مجلة الرسالة/العدد 15/لعلوم

مجلة الرسالة/العدد 15/لعلوم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1933



كيمياء الروح

للدكتور أحمد زكي

الكيمياء علم طوّاف جوّال سلك من العالم مسالك لم يدانه في سلوكها علم، ونزل من الأرض منازل لم ينزل في مثلها عرفان، فطورا تراه في البلقع الأجرد ينقر الصخر وينكت في الترب يستخرج معادنه ويتعرف جواهره، وطوراً تراه في الريف الأخضر يطعم النبات بالقوت الأنسب ويسقيه بالقدر الأوفق، وإذا مرض طبَّبه بصنوف الأدوية وحماه من الحَشَرِ بشتيت العقاقير، وطوراً في المدينة، في الحديقة الفسيحة، وفي الجنينة الصغيرة الأنيقة يعنى بزهرها ووردها وبنفسجها، أو بعنبها وتفاحها وبرتقالها ويوسفيها، عنايته بسنبلة القمح ولوزة القطن في الحقل في ظاهر البلد، وتجده في البيت إما في المطبخ قد سبق الطاهي إليه لا بصنوف الأطعمة المستطابة فحسب بل بالآنية والنار، وأما لدى غانية الدار جلس في متزينها ينتظرها بدقيق الأرز ودهن الحيوان وزيت الأزهار وصبغة الأرض ترطب بها جلداً وتورد خداً وتصبغ رمشاً وتزجِّج حاجباً، ويغنيك عن هذا التعداد المفصل أن تسير في حجرة من حجر البيت، وتنظر إلى ركن من أركانه، بل إلى جدران هذه الحجرات وسقوفها وأرضها، فلن تجد شيئاً لا تدخله الكيمياء. كذلك تجد علم الكيمياء في الشارع وفيما فيه من ذي حركة أو سكون، وفي المصنع تصنع الإبرة الصغيرة أو القاطرة الكبيرة، وفي المستشفيات وفي المقابر، وفي كل مظهر من مظاهر المدنية ومظاهر الحياة من مأكول وملبوس ومركوب، وكذلك في مظاهر الموت.

ولهذا الأتساع انقسمت الكيمياء إلى أقسام عدة: فالكيمياء العضوية وغير العضوية والكيمياء الطبيعية والهندسية والحيوية وهلم جرا. ولكن كل هذه موضوعها المادة، موضوعها الأجسام الملموسة الموزونة، سواء في ذلك الأجسام الجامدة والأجسام الحية، وهي إذا عالجت الأجسام الحية فهي لا تُعنى أو لم تكن تعنى ألا بمادتها الصامتة وهيولاها الجامدة دون حياتها وروحها. ولكن العلم طموح، والكيمياء علم، فكان من هذا أن بدأت تطمح إلى ما طمحت اليه وعجزت عنه القرون، تطمح إلى لمحة وراء المادة، ونظرة تختلسها من خلف ذلك الحجاب الأزلي الكثيف الذي فصل ما بين الجسام وأرواحها، تطمح إلى تفه العقل، لا من حيث الخلايا المخية التي هي مركزه، بل من حيث هو اسم لكل مظاهر الذكاء والغباوة والحب والبغض والغضب والحلم واليقظة والنوم، فتكوِّن من ذلك أو كاد يتكون علم جديد لا أجد إسما أنسب له من (كيمياء الروح)

وطريقة هذا العلم الجديد كطريقة كل علم، يبدأ بالمعلوم ليتعرف المجهول. والمعلوم هنا الجسم والمجهول النفس، فهو يحدث تغيرات في الجسم ويرقب أثرها في النفس. وليست علاقة الجسم بالنفس بجديدة، فقديماً عرفنا الصيام يشحذ الفكر إلى حين، والطعام الكثير يثلمه حتى يسلم صاحبه إلى النوم. وسمعنا الفلاسفة والمفكرين في قديم الأزمان يعافون الطعام رغبةً في صفاء البصيرة وجلاء الذهن. ونسمعهم اليوم يترسمون في ذلك سنّة السلف، فغاندي يعيش على اللبن والبرتقال، واينشتين يقنع من اليوابس والسوائل بالقليل الميسور الذي لا يقنع الولد الصغير. ولكن هذه ملحوظات يلحظها الإنسان عفوا وهو لا يدري أين يلحظها ولا متى، وإن هي حانت فهو لا يتعمد لحظها ألا إذا ملكت عليه انتباهه.

ولكن هذا العلم الجديد ينتظر الحوادث ويجثمُ على مرقب عال طلباً للفرص التي قد تمر، وهو إلى جانب هذه الحوادث وتلك الفرص السانحة يخلق لنفسه الحوادث ويفتتح مواطن للتجارب يكون هو العامل الأكبر في إحداثها، والمهيمن الأول على إدارتها وتوجيهها.

جاءت الحرب العالمية فأجاعت كثيراً من الخلق في الأمم المختلفة، وكان من أشدهم جوعاً ألمانيا، وكان من أشد أهلها تأثراً بذلك أطفالها، فتهيأت الفرصة للبحث، فجاء هذا العلم يبحث في الغذاء الذي كان كانت تتعاطاه تلاميذ المدارس أْيام السنوات العجاف، في مقداره ونوعه وعناصره، ويبحث في ذلك لا في أثر ذلك في أجسامهم فحسب، بل في أثره في عقولهم ونفسيتهم وروحهم، لا إجمالاً بل تفصيلاً، فعاهات النفس كعاهات الجسم، وخلل الروح كخلل المادة التي تتقمصها، أي أنها مثلها تختلف في الكيف كما تختلف في الكم، ولكل عاهة أسم إن كان الآن فيه كثير من الإبهام، فأنه إبهام ينجلي لا شك بطول البحث وكثير من الأناة والجلد. وخرج العلم من هذا البحث إلى أن أربعين في المائة من التلاميذ فقدوا مقداراً كبيراً من طاقتهم العصبية العامة بسب فقدهم عناصر هامةً في الطعام، وخرج على أن اختلافات خاصة في الشخصية وتغيرات محدودة في الطبع ترتبط بنقص في بعض جواهر الغذاء الذي كان. ومن النتائج التي خرجوا عليها علاقة بينة بين مرض عصبي خاص، مظهره اضطراب وخوف، وبين خلو الطعام من الشحوم الفسفورية والأحماض الدهنية غير المشبعة، ومن الأستيرولات. وليس معنى هذا أن هذه الشحوم مفيدة دائماً في كل مرض. فقد درس شارل مرسيه عالم الأعصاب الإنجليزي المعروف عدة من المرضى بعقولهم فزاد غذائهم من الشحم والسكر والنشأ ونقصه من اللحم فوجد أن الجمع بين هذه الزيادة وهذا النقص زاد المرضى سوءاً على سوء. ولم يجد هذا هو الحال في كل المرضى، دليلاً على أن المرض يختلف، ولو جمع المرضى ظاهر واحد نسميه الجنون. على أننا قديماً قلنا الجنون فنون. ومن الدراسات الأحدث أثر (الفيتامينات) في نفسية الأصحاء. و (الفيتامينات) طائفة من المواد الكيمياوية موجودة في الطبيعة في كثير من الأغذية ولا سيما الفواكه ولتشابهها وتعددها أعطوها حروفاً أ، ب، ج وهلم جراً بمثابة أسماء لها. درسوا الأثر الناشئ من قلة الفيتامين ج في الغذاء أو انعدامه فيه فوجدوه يسبب في النفس هموداً تستتر وراءه حدة في الطبع وقابلية للتهيج شديدة. وهذه النتيجة تتفق تماماً مع ما لاحظه رواد القطب الشمالي من المستكشفين لما قلت مواردهم وخف زادهم، وهو زاد قليل الفيتامينات أو عديمها بطبيعة الحال. فأنهم كانوا دائماً يجدون الكسل في نفوسهم وحب الشجار في قلوبهم، يثورون أليه للسبب الحقير التافة كأنما يجدون فيه متنفساً من ضيق.

وهناك نوع من الجنون يصحبه مثل هذا الهبوط في النفس يعتري الرجل وقد أكتمل نموه وبلغت حيويته أقصاها. دخل هذا المرض في دائرة علم الكيمياء الروحي من سنوات قريبة واسترعى همة كثير من البحاث، وقد بدأوا يصفونه لا بخلل نفسي محض بل بخلل في الجسم واضطراب في وظائفه. أي أن ذلك العقل ساء لما ساءت كيمياء التربة التي أنبثق فيها، وتلك الشخصية الوقورة ضاع اتزانها لما ضاع أتزان بين الغدد التي تهيمن في الجسم على دخل السكر إليه وخروجه منه واختزانه فيه. ومصداق هذا أن المرض الذي نحن بصدده يكثر في الأسَر المصابة بالبول السكري، ولعل هذه الحقيقة هي أول ما لفت البحاثَ إلى تلك الغدد ودرس وظائفها في هذا الصنف من المعتوهين. والنوم، ذلك الطلسم الذي أعيا سره الأولين والآخرين، بدأوا يسلطون عليه شعاعات من ذلك العلم الجديد لعلهم يردون أصله الى الكيمياء، وحديثاً نشر (هرمان زندك) نظرية بناها على دراسات مبدئية لم تنضج بعد، مؤداها أن الغدة النخامية وموضعها بقاعدة المخ، بها مادة كيميائية تسمى بالهرمونات، وهي واحدة من عدة مواد توجد في الجسم تسمى بالهرمونات، وهرمون هذه الغدة به عنصر البروم، فإذا بدأ النوم يخرج هذا الهرمون البرومي إلى سائر المخ شيئاً فشيئاً حتى يضيع كله، فإذا أستيقظ الإنسان أخذت هذه الغدة تحشد البروم، حتى إذا تكوَّن فيها بقدر معلوم أتى المرء النعاس، وخرج البروم يسير سيرته الأولى. بالطبع هذه النظرية في حاجة إلى بحث كثير من غير واحد لتأييدها، ولكنها إذا تأيدت وأتضح لنا أن النوم ما هو إلا محاولة الجسم إعادة أتزان كيميائي في الرأس لكان في الإمكان إحداث هذا الاتزان في المعمل والاستغناء عن النوم، وبذلك يتضاعف عمر العامل المنتج.

لا نريد أن نعدد كل ما صنع هذا العلم ولا كل النتائج التي خرج عليها ولا الظنون التي لا تزال تساوره ولم تدخل بعد في مضرب الحقائق، فأنه علم وليد، ولكننا نريد أن نؤكد العقيدة البارزة في كل أعماله وهي أن مظاهر الروح الخارجية وثيقة الارتباط بالتفاعلات الكيميائية للجسم الذي تسكنه، وأن الإنسان إذا أنصت يفكر في ضحولة أو عمق، أو تكلم يقرع الحجة بالحجة أو إذا هو سرّ فضحك فزاط وقصف أو تجهم واكتأب فتجرع الحزن في هدوء وصمت، أو إذا هو أحب أو أبغض أو خاف أو تجرأ، فإنما يفعل ذلك بجسمه لا بروحه وحدها، يفعل ذلك بالعقاقير الكيميائية التي بدمه ولحمه وغدده وعصبه وخلاياه جميعاً، وأن هذه الانفعالات تسبب شدتها وكثرتها إجهاداً للمراكز الجسمية التي تصنع هذه العقاقير، وأخص تلك المراكز الغدد التي تقوم بسب العقاقير التي تفرزها بموازنات عدة لتفاعلات متناقضة شتى ينشِأ من اختلالها اختلال الجسم والروح. ولا أدل على هذا من نظرة يلقيها المرء في معترك الحياة التجارية في هذه المدينة الحاضرة حيث تتصارع قوى العيش الهائلة وتصطدم العواصف والآمال تصادم الجبال، أعني بذلك البورصات، فقد دل الإحصاء على أن عدد الإصابات التي سببها تلف يعتري تلك الغدد، كالبول السكري وصنوف معروفة من الجنون، يزداد بعد كل زوبعة من زوابع المضاربات.

وإن كانت انفعالات الروح الطائشة تتلف معمل الجسم الكيميائي الذي في صلاحه صلاحها، كان من الطبيعي إذا اعترى التلف الروح (ذلك السر المعجز) أن نبحث عن سبب هذا التلف في حجرات المعمل، وأن نرد غازات كريهة نشمها ولا نراها تخرج من مداخن النفس، إلى الأسباب التي سببتها في بوادق البناء وقواريره، وهذا عمل العلم الجديد: (كيمياء الروح).