مجلة الرسالة/العدد 151/ملاحظات متواضعة على مشروع

مجلة الرسالة/العدد 151/ملاحظات متواضعة على مشروع

مجلة الرسالة - العدد 151
ملاحظات متواضعة على مشروع
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936



ترجمة معاني القرآن الكريم

بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس

تتمة ما نشر في العدد الماضي

وليس من شك في أن الله عز وجل حين أنزل القرآن الكريم شاء أن يعم نشره بين الملأ، لا ليجعله وقفاً على أولئك الذين يحتكرون معانيه في صدورهم، ولا يعملون على ترجمته ونشره بين الذين هم أقل مكانة منهم في المعرفة. ألم يقل النبي الكريم: بلغوا عني ولو آية؟ وكيف يكون التبليغ إلا إذا كان بنقل القرآن إلى لغات الأمم والشعوب؟ وقديماً اعتبرت التفاسير ترجمة لمعاني كتاب الله وتحليله وشرحه حتى يكون في متناول الأذهان الأمم قاطبة

إن الإسلام دين الأذهان المستنيرة، وأن أصحاب العقول البارعة يجدون فيه متعة روحية شهية، وسوف يكون هذا الدين بفضل ترجمة كتاب الله معتقد الطبقات الرفيعة في العالم. وأنا أعرف في بلادي وفي أوروبا عامة رجالاً مستنيرين في أرفع الأسر يحترمون الإسلام لمجرد أنهم قرءوا ترجمة كتاب الله الكريم، وهم يوشكون أن يتخذوه ديناً ولو في سرائرهم. ومنذ خمس سنوات أسلم في فينا رجل من أعرق الأسر الرفيعة، هو البارون آرن فلس وسمى نفسه عمر. وأسلم مجري آخر كبير هو فيلكس فاي. وهذا دليل على سمو الإسلام الروحي والذهني لأنه دين صحيح يستولي على رجال الفكر ويقنعهم بصحة آرائه. أن الإسلام لا يدعو إلى الأنانية والتعصب، بل إلى الأخوة والحضارة الجديدة ونشر ألوان العلم والعرفان، وترجمة القرآن هي أول خطوة في سبيل قبر التعصب والجهل

من ذلك أرى أنه لزام على العلماء أن يظهروا للناس كتاب الله، ولا يجعلوه وقفاً على من يعرفون العربية وحدها. بل يجب عليهم أن يترجموا معانيه ويقبلوا على تفسيرها ولا يخشوا في الحق لومة لائم

فلا العلوم الحديثة، ولا المعارف، ولا فلسفة الغرب تستطيع أن تطفئ نورانيته وعظمته، فهو كالشمس إذا سطعت حجبت ذبالات الشموع الخافتة. ولتأخذ هذه التراجم صف والتفاسير بدلاً من أن يطلق عليها في اللغات الأخرى اسم (القرآن)

أجل فلنقاوم الجهل والتعصب، ولننشر كتاب الله الكريم لا في الإنجليزية وحدها، بل في لغات الملايو والهندستانية والمغولية، وليكن نشر هذا الكتاب بنفس أسلحة القرن العشرين. فالفاصل الذي يفصلنا اليوم عن المعرفة الحديثة شاسع جداً إلى حد يجعل اعتمادنا على ما في أيدينا من تراث الأجيال، من الأسلحة العتيقة التي لا يمكننا بها مقاومة الموجات التي تجرفنا من عالم الغرب

ومن رأيي أن ترجمة معاني القرآن ستنتج عنها مسائل هامة. فبعض الناس عارضوا هذه الفكرة بحجة أنها ستكون سبباً في فصم عرى الوحدة العربية، وستحدث تقاطعاً بين الأخوان المسلمين في أنحاء العالم، ولكن بالعكس، فالترجمة ستكون سبباً في إشعال الحماس الديني عند ملايين ممن لا يفقهون كتاب الله الكريم، وستساعدهم هذه الترجمة على تفهم اللغة العربية وازدهار عصر التبشير الإسلامي

وإذا ما أتيح لنا أن نستقصي البواعث التي أدت إلى انحطاط بعض الطوائف الإسلامية وجب أن نسلم بأن سببها أن حكامهم كانوا يتكلمون لغة لا يفقهها العامة. وعلى الرغم من تعاليم الإسلام السامية ظلت هذه الطوائف ترسف في العبودية والجهالة والفقر، حتى نتج من ذلك وقوعها في الكثير من الأضاليل والبدع التي لا أصل ولا وجود لها في التعاليم المحمدية النقية. حتى أجبرت هذه الطوائف على الخنوع وألزمت أن تحني رؤوسها احتراماً أمام الجبروت الطاغي. هنالك وجدت سلوتها في الشعوذة الدينية، وأصبحت على عيون أهلها غشاوة تحجب عنها حقيقة الدين الحنيف. وانحط مستوى اللغة العربية إلى حد تفشت فيه الأمية وانتشرت العامية بين الأوساط الراقية. ومما أذكره والأسى يقطر من فؤادي، أنني لما زرت القاهرة لأول مرة كان الناس يدهشون إذ يرون رجلاً أجنبياً يتكلم العربية الفصحى، مع أنه أمر مألوف في الأوساط الألمانية والإنجليزية، ويندر أن تجد واحداً يتلفظ بكلمة واحدة دارجة

فليكن في ترجمة القرآن إذن، رفع لقدر اللغة العربية، وليكن رفعها إلى مستوى الكتاب، فالقرآن هو مصدر الثقافة الإسلامية وسبب انتشارها في الشرق والغرب، وهو السلاح الماضي الذي يحسم الداء لقد كان إنجيل لوثر سبباً في رفع شأن اللغة الألمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات القبائل المختلفة بعضها في بعض، فيجب أن تكون ترجمة القرآن الكريم سبباً في رفع العربية، وليرع الأزهر هذه الحركة الجديدة بكل ما فيه من عزيمة وقوة حتى تخرج إلى حيز العمل. فقد كان القرآن كلمة الله في البداية، ومنها انبعث كل ما في الإسلام من محبة وأخوة وسلام

(بودابست)

عبد الكريم جرمانوس