مجلة الرسالة/العدد 150/الأدب بين الخاصة والعامة

مجلة الرسالة/العدد 150/الأدب بين الخاصة والعامة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1936



لامرتين ورينيه جارد

للسيد إسكندر كرباج

تابع لما نشر في العدد الماضي

يأسف لامرتين إذ يرى اليأس مخيماً على وجه رينيه، والأسى يغمر نفسها التوَّاقة إلى إرواء هذا الظمأ الطبيعي في الناس من ينابيع الحبّ والمعرفة. ثم يقول لها: هل وجدت يا رينيه بين كل ما ذكرت لك من الكتب ما يوافق الطبقات العاملة مثلك؟

فتجيبه: صفحات قليلة يا سيدي، لأن كل ما في لغتنا كُتب لكم، لذلك يجب أن يخلق الله من يكتب لنا

فيقول: لقد حان الوقت الذي يجب أن يُكتب فيه لكم يا رينيه، لأن ارتقاء عقليَّة الشعب وشدَّة ميله إلى المطالعة سيحملان الكثيرين من الأدباء عَلَى تخصيص الوقت الذي يصرفونه في أماكن اللهو لوضع الكتب الشعبية. وفضلاً عن ذلك فالارتياح العام إلى اشتداد حركة الصناعة والعمل في البلاد سيدفع الحكومة إلى التوسُّع في نشر الإصلاح ودعوة كل من أفراد الأمة إلى القيام بقسطه من خدمتها. وهذا يضاعف عمل الفكر في كل الطبقات الاجتماعية؛ وبما أن الكتب هي أدوات هذا العمل فسيوضع منها للعمَّال ما يوافق أيديهم

وقد ازداد عدد الكتَّاب على ما كان عليه في الماضي زيادة كبرى، لأن قسماً كبيراً من النفوس الهاجعة استيقظ بعد الثورة واندفع إلى ساحة العمل والإنتاج، ولأن خريجي المدارس العالية تحوَّلوا عن خدمة الإمبراطورية والدين إلى التوظُّف في دوائر الحكومة والاشتغال بالأدب، فكثر عدد الكتَّاب وأصبح ما ينشر في السياسة والشعر والأدب والاجتماع يومياً كافياً لوضع المجلدات الضخمة، وتزاحمُ هذا العدد الكبير من الأدباء على أبواب الشهرة يحول دون معرفة العباقرة الحقيقيين

لم يعمل رأس الإنسان وقلبه فيما غبر من عصور الإنسانية ما يعملانه في هذا العصر، فهما كناية عن معلمين للأدب دائمي الحركة، وهذا العمل المتواصل يبحث عن وجهة ينصرف إليها فلا يجد، لذلك نراه قلقاً مضطرباً. غير أن الطبيعة التي أوجدت الت الأعمال والحاجات ستوجد لهذا العمل حاجته، وهذه الحاجة هي وضع الكتب للجمهور

ثقي يا رينيه أن عهد الأدب الشعبي قد دنا، وأعني بالأدب الشعبي الأدب السليم المكتمل، لأني أفهم من كلمة شعب ما يفهمه الله والفلسفة، أي القسم الأكبر والأهم من البشرية لا يفهمه المتطرفون؛ وإذا لم يطرأ على الأنظمة الحديثة في هذه السنوات العشر ما يعرقل سيرها، أو يحولها إلى طغيان مؤقت، فسيكون للشعب مكتبته وعلومه وفلسفته وروايته وشعره وأدبه وتاريخه وفنه

فتسأله رينيه دَهِشة: ومن يضع لنا كل ذلك؟

فيجيبها: الكبار بين العلماء والشعراء، فكما أن تربية الأمراء والتحدث إلى الملوك والتقرب من رجال البلاط كانت إلى الأمس القريب تعدُّ شرفاً كبيراً فإن تثقيف الصغار والتحدُّث إلى الوضعاء وخدمة الطبقات العاملة ستعد في الغد القريب لا شرفاً كبيراً فحسب، بل فضيلة عظمى، وهكذا يتحول مجد الكتَّاب من القصور إلى الأكواخ ومن العواصم إلى القرى. وبما أن العبقرية تتجه بطبيعتها نحو المجد، فالمجد سيكون ترديد اسم الكاتب في أفواه الملايين من النساء والرجال صغاراً وكباراً. لماذا يؤلف الأديب ويكتب وينظم؟ ليُقرأ ويُدرك ويُشارك في شعوره وتأثره، ويُحب ويُكرم ويُطرى، أفليس الأفضل للشاعر أن تنقش منظوماته على صفحات قلوب أربعين مليوناً من أن تُصف على رفوف ستة آلاف مكتبة؟ أو لا يفضل الكاتب أن ينتسب إلى هذه الأسرة الكبرى المؤلفة من أربعين مليوناً، يعيش في أفكارها وتذكاراتها ويقاسمها عواطفها وميولها، من أن يكون عضواً في مجمع علمي لا يجاوز عدد أعضائه الأربعين؟ فما هو رأيك يا رينيه؟ ماذا تؤثرين: أن تتردد منظوماتك في أفواه الملايين من الصغار، ينشدونها في نهاية كل صلاة أو في أحضان أمهاتهم، أو أن تطبع وتجلّد بدقّة وجمال، وتوضع في مكتبة بعض هواة الشعر؟

فتجيبه: آه يا سيدي! أوثر أن تردد في أفواه الصغار والوضعاء لأنها تكون طبعة شعبية تختلج بالحياة، فالمجد الذي لا يدعمه الود هو حبة لا تنبت، ونور لا يدفئ

وأراد لامرتين أن يذهب إلى أبعد من ذلك في معرفة حقيقة ذوق الشعب وميله الأدبي بواسطة هذه الفتاة التي نشأت بين

الخدم وتعيش مع العمال فاستأنف قائلاً: أنت يا رينيه تعرفين أصناف الكتب التي توافق أهل طبقتك وتنطبق على عاداتهم وميولهم، فما هو الكتاب الذي يجب أن يؤلف أولاً للذين لم يقرءوا أو أنهم قرءوا قليلاً؟

فتجيبه: لا رأي لي في ذلك إذ لا يتذوق الأدب إلا من كان ثقيفاً

- ولكن لا بأس أن تجاوبي عن نفسك، أي نوع من الأدب كان بإمكانه أن يستهويك ويؤثر في نفسك قبل أن تتيسر لك المطالعة؟ أهو الفلسفة الدينية والوجدانية التي تصلح لأن تكون دستوراً لأفكار البشر وإنجيلا يعبر بأمثال قصيرة سامية وجلية كأشعة الشمس، عن مبادئ العلوم الإنسانية الكبرى وفضائلها المكملة بالذكاء والمعرفة على ممر العصور؟

- هذا لا بأس به، غير أن برودة الأمثال لا توافق حرارة قلوبنا، فهي كناية عن أفكار تشع فيما نقرأه، ولكنها فوق مستوانا العقلي

هل يرضيك تاريخ عام جليّ العبارة، رائق الأسلوب، ذو فروع عديدة كأغصان هذه الشجرة التي تسمعنا، تخرج فيها الأصول من الأرض، والجذع من الأصول، والأوراق من الأغصان بحيث تستطيعين أن ترافقي بنظرك نشوء كل هذه الأسرة البشرية الكبرى من أقدم الأزمنة إلى اليوم بما رافقها من ارتقاء وانحطاط، ومن سلالات ظهرت ثم انقرضت مع أفكارها وأديانها وأنظمتها وفنونها وأعمالها؟

- هذا لا يرضي إلا الشبان المتعلمين والشيوخ الميالين إلى أشياء الماضي، أما سواهم من النساء العذارى والأولاد فلا يميلون إلى مثل هذا الموضوع لارتفاعه عنهم، فهو يمر أمامنا كالسيل العظيم يبهر عيوننا ويغرق أرواحنا، لذلك نفضّل عليه وشلة من ينبوع قريب. إن العظيم عظيم، ولكنه غامض كالسماء لا يرى سوى النجوم

- ما قولك في كتاب يفسر كل العلوم والفنون بطريقة سهلة تقفك على كل ما اكتشفه الإنسان واخترعه وتصوره وحسَّنه في كل أنواع الحرف والصناعات وغير ذلك مما يريك الحقيقة ويهدم كل ما قام حول العجائب الطبيعية والاصطناعية المنسوبة إلى الراقيات من الأفكار الكاذبة؟

- لا نزال في مكاننا يا سيدي، فهذا الموضوع لا يهم إلا المثقفين وما أقلهم بيننا وأقصر وقتهم لمطالعته، وعدا ذلك فماذا يبقى في النفس بعد مطالعته كل ذلك؟ غيمه من الألفاظ والخطوط والأشياء والحوادث والأدوات وغيرها مم يبلبل أرواحنا! يكفينا ما نعرفه من أسرار حرفنا فلا حاجة بنا إلى معرفة أسرار حرف الغير!

- وما رأيك في القصائد والملاحم، كقصائد وملاحم هوميروس وفرجيليوس وطاسو تصف مواكب الأبطال وفتوحات الشعوب وما قامت بها من الحضارات ودكته من الحصون وأحرقته من المدن وأفنته من الجيوش؟

- لقد مضت نشوة تلك الأيام يا سيدي. أيام اليونان والرومان حيث لم يكن للأمم غير فكرة الاقتتال والتطاحن والاعتقاد بكل أشكال الخرافات وبآلهة ومخلوقات تنزل من السماء وتحارب مع هؤلاء ضد أولئك، فالشعب اليوم لا يثق كثيراً بخيال الشعراء، ويريد منهم أن ينشدوا له الحقيقة والفضيلة والصلاح وإلا تخلّف عن سماعهم ومطالعة منظوماتهم

- وفي رواية لطيفة رقيقة تتضمّن وصف حوادث رجال ونساء يتحابون ويتخاطبون ويتراسلون ويتواشون ويتخاصمون ثم يعودون فيتصالحون ويتشاكون، وبعد كثير من المغامرات يتزاوجون ليعيشوا أغنياء سعداء في أحد فنادق لندن أو باريس؟

- نكون كمن يقرأ بالصينية أو اليابانية لجهلنا معاني هذه الحوادث وأسرارها، أننا لا نقرأ إلا روايات الخادمات والخائطات إذا روعيت في كتابتها شروط الحشمة والأدب كي لا تضطر ربات الأولاد إلى نزعها من جيوب البنين والبنات وطرحها في النار

- ما قولك في هذه القصص البسيطة التي تصف بيوت الشعب وعاداته وإصلاحاته وميوله وأخلاقه وصدقه وبؤسه وسعادته وحوادث أفراده بلغه سهلة كلغته وتعابير ساذجة كتعابيره

- في اعتقادي يا سيدي أن هذه هي الكتب التي تستهوي العمال ولا سيما زوجاتهم وبناتهم، لأن المرأة تمثل كل شعور الأسرة فمتى قرأت ربة البيت أو ابنته كتاباً ما، فكأن الأب والأخوة قرأوه أيضاً، فنحن أرواح المسكن، فما نحبه تحبه حتى الجدران، إن النفس تهذَّب في البيت أما العقل فيثقف في المدرسة

- يجب أن تكون حوادث هذه القصص حقيقية، أليس كذلك؟

- نعم لأننا نحيا الحياة الحقيقية، والحقيقة هي شعرنا

- وأن تكتب بلغة نثرية؟

- نعم لأنها أسهل علينا ونحن لا نحب إلا الذين يتكلمون مثلنا، يجب أن ينظم الشعر للطبقات العالية فقط لأنها أقدر على تفهم معانيه وحل رموزه، أو في الذكريات والحنين كما أفعل أنا، لأن الشعر لا يتكلم عن حوادثنا ولا يقصها، بل هو ينشد لأنه صوت لا يخرج من النفس إلا في أشد حالات التأثر

(العصبة)

إسكندر كرباج