مجلة الرسالة/العدد 150/ملاحظات متواضعة على مشروع

مجلة الرسالة/العدد 150/ملاحظات متواضعة على مشروع

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1936



ترجمة معاني القرآن الكريم

بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس

طالعت والغبطة تفعم قلبي المرسوم الصادر بترجمة معاني القرآن الكريم استناداً إلى الفتوى الشرعية المقدمة من هيئة كبار العلماء، إذ يبدأ العمل بمقتضاها قريباً في هذا المشروع الخطير الذي يعد أول حادث له قيمته في تاريخ الإسلام

لقد ترجم مسيحيو القرون الوسطى كتاب الله الكريم إلى عدة لغات أوربية. وكانت أول ترجمة، على ما أعرف، هي تلك التي قام بها كلوني إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر. ثم أقبلت طائفة من القسس الرهبان على نقله إلى بقية اللغات الحية، حتى أن بعض الأمم الصغيرة ساهمت في هذا العمل، ولا تزال تفتخر بوجود نسخ من هذه التراجم البدائية في متاحفها. وتوجد في اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية عشرات التراجم، القديمة والحديثة، بحيث يمكن للمرء أن يختار منها ما يوافقه. على أن معظم هذه التراجم تكاد تكون حرفية لآيات الذكر الحكيم، برغم حرص القائمين بترجمتها على وضعها في قالب صحيح يتفق والمعنى الذي أنزلت به، لأنه من العلوم أن فصاحة القرآن وبلاغته أمران لا سبيل إلى إنكارهما. وهذا لعمري مما حارت فيه عقول العلماء والفلاسفة واللغويين. ولو سلمنا جدلاً بأن معظم هذه التراجم خال من الأخطاء - وهذا ما لا يمكن الجزم بصحته - فالتفسير لا يكون مؤدياً تماماً لنصوص الذكر الحكيم. ومن المتيسر أن يصل المترجم إلى الأصل الذي يخلع على كتاب الله جلالة وروعة. فمعجزة القرآن في أسلوبه وبلاغته، مما لا يجعل الأجانب يفقهون معناه أو يشعرون بلذة عند تلاوته، نظراً لأن بعض المترجمين أطلقوا لأنفسهم العنان في ترجمته

ويلوح لي أن هذه التراجم أشبه ما تكون بالصور القاتمة التي تمثل الطبيعة الحية، فالنشوة الروحية العميقة التي يحس بها المسلم لدى تلاوة القرآن، يكاد أمرها يكون معدوماً لدى طائفة من الإفرنج وهم يطالعونه في لغاتهم. فمن هذه الناحية نرى أن القرآن الكريم غير قابل للترجمة، ولا يمكن أن يصل كاتب مهما بلغت عبقريته إلى مثل هذا السمو. والتاريخ على ما فيه من الحوادث الجسام والعظات البالغات، كذلك الفن في أنبل وأسمى معانيه، يمكن مقارنة أحدهما بآية واحدة من آيات المنزل الحكيم

وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو كلام الله القديم الأزلي؛ وهو معجزة ليس من السهل تفسيرها في ضوء الحوادث، أو شرحها بمنطق التدليل، والمفروض أن الإنسان يؤمن به حسب نزوله

إن فلسفة التاريخ بمناهجها الصحيحة، حاولت عبثاً أن تحلل تفاصيله وتواريخه وترده إلى أصوله، ولكنها برغم الجهود الجاهدة التي بذلتها أجبرت على الخضوع لأحكامه، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وأيقنت أنه أمر ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ففي وسط ظلام الإنسانية الحالك، انبثق ذلك القبس الإلهي، وأضاء الكون ليمهد للإنسانية طريق الهداية والرشد. مما أدى إلى وضع الأصول الاجتماعية والقوانين والشرائع وتحديد علاقة الناس بعضهم ببعض. بل أصبح القرآن قاعدة موطدة لثقافات علمية واسعة النطاق، وحلقة كونية لم يظهر لها نظير في كل أحقاب التاريخ

ولقد كان طبيعياً أن يكون القرآن باعثاً على خلق الوحدة العربية والاخوة الإسلامية، سواء في اللغة أو في الفكر والعاطفة، وبتأثيره امتدت حضارة الإسلام من قلب الجزيرة العربية إلى أطراف العالم؛ وكان امتداد هذه الحضارة مما لم تشهده مدينة من المدنيات الإنسانية العظيمة الأخرى. فإقامة الصلاة يرن صداها اليوم من مراكش إلى اليابان حول قارات ثلاث. كذلك كان القرآن سبباً في أحكام رابطة الوحدة بين ثلاثمائة مليون مسلم، سلاحهم التقوى ومخافة الله، ودينهم مستمد من القانون السماوي المقدس الذي رفعهم إلى السمو الروحي. ولقد طغى القرآن على الفوارق المادية التي بين المسلمين، حتى أصبحوا بفضله إخواناً، وأزال البغضاء والنقائص من نفوسهم، ونفى عن قلوبهم الأدران والعوامل الشعوبية واللغوية والجغرافية حتى صاروا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً

إن تفشي النزعة المادية كان من أقوى البواعث لزعزعة العقائد الدينية في عالم الغرب. وهذه الظاهرة بدت ماثلة قوية في القارة الأوربية عند ما حاولت أن تشيد لها صرحا فوق أنقاض الدولة الرومانية، هنالك بدأت حركة الإصلاح التي قام بها مارتن لوثر، وكان من أقوى عواملها ترجمة الإنجيل، فكانت ترجمة هذا الكتاب المقدس سبباً في تقدم الحضارة الجرمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات ولغات متباينة بعضها في بعض، حتى غدت منها لغة واحدة هي الآن لسان للأدب الألماني الكبير

من ذلك ترى أن ترجمة الإنجيل من اللاتينية أحدثت في الحضارة الأوربية بعض الأثر الذي أحدثه القرآن الكريم في تكوين حضارة إسلامية راقية مؤسسة على قواعد ونظم ثابتة. أضف إلى ذلك أن اختراع الطباعة جاء في نفس الوقت الذي سارعت فيه الأمم والشعوب الجرمانية لتلم شعثها. فأخضعت الطباعة للغة والفكر والدين، وازدهر الأدب الجرماني وانتشرت ضروب الثقافات، وبفضل ترجمة الإنجيل اندثرت اللغات واللهجات، ومحيت الفوارق السياسية التي كانت إحدى نتائج الجهل المؤدي إلى العبودية

في ذلك الوقت كانت طائفة صغيرة من العلماء في الشرق الإسلامي، قد احتكرت علوم القرآن وتفسيره، وأصبحت اللغة الفصحى على وشك التدهور والانهيار، وتفشت الأمية والجهل إلى حد مخيف، وأصبح المسلمون الذين كانوا قادة الأمة في العلوم والآداب في حالة تأخر وانحطاط بالنسبة لأسلافهم. أما الكتاب الكريم، ينبوع الحضارة الإسلامية الزاهرة، فكان غير مفهوم لأكثر من الناس

في هذه العصور المظلمة كانت طائفة العلماء في عزلة تامة عن الشعب، يحتكرون القرآن في صدورهم، فانتشرت الجهالة وعمت الفوضى، على أنه توفيق من الله، كان لا يزال ألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحفظون القرآن وإن لم يفقهوا معانيه. فالإسلام في حد ذاته هو التشبع بالمبادئ الروحية السامية المركزة على طهارة النفس ونقاوتها مما يشوبها. فهل يمكننا في هذه الحالة أن نعترف بأن الإلهام السماوي، مهما بلغ من التقديس، يؤثر في نفوس من لا يفهمون معناه؟ إن الإسلام ليس سحراً ولا طلسماً، ولكنه دين الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإذا اعتقدنا بأنه صالح لكل زمان ومكان، فيجب علينا إذن أن نعمل جهدنا لشرحه وترجمة معناه وجعله في أيدي ألوف الناس الذين يتحرقون شوقاً للدخول فيه أفواجاً وأفواجاً

نحن لا نحارب في هذا العصر مثلا بنفس الأسلحة التي كان آباؤنا يلجئون إليها للدفاع عن أنفسهم - من أقواس ونبال ورماح - بل نقاتل بالدبابات والطيارات وسائر الآلات الحديثة، كذلك يجب علينا في هذا العصر ألا ندخر وسعاً في الالتجاء إلى كافة الوسائل الأدبية والروحية لإظهار فضائل الدين الحنيف والتبشير به في أرجاء الأرض لقد كان القرآن محصوراً في بدايته في بضع نسخ خطية، فلما انتشرت المطابع الحجرية استخدمت لنشره وجعله في متناول أيدي ألوف المسلمين. كذلك كان الأمر في المطابع الرحوية والحديثة؛ وهو الآن يذاع في الراديو ويفسر على موجات الأثير. أما الذين يحفظون كتاب الله ولا يفقهون معناه، فهؤلاء شأنهم شأن غريق يلتمس النجاة، محاولاً التعلق بحزمة من القش. وليس في وسعهم أن يفقهوا الشطر الروحاني منه الذي يؤهلنا للرشد والتقدم والتسلح بأسلحة من العلم واستقامة الفهم

إن العالم الإسلامي الذي يقف اليوم في مفترق الطرق، فيه أكثر من ثمانين في المائة يحفظون القرآن عن ظهر قلب ولا يفقهون معناه، فإلى هؤلاء الملايين نوجه الأسئلة الآتية:

1 - هل تميلون إلى حفظ القرآن في صورته الحاضرة دون أن تفقهوا معناه فتظل نفوسكم ظامئة إلى هذا الشراب الروحي؟

2 - هل تريدون أن يكون وقفاً على طائفة من العلماء يحتكرون معانيه في صدورهم مع أن الله عز وجل أرسله إلى كافة البشر؟

3 - ماذا يكون لو أن الكتاب الكريم نقل إلى لغاتكم حتى ترتوي منه النفوس الظامئة التي تتلهف عليه كينبوع تفجر من الألوهية العظيمة؟

(البقية في العدد القادم)

(بودابست)

عبد الكريم جرمانوس