مجلة الرسالة/العدد 150/أدبنا الجديد

مجلة الرسالة/العدد 150/أدبنا الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1936



وحظ من الاتصال بثقافتنا التقليدية

للأستاذ إسماعيل مظهر

ركدت الحركة الأدبية في مصر ركوداً أشبه بأن يكون سباتاً عميقاً. ولقد حدث هذا الركود إثر نشاط عظيم في الإنتاج والنقد والترجمة، وإثر شعور قوي بأن الشباب أحق بأن يتزعموا حركة الأدب، وأن ينتزعوا الزعامة الأدبية من أدباء الشيوخ. ولقد اصطبغت حركة الشباب بألوان مختلفة، مهما يكن فيها من مظاهر التطرف حيناً، ومن مظاهر التفريط حيناً آخر، فإنها دلت في بعض أطوارها على حيوية قوية، وطموح، وتطلع إلى إحياء ما قيل إنه أدب جديد. وما من شك في أن حدوث هذا الركود عقيب ما أبدى الشباب من نشاط، ظاهرة جديرة بالبحث، خليقة بأن تدرس من نواح مختلفة، وأن تحلل في ضوء الحقائق التي أحاطت بها، والحقائق التي أحاطت بأدبنا الحديث على وجه عام. ذلك بأن شباباً يعجز عن تكوين فكرة جديدة في الأدب، أو تقعد همته عن خلق تصور جديد في الفن، إنما هو شباب ينذرنا من الآن بأن أدبنا سوف يبقي جيلاً آخر في داخل الحدود التي رسمها للأدب أولئك الذين سماهم الشباب أدباء الشيوخ

وإني لآمل ألا يتبادر إلى الشيوخ من أدبائنا أني أعني بذلك أن أدبهم لم يؤد لأهل هذا الجيل شيئاً جديداً، أو أن وقوف الأدب عند الحد الذي بلغوا إليه دليل على جمود الأدب، وإنما أعني بذلك أن وقوف حركة الأدب، وركود التصور الفني عند حد بلغه شيوخنا من غير أن يعقب عليهم الشباب بأدب جديد له صبغه خاصة وفن له تصورات ذات طابع مستقل عن طابع الفن الذي عرفناه، دليل قاطع على أحد أمرين: إما أن الشباب عاجز عن الابتكار، وإما أن الأدب الذي روج له الشيوخ أدب غير منتج؛ وكلا الأمرين يحفزنا إلى أن نبحث الأمر من وجهيه: علاقة أدب الجيل الجديد بأدب الجيل السابق، وعلاقة الأدبين بالنظرية التي نروج لها: نظرية أن الأدب الثابت والفن الأصيل إنما يجب أن يتجه دائماً إلى إحكام الرابطة بين الصور التي يتشكل فيها، والصور التي قامت عليها ثقافتنا التقليدية

ولقد عبرت عما أعني بالثقافة التقليدية في المقالات التي نشرتها لي (الرسالة) بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية في مصر)، وصورت على قدر ما أتيح لي مجمل ما أدركت م هذه النظرية. ولقد عرفت الثقافة التقليدية بأنها مجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفاً بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة؛ وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعلى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية، ومعتقدات، وفنون عن أسلافه الأولين

ولا شك عندي في أن ما يبدو على أدبنا الحديث، أعن الشيوخ صدر أم عن الشباب، إنما يرجع إلى ضعف علاقتنا بثقافتنا التقليدية. فإن أكثر الذين اتصلوا بهذه الثقافة لم يتصلوا بها اتصال تفهم لروحها ومعناها وأغراضها ومثلها العليا، وإنما اتصلوا بها اتصال استيعاب لظاهرها دون حقيقتها. وهذا أمر لا سبيل إلى نكرانه. كذلك نلحظ أن هؤلاء، على أنهم لم يتصلوا بثقافتنا التقليدية إلا اتصالاً ظاهرياً، فإنهم عجزوا عن أن يدركوا روح العصر الذي يعيشون فيه ليكون ذلك عوناً لهم على تلوين ما استوعبوا من آثار ثقافتهم القديمة بلون يرضاه أهل هذا الزمن وتقره البيئة التي خلقت من حولها خضوعاً لتطورات العصر نفسه، وهذا أيضاً أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أضف إلى ذلك أن الذين لم يتصلوا بثقافتهم التقليدية، وعكفوا على الأخذ عن الثقافة الأوربية وحدها، قد عجزوا عن أن يخلقوا مما أخذوا عن أوربا أدباً جديداً له طابع معين، بحيث يختلف عن الأدب الأوربي على مقتضى ما في الثقافة من روح ومعنوية، ويختلف أيضاً عن الثقافة القديمة على مقتضى ما تتطلب روح العصر الحديث من فنون وتصورات وأخيلة. ذلك بأن دعوتنا إلى الثقافة التقليدية لا ينبغي أن يدرك منها أننا نريد الرجوع إلى القديم بذاته، وأن نحييه ثانية بصفاته التي عرفناها والتي واءَمت العصر الذي خلقت فيه، وإنما نعني بها أن الثقافة التقليدية يجب أن تكون الأصل الذي يلقح بثمار الآداب الحديثة، حتى نقوى على هضم ما يصل ألينا عن أوربا هضماً يمكننا من تكييف الآداب الدخيلة تكييفاً يلائم وراثاتنا العديدة. وبعبارة أخرى نقول إن ثقافتنا القديمة هي المزدرع الذي نلقي فيه ببذور الأدب الحديث، فما عاش منه فيه فذلك ما نكون قد هضمنا ومثّلْنَا، ومنه نخرج الأدب الجديد الملائم لطبائعنا وميولها وتصوراتنا وأخيلتنا، وما مات في ذلك المزدرع من الآداب الحديثة فذلك ما يبعد عن طبعنا ولا حاجة لنا به. وعلى الجملة نقول إن ثقافتنا التقليدية هي بمثابة حقل التجارب الذي يمتحن فيه المجربون قوة البذور الدخيلة على الإنبات والحياة. وما السبب الصحيح في كثرة ما نقع عليه في أدبنا المنقول من الآثار الميتة إلاّ أننا لم نمتحن فيما نقلنا قوة الاستمرار والبقاء في بيئة جديدة. تلك البيئة التي يجب أن تكون من عناصر تستمد من ثقافتنا التقليدية أول شيء

قد ينكر علينا بعض الذين يودون إرضاء ناحية العزة في أنفسهم شيئاً مما نقرر في هذا البحث؛ غير أني أريد لهؤلاء أن يكونوا أكثر تشاؤماً مما هم، ذلك بأن بيئاتنا الأدبية قد تولاها منذ أول نشأتها روح رمت بها في أحضان التشاؤم المرير، ولم يسعدها الزمن بيوم واحد تفاءلت فيه بحسن المستقبل. ذلك بأن معسكري الأدب والتفكير لم يتصل أحدهما بالآخر مطلق اتصال خلال كل ذلك الزمن الذي نفخر فيه بأننا كونّا نهضة جديدة. فالناحية التي اتصلت بالثقافة القديمة متهمة في عين الناحية الأخرى بالجمود عن إدراك ما في الآداب الحديثة من تصورات، والناحية التي لم تتصل بالثقافة التقليدية متهمة في عين الناحية الأخرى بالزيغ عن التراث القديم. ومن ثَمَّ كان التشاؤم. وما لهذا التشاؤم من سبب إلاّ أننا لم ندرك السر عدم اتصال الناحيتين

وإنما ندعو هؤلاء لأن يكونوا أكثر تشاؤماً لأنهم بذلك يكونون أدنى إلى تفهم الحقيقة كما هي واقعة. ولأضرب لهم مثلا بشرقيين اتصلا بالثقافة الأوربية، وأوربيين اتصلوا بالثقافة الشرقية. وبالأحرى بالمستأربين منا، والمستشرقين منهم. لنسأل أي الفريقين استطاع أن يهضم من آداب الآخر أكبر قسط يمكن هضمه

ولنبدأ أولاً بالمستأربين منا ولنتخذ ناحية معينة من نواحي الأدب موضوعاً لبحثنا، كالقصة أو التاريخ مثلاً. أما القصة فقد يقال بأن آدابنا القديمة لم تعن بها العناية الكافية، وأننا لذلك إنما ننقل عن أوربا أدباً جديداً لا أصل له في ثقافتنا؛ وإذن ينبغي لنا أن نتخذ التاريخ محكما للحكم، وقد ظهر من أولئك من كتب فيه أمتع المؤلفات، سواء أفي التاريخ العام، أم في تاريخ الأدب. وأنت تعلم فوق ذلك أن فن كتابة التاريخ ونقد الشواهد التاريخية ومقياس الحكم فيها وروح التفقه التاريخي، إنما هي خلق جديد من مخلوقات القرن التاسع عشر في أوربا؛ وتعلم فوق ذلك أننا اتصلنا بهذا الوجه من الأدب في مدارسنا وجامعاتنا. وتعلم فوق هذا وذاك أن الأوربيين قد كتبوا تاريخنا على أوجه انتحيت فيها نظريات اجتماعية أو اقتصادية أو جنسية، وخاصة تاريخ العرب والإسلام. وأنت بعد هذا كله تعلم علم اليقين أن كثيراً ممن أرخ للعرب أو الإسلام قد أخطئوا التقدير أو شطوا في الأحكام، أو أن النظرية التي بنوا عليها تواريخهم لم تواتهم بالحقائق التي تلبس ما كتبوا ثوب الإقناع. فهل استطعنا الانتفاع بهذا الوجه الجديد من أوجه الأدب؟ هل ألفنا في تاريخنا كتباً قامت على نظريات جديدة تتصل بالثقافة الحديثة أو بفروع منها بحيث تبين لنا عن الاتجاهات الفكرية والتصورية التي اختفت وراء الحوادث الظاهرة، وصححنا بذلك الأخطاء التي وصلها بعض الكتاب بماضينا؟ كلا وكفا

ولنعد بعد ذلك إلى المستشرقين منهم، ونمتحن في ضوء العقل والاتزان الآثار التي صدرت عنهم متصلة بثقافتنا القديمة، ونعني بالمستشرقين كل من اتصل بالشرق سواء كان ذلك من طريق اللغة أم من طريق الدرس باللغات التي نقلت إليها آثارنا القديمة. أما إذا اتجهنا ذلك الاتجاه فإن أول ما نلحظ في الآثار التي صدرت عنهم عكوفهم فيها على أسلوب البحث العلمي وهو أسلوب يتلقونه في معاهدهم وتلازمهم آثاره بعد ذلك. فهم يكتبون التاريخ بأسلوب البحث العلمي، ويكتبون الأدب بأسلوب البحث العلمي، ويتكلمون بأسلوب البحث العلمي وهو أسلوب أخص ما امتازت به ثقافتهم التقليدية. ثم تلحظ بعد ذلك أثر البحث الأكاديمي من حيث الانكباب على الفهم العميق لأشياء قد تلوح أول شيء تافهة غير جديرة بالبحث ولا هي خليقة بالدرس، ومقارنتها بمجموع الحقائق التي تتعلق بها. وهو أسلوب من البحث عاش بين جدران الأزهر أزماناً، وكاد الأزهر يفقده الآن مع الأسف، مع ما فقدنا من تقاليدنا القديمة. وتشهد بعد ذلك في آثارهم ما تضفي الأناة والصبر والاستقلال في الرأي على الآثار العلمية من مظاهر الروعة والجلال. هذا إلى المظهر العام الذي يلابس ما يؤمنون من جماع هذه الأشياء. وبذلك استطاع هؤلاء المستشرقين أن يهضموا ما أخذوا عن الشرق ليخرج من بين أيديهم لابساً صورة أوربية رسيسة. ولقد يخطئون، ولقد يشط أكثرهم أكبر الشطط، ولكنه خطأ واشتطاط تلابسه روح البحث والدرس، ويحوطه الأسلوب الأكاديمي بروعة البحوث العلمية وبعد. فما هو السبب في الفرقة بين مستأرب عاجز عن كتابة تاريخه بروح جديدة، ومستشرق يكتب تاريخ غيره بروح مستمدة من طبعه؟ السبب أن الأول بعيد عن ثقافته التقليدية التي يتخذ منها مادة للدرس والبحث والاستنتاج والصياغة، وأن الثاني يكتب تاريخ غيره مستهدياً بفطرة مستمدة من ثقافته التقليدية. وإني لواثق أن هذه المقارنة سوف تجعل الذين يجنحون إلى إرضاء ناحية العزة والأنفة في أنفسهم يخففون شيئاً من غلوائهم، وتنزع بالذين لا يتشاءمون من أدبنا الحديث بقدر يجعلهم يرون الحقائق كما هي واقعة، إلى درجة من التشاؤم تنير أمامهم السبيل

لقد بدأت نهضتنا الأدبية الحديثة باندفاع نحو الآداب العالمية، واستمداد من وحي أوربا الجديدة؛ ولو أننا تذرعنا مع الاتجاه الجديد بركيزة تقوم على ثقافتنا التقليدية ووراثاتنا المختلفة، إذن لكان لنا أن نقول إننا أخذنا نشيد بناء ثابتاً على أساس مستمد من فطرتنا. أما وإننا لم نعن العناية الواجبة بماضينا، فأهملنا أمر اللغة حتى خرج المتعلمون من أبنائنا وأكثرهم يجهل القواعد الأولية من لغة العرب؛ ونبذنا آداب العربية، حتى نشأ الجيل الحاضر بعيداً عن استذواق الأدب العربي والوقوف على أسراره، فان دفعتنا الأولى نحو التزود من الآداب العالمية الجديدة هي التي أحدثت ذلك الركس الشديد الذي يتجلى الآن في عجز أدباء الشباب عن خلق صورة من الأدب فيها من قوة الحياة ما يجعلها خليقة بان تصبح عنواناً على روح العصر الذي نعيش فيه

على أننا لا يجب أن ننسى في هذا البحث أن نشير إلى علاقة الآداب من الناحية العلمية بطبيعة الأرض والإقليم والمناخ من حيث أنها بيئة طبيعية، كما أننا لم ننس أن نشير إلى اللغة والآداب القديمة والتاريخ والأساطير والحالات الاجتماعية من حيث أنها بيئة عقلية. أما العلاقة بين البيئتين فبينة لا سبيل إلى إنكارها، أو نكون قد أنكرنا أخص العلاقات التي تفرضها الطبيعة فرضاً على الأحياء وتصبغ بها طبائعهم وأخلاقهم وميولهم وأخيلتهم، وعلى الجملة جماع ما فيهم من الصفات العقلية والنفسية. وإلى جانب هذا ينبغي لنا أن نضع في ميزان الحكم والتقدير عند النظر في مثل هذه العلاقات أن الآداب التي أنشأتها شعوب قديمة إنما هي بنت البيئة وربيبة الوسط، بل إنها خلاصة الطبع وعصارة النفس؛ وإنما تتشكل هذه الآداب بمقتضيات العصور علية، وتتكيف بحكم ما يستجمع العقل من مختلف التصورات. أما الروح التي تظهر متجلية في هذه الآداب، فذلك ما لا سلطان لمقتضيات العصور عليه، ولا أثر لما يستجمع العقل فيها إلاّ بمقدار ما تظهر ملابسه لآراء جديدة أو تصورات حديثة أو ميول معينة، تسري فيها تلك الروح سريان القوة في الأجسام المادية، تظهر وهي خفية، وتتجلى وهي كامنة، كأنما هي السيال الذي يخرج من جسم مشع في أقصى أغوار الكون ليصل إلى عالم آخر في صورة أشعة، هي بذاتها الأشعة التي كان يبعثها ذلك الجسم منذ أبعد الأزمان، وإنما ينتفع بها أقوام على الأقوام الأول، وتستهديها شعوب غير الشعوب الغابرة؛ هي في جوهرها وروحها نفس الأشعة القديمة، ولكن تكييفها مرهون بالقدرة على استخدامها أو الحاجة إليها، وإذن ينبغي لنا ألا نقطع الصلة بيننا وبين ذلك السيل الخالد الذي تصلنا أشعته من ماضينا؛ من لغتنا وآدابنا وتاريخنا وأساطيرنا ونظمنا الاجتماعية، تلك التي جادت علينا بها طبيعة الأرض التي حملتنا والسماء التي أظلتنا منذ أبعد عصور التاريخ الإنساني

إسماعيل مظهر

-