مجلة الرسالة/العدد 150/النقد المزيف

مجلة الرسالة/العدد 150/النقد المزيف

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1936


كاد الأدباء الناشئون في مصر وفي غير مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم؛ فأن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافية علمية شاملة. والناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التميز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم. ومن ثم كان نوابغ النقد في العالم أندر من نوابغ الشعر والكتابة. وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجون في نطاق الجد أو العبث في سياق المنطق؛ كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين، فيقف نفسه موقف القائد الحصيف، يلمز هذا، ويتنادر على ذاك، ويزعم أنه وحده المسيطر على ثمرات الذهن، فيحكم بذوقه الخاص على هذه بالقبح، وعلى تلك بالفجاجة؛ وأمره كله لا يخرج عن مألوف الطباع الساخرة الفكهة: تصور الحق بلون الباطل لتُضحك، وتبرز الجميل في مظهر القبيح لتُسئ. وعيب الناس طبيعة في بعض الناس، لا يكلفهم إلا تحريك اللسان إذا لقوا سامعاً، أو تجرير القلم إذا وجدوا صحيفة

هذا طالب في ثانويات القاهرة يملي خطة في الكتابة على الجامعة؛ وذاك معلم في ابتدائيات بيروت يلقي درساً في الصحافة على القاهرة؛ وذلك صحفي في مطارح الهجرة يقضي بالموت على الأدب العربي كله!

علام اعتمدت يا بني في إنشاء خطتك؟ وإْلام يا أخيَّ في إعداد درسك؟ ومم اتخذت يا زميلي أسباب حكمك؟ وهل تظفر من هؤلاء بجواب ما دمت في الزمن الذي ترى فيه الناظم ينظم ولا يعلم العروض، والكاتب يكتب ولا يدرس النحو، والمجادل يجادل ولا يفقه الأصول؟ إنها فوضى تتولد في عصور الانتقال وتفشو في ابتداء اليقظة، حين لا يسكن أمر إلى قرار، ولا يطمئن نظام على وجه، ولا يخلص رأى من حيرة، ولا يصدر حكم عن اختصاص!

إن هذا الضرب من النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمى إلى التجريح، وإما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم. كان منذ قريب يعمد إلى الكتاب القيم في الفلسفة أو التاريخ أو القانون قد ألفه مؤلفه من دمه وعصبه وعقله وعمره وماله، فيقف منه موقف الحاسد الأحمق ينقد في بعض صفحاته فعلا تعدى بغير حرفه، أو اسماً جمع على غير قياسه، وقد يكون لكل منهما وجه، ثم يحكم على الكتاب كله بأنه سخيف لا يقرأ، وضعيف لا يعيش!. ثم أصبح اليوم يعرض للموضوع فيقول: هذا قديم لأنه يدور على بحث في تاريخ الشرق، أو على معنى من معاني الدين، أو على أثر من آثار البلاغة؛ وهذا جديد لأنه يقوم على حادثة من حوادث الغرب، أو على رجل من رجال الأكاديمية أو على غانية من غواني المسرح؛ هذا مقلد لأن أسلوبه شريف ممتنع، وهذا مجدد لأن أسلوبه مبتذل ممكن! ثم تعصف بأقلامهم اللينة نخوة الحفاظ وحماسة الفتوة فيصيحون:

أميتوا أدب العاصفة وأحيوا أدب القوة!

أبيدوا أدب الخاصة وأوجدوا أدب الشعب!

انبذوا أدب المقالة ألزموا أدب القصة!

صيحة قرارها حق ومقالها باطل! فأن إجماع الناس واقع على أن خلو الأدب الحديث من أدب الشعب وأدب القصة خلل لابد أن يسد، ونقص لابد أن يكمل؛ ولكن من الذي يقول ويعني ما يقول: إن وجود هذه الأنواع يقتضي عدم الأخرى؟ إن لكل فن من الأدب طبقة من الناس تتذوقه، فإذا منعتها إياه طلبته. والناقص لا يكمل برفع نقص ووضع نقص؛ والبناء لا يتم بهدم ركن وإقامة ركن

أرأيتك إذا كان الأدب كله قوياً يخشن الصدور، وحماسياً يؤرّث الحفائظ المريرة، ويترجم أشجان القلوب الكسيرة، ويرقق حواشي الأنفس الجافية؟

أرأيتك إذا كان الأدب كله شعبياً يعبر بألسنة السوقة، وينقل عن عواطف العامة، أفما كنت تقول: أين الأدب الذي يرضي أذواق الخاصة فيجمع بين سمو الفكرة ونبل العاطفة وقوة الأسلوب في صورة من الفن الرفيع تسمو بالنفوس إلى المثل الأعلى، وتغمر الشعور بالجمال الخالد؟

الأدب صورة النفس فلا بد أن ترتسم فيه مشاعر الفرد؛ والأدب مرآة الحياة فلا بد أن تنعكس فيه ألوان المجتمع. وما دام في الناس الحساس والبليد، والخوار والجليد؛ وفي الدنيا التفاوت الذي يوجد التمايز، والألم الذي يفجر الدموع، واللذة التي تبعث المسرة، والمدنية التي تخلق التنوع، فلا بد أن يكون الأدب الصحيح صدى لكل ذلك

ليست وظيفة النقد أن يهدم أو يميت أو يشترع. تلك وظيفة الطبيعة التي تطور كل شيء، وتغير كل نظام، وتسد كل عوز، وفق قانون ثابت. إنما وظيفة الناقد أن ينظم الموجود وينبه الأذهان إلى الفاقد. أمَّا أن يحاول تغيير الطباع بقانون، وقلب الأوضاع بمقالة، ومحو الثابت بنكتة، فذلك عبث لا يخلق بكرامة إنسان، وتهريج لا يذكر بضمير فنّان!

أما بعد فلعل في هذا الأجمال يا صديقي (نجيب) بعض الجواب عن مقالك (فوضى النقد)، ولعلك تكتفي مني بذكره عن نشره؛ فانك سميت أشخاصاً وعينت كتباً وحددت حوادث، وفي بعض ما قلتَ مشابهُ مما يقول هؤلاء! ومن خلُقَ الرسالة كما تعلم أن تكتفي بالتلميح وتتأبّه عن التجريح وتعوذ بفطنة قرائها من شر ذلك.

أحمد حَسن الزيات