحسها، وأعدته لعرشها بنفسها، وعقدت على تاجه
المصري الخالص أملها في السلطان الحر والحياة العزيزة
أرأيت إلى الشعب الشكور كيف وقف صفين من رأس التين إلى قصر عابدين، ومن سراي القبة إلى مسجد الحسين، يلقي على ملكه المحبوب الولاء مبثوثاً في النظر، والرجاء مكنوناً في الهتاف، والإعجاب معلناً في التصفيق، فيلتقي شعوره بشعوره، ويمتزج هواه بهواه، فيصبح الشعب جسما رأسه فاروق، ويصبح فاروق رمزاً مدلوله الشعب؟
أرأيت إلى الشعب الفخور كيف احتشد مساء الجمعة حول آلات الراديو في الدور والأندية والمقاهي يستمع إلى مليكه الجديد وهو يقرأ فاتحة مُلكه السعيد بلغة عربية مبينة، ولهجة مصرية فصيحة، فانفعل بحزن الملك البار، وبكى من هذا الانفعال، وتأثر بشعبية الملك الحر، وابتهج من هذا التأثر، وأحس وهو يحييه أن روحاً قدسية تبعث في هيكله الواهن القوة والفتوة والأمل
والحق أن تحية فاروق للوطن على هذا النحو الجميل، وصلاته لله في هذا المظهر المتواضع، ورسالته إلى الشعب على هذه الصورة الصريحة، ونزوله عن ثلث مخصصاته للأمة الشاكرة، كانت أبرع استهلال لعهده المومق الخصيب
إذا كان من الحق أن بعض الأسماء ينزل من السماء، فإن اسم فاروق وضعه القدر وضعاً لهذه الساعة المشهودة من تاريخ مصر. ولعلها أشبه بالساعة التي لقّب فيها الرسول (ص) عمر بالفاروق: فقد كان الإسلام قبل عمر ذليلاً فعزّ، وقليلاً فكثر، ومستخفياً فاستعلن. وهذه مصر تُرَنِّقُ على ثراها الأحداث من كل جانب: فالاحتلال الغاصب ينقص ببغيه سيادتها في التملك، وعدتها للدفاع، وحريتها في التصرف؛ والاستعمار الجشع يرصد الأُهَب على حدودها بالعين الخؤون والمنطق المسلح؛ والناس من إلحاح الذل وإفراط الظلم وامتياز الدخيل وقصور القانون في حال من الخمود لا ينفع فيها تذكير ولا تبلغ عليها دعوة؛ وسياسة البلاد تسير في تيه من الأرض فتضطرب لتنقلب وتعود لتبدأ. فلما أراد الله لطريقها أن تتضح، ولقافلتها أن تسير، ألقى بأزمتها في أيدي الشباب؛ والشباب يسيرون بهداية الله، ويجاهدون بقوة الإيمان، ويبلغون بكرم التضحية؛ فأعادوا للأمة حياتها الدستورية خالصة من الخداع والكذب؛ ثم جعل الله على الأمة ملكاً من الشباب تتساير أهواؤهم إلى هواه، وتتلاقى آراؤهم عند رأيه، فيقول لهم في منطق فصيح صريح: (إنني أستقبل حياتي الجديدة بعزم وثاب وإرادة قوية، وأعاهدكم عهداً وثيقاً على أنني سأقف حياتي على العمل لنفعكم، وموالاة السعي في سبيل إسعادكم. لقد رأيت عن كثب حبكم لي، وتعلقكم بي؛ لذلك أرى لزاماً عليّ أن أعلن ما اعتزمته من التضامن معكم في سبيل مصر العزيزة، فإني أومن بأن مجد الملك من مجد شعبه)
ذلك هو ملكنا العظيم بعقيدته السليمة ونفسيته الكريمة وخطته الواضحة، وهذا هو دستورنا القديم أعادته إرادة رشيدة، وأعدته وزارة نزيهة، وجمعته انتخابات حرة؛ وأولئك هم شبابنا الخلص تمردوا على حياة الجمود وعقدوا نيتهم على أن يعيشوا كراماً أو يموتوا أعزّة. فمن أين إذن تُؤتَى النهضة المصرية؟ لا تؤتَى النهضة المصرية إلا من جهتين كانتا في كل زمان ومكان مصدر الشرور للأمة: جهة الفساد في الحاشية، وجهة الخلاف في الزعامة. فأما الفساد في الحاشية - ومعاذ الله أن يكون - فوباله أن يزيف في البلاط حقيقة الأمة بميوله، أو يشوّه في الأمة صورة الحكومة بفضوله. وفي ذلك ما فيه من انفراج الحال بين الشعب وملاذه الأعلى. وأما الخلاف في الزعامة فبلاؤه تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة وتوزيع الجهد وتغليب الشهوة وتمليك الخصم. وما فتَّ في أعضائنا وهدّ من قوانا إلا هذا الخلاف الباغي لا يراد به إلا اقتناص المال أو الجاه أو الحكم. على أن في الحب الأصيل المتبادل بين الملك الديمقراطي البر وبين شعبه الوفي المخلص، ضمانا يرفع الحجب المسدولة، ويمنع الوساطة المدخولة، ويديم جُمعةَ ما بين النفوس الزعيمة.
ثبت الله عرشه بالسلام ونضر عهده بالوئام وجمل حكمه بالاستقلال والمشورة
أحمد حسَن الزيات