مجلة الرسالة/العدد 151/أكل هذا يصنع البرلمان؟

مجلة الرسالة/العدد 151/أكُلُّ هذا يصنع البرلمان؟

مجلة الرسالة - العدد 151
أكُلُّ هذا يصنع البرلمان؟
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936


قلت للشيخين صالح وعلي وقد لقيتهما في هوادي الليل يتبختران بميدان إبراهيم في الحرير الشاهي والجوخ المصقول: الآن تتركان القرية والقطن يريد العزْق، والدودة تطلب المراقبة؟ فتسابقا إلى الجواب كأنما حضراه من قبل واتفقا عليه، فكان كلمة من هذا وكلمة من ذاك. قالا:

جئنا نجتلي طلعة المليك، ونهنئ وزارة الشعب، ونشهد برلمان الأمة. ثم قال الشيخ صالح وحده: وجئنا كذلك نبلغ نائبنا المحترم. . . رغائب الناخبين ومطالب الدائرة

فملت بهما إلى قهوة من قهوات الميدان تعج بأمثالهما من الشيوخ والنواب والتوابع؛ وبعد شيء من نوافل الحديث كالسؤال عن العشيرة والزرع، عطفت على جوابهما المشترك بالتعقيب قلت: أما اجتلاء طلعة المليك فجلاء الهم ونعيم الروح وسرور النفس المؤمنة؛ وأما تهنئة الوزارة فشعيرة الحب المتبادل، وإعلان الثقة المؤيدة، وإهلال الرجاء المحقق. وأما تبليغ النائب مطالب الدائرة يا صديقي صالح فما لك تعجل به، والبرلمان لما ينعقد، والنائب مفروض عليه أن يصل نفسه بناخبيه صلة الرسول بالمرسل والوكيل بالموكل واللسان بالقلب؟ فأجابني بلهجة حاول باتزان إشارته واطمئنان صوته واعتدال جلسته أن تكون مقنعة، قال: إنا من جنود الوفد الأمين، وكنا من دعاة النائب المحترم، توسطنا بينه وبين الناس، فوعدناهم الوعود، ومنيناهم المنى، وبشرناهم النُّصفة؛ والفلاح درج منذ العهود الأولى على أن يفهم من لفظ (الحكومة) جباية المال وتسخير الرجال وتجنيد الشباب وتغريم المتخاصمين المبطل منهم والمحق. فلم يكد يفهم أن حكومة الوفد هي حكومة الفلاح: ترجع إليه وتعطف عليه وتعمل له، حتى انثالت علينا شكاويه وأمانيه بالبريد واللسان واليد

قال هذا وألقى على منضدة رخامية لا تأخذ منها هبًّة الريح ولا مسًّة الكف، إضبارةً بطينة من العرائض والرسائل، ثم قال لي: انظر! فابتدرتها يدي قبل الاستئذان إطاعة لحكم الصنعة، ثم أخذت أصفحها مع الوسيطين ورقة ورقة

هذه عريضة من أهل قرية طغت على جنباتها الأربع البرك المنتنة، فأصبحت كالجزيرة الملعونة في غسلين جهنم!

صاحب البرك هو مالك الأطيان ومن أعضاء البرلمان؛ ورجال الإدارة يرجونه أو يخشونه، فلا يذكِّرونه القانون إلا بالتي هي أحسن؛ والتي هي أحسن لا تساوي عجلاً في دوار الباشا! وأهل القرية وبعوض الملاريا في رأيه سواء، فلماذا يقتل البعوض ويبقون هم في الأحياء؟

وهذه عريضة من أهل قرية يسكنون المسكن القذر، ويشربون المشرب الكدر، ففشت في دمائهم جراثيم الانكلستوما والبلهارسيا، ففزعوا منها إلى مستشفى الحكومة بالبندر، فكان ما كابدوه من عنت الممرضين والأطباء، أضعاف ما كابدوه من عنت الأدواء، ففر الموسر من العلاج بالمجان إلى العلاج بالأجر، ولاذ المعسر من تعب الإنسان إلى راحة القبر!!

وهذه عريضة من أهل قرية يملك أرضها مُثْرٍ يملك اثني عشر ألف فدان، ولكنه منهوم لا يشبع، وطماع لا يقنع، وقاس لا يلين، فهو يشتط عليهم في أجرة الأرض حتى يأخذ القطن فلا يفي، ويغتصب أكثر القمح والذرة والأرز ولا يكتفي، فيضطر المستأجر المجهود إلى أن يدفع الجوع عن أسرته بالعمل أجيراً عند الناس. وهكذا يظل طول عمره دائب العمل، دائم الفقر، لا يخف عنه دين، ولا يجف له عرق.

وهذه عريضة من أهل قرية ليس فيهم كاتب، وحفاظ القرآن منهم ثلاثة عميان لا يحسبون إلا (النجم) ولا يعرفون إلا تاريخ اليوم بالعربية والقبطية؛ فإذا اضطرتهم الحال إلى تحرير عرض أو كتابة خطاب سافروا إلى الكتاب العموميين في عاصمة المركز. فهم يطلبون إلى (البرلمان) أن ينشئ لهم كتابا يحفظهم القرآن ويعلمهم الخط!

ومن خلال هذه العرائض المنطقية الرزينة كان يقع في يدي أنماط شتى من رسائل الالتماس عليها طابع السذاجة والحاجة؛ فهذا والد تلميذ فقير يطلب حق ابنه في المجانية؛ وهذه أم حنون ترجو إخراج ولدها من الجندية؛ وهذا تلميذ سابق يريد أن يكون موظفاً في وزارة؛ وهذا عسكري قديم يجب أن يكون حاجباً في محكمة؛ وهذا تاجر جوال لا تقع قريته على الطريق العام يحتم أن تمر بها السيارات العامة؛ وهذا فلاح يقترح على (البرلمان) أن يأمر التجار أن يشتروا القطن غالياً، مادامت الحكومة لا تأمر الملاك أن يؤجروا الأرض رخيصة.

كَلَّ النظر من طول القراءة، وألم الشعور من تناقض الأثر، والإضبارة الشعبية لا تزال وارمة! فطويتها بعناية ورفق، ثم قلت لحاملها الأمين الوفي: شكر الله مسعاك، وأعانك النائب الكريم على إبراء ذمتك. فقال الشيخ علي وقد خفق على وجهه الأبلج ظل رقيق من الشك: ولكن بالله قل لي: أكل هذا يصنع البرلمان؟ فقلت له: ولم لا؟ إن علماء الدستور قالوا في برلمان إنجلترا: (إنه يقدر على كل شيء، إلا على تحويل الرجل امرأة) وبرلماننا صديقه اليوم وحليفه غداً، فلم لا يجوز على أحد الحليفين ما جاز على الآخر؟ فضحك الصديقان وهما ينصرفان. ولا أدري أكان ضحكهما من سخف القياس، أم من سخف الناس.

أحمد حسن الزيات