مجلة الرسالة/العدد 151/من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
مجلة الرسالة/العدد 151/من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
- 3 -
ومع أني لست من القائلين بالفصل التام بين السلطات، فإني لا أجد في سلوك القاضي هذا مأخذاً حتى ممن يقولون بالفصل التام. فتصرف القاضي على النحو الذي ذكرت يمكن حمله على حق إبداء الرأي بكافة الوسائل باعتباره عضواً ممتازاً، بنوع ثقافته وبخبرته، من أعضاء الجماعة التي يعمل فيها ولها، وبهذا الوصف لا يكون تصرفه تدخلاً من السلطة القضائية في شؤون السلطة التشريعية
ومن أدق عمل القاضي حكمه فيما يختص بعلاقة الحكام بالمحكومين. ففي هذا المجال بخاصة تظهر قيمة الاستقلال والإقدام والكياسة. وبديهي أن القاضي المقدر لمركزه لا يتردد في القضاء بما تمليه روح القانون والعدالة. لا يعمل بغير الواجب إذا كان حراً مستقلاً. فالكل أمامه سواء. إن القاضي النزيه المقدام يبعث في الجماعة الشعور بأن الكل في حماية القانون، وهذا الشعور، يدعمه الواقع، يعين كثيراً على حرية إبداء الرأي وحرية التصرف ومن ثم يؤدي إلى خير المجموع
جـ - وليست التربية الاستقلالية أقل أثراً في الشؤون الإدارية. ففي البيئات الحرة المستقلة يعمل الصغير والكبير بما تقتضيه المصلحة العامة ويوحي به الضمير الحر. يقترن الإحساس بالكرامة باستشعار المسؤولية فلا يخشى المرؤوس أن يبت في الأمر أو يلقي بالرأي، ولا يشمئز الرئيس من قبول ملاحظات المرؤوس والعمل بها إذا ما تبين وجه الصواب فيها. المستقل لا يصطنع الرياء والملق؛ ومهما صغر مركزه الاجتماعي فهو في نفسه كبير؛ والواثق من نفسه يبرم الأمور مادامت في متناول يده ولا يؤجل ولا يتهرب. هذا إذا كان مرؤوساً، وإذا كان رئيساً فإنه لا يرى في مرؤوسه الحر شذوذاً أو غروراً فيغضي عنه، بل يرى فيه كفاية وإقداماً فيقبل عليه. يقومه إذا أخطأ ويشجعه إذا أصاب، ويقدره إذا أجاد. بذا تسير أداة الحكومة بلا إبطاء أو عوج، وتقضى مصالح الناس بلا إرجاء أو إهمال، لأن كلاً يحتمل نصيبه ويقوم بواجبه
على أنه مما يقوم سبل الإدارة ويوجهها جادة الحق سلوك أصحاب الحاجة أنفسهم. ففي البيئات الحرة يستمسك المرء بحقه، ولا يرى في عمال الإدارة طبقة مميزة عليه، ولا يعتبر الالتجاء إليهم لقضاء مصالحه استجداء أو استعانة لم يؤد ثمنها. بل يرى أن من حقه طلب ما يطلب في حدود القانون، ومن واجب عمال الإدارة خدمة الناس خاصتهم وعامتهم في هذه الحدود، قياماً بواجبهم وأداء لحقوق الغير عليهم. أما استخذاء الشعب واستكانته إزاء تصرف غير كريم من أحد عمال الإدارة فإنه يغري من وهنت أخلاقهم بظلمة وإهمال شؤونه من جهة ويشجعهم على التواني والعدوان بصفة عامة من جهة أخرى
التربية الاستقلالية كما قلت تنمي في الفرد صفتي الثقة بالنفس والإقدام. ولهما أهميتهما العظمى في الوسط الإداري. فالإدارة لا تستمد قوتها واستقامتها من النظم الموضوعة فقط، بل من شخصية منفذي القوانين والنظم. فهم يطبقونها ويفسرونها للخير والشر، كبيرهم وصغيرهم كل بنسبة نفوذه وقوة شخصيته. والمقدام لا يتهيب طلب الإصلاح وإن صغر مركزه وضاق نطاق مسؤوليته. ولكنه يقدم غير هياب ولا وجل فيكون أكثر إنتاجاً وأعظم للجماعة خدمة
وهنا لا أجد مندوحة، اتباعاً لمنهاجي في البحث، عن ضرب مثل برجل الإدارة ذي الشخصية والإقدام والإحساس بالواجب
صدر قانون محاكم الأخطاط سنة 1912، ولاحظ أحد كتاب المحاكم الجزئية الأهلية بينما كان يفتش أعمال بعض محاكم الأخطاط لسنة 1922، أن بمحكمة خط العطف قضايا مدنية عظيمة القيمة تحكم فيها المحكمة حكماً نهائياً. وهاله كثرة القضايا، وخشي أن يكون في الأمر غبناً على الفلاح بحرمانه حق الطعن في الحكم، وغبناً على الخزانة العامة بتحصيلها رسماً مخفضاً. ولما ناقش الكاتب المختص أجابه هذا بأنه يتبع نص القانون القاضي بأن محكمة الخط تختص بالحكم نهائياً في المنازعات التي يتفق طرفا الخصومة على أن تنظرها
وفاتح رئيسه القاضي الجزئي فنصحه بأن يلزم حدوده فهذا بحث لا يدخل ضمن عمله الكتابي. لكن الفتى كان حساساً بواجبه فلم يقنع بهذا. وبحث فهداه البحث إلى مخرج وهو أن الاتفاق في مثل هذه الحالة التي كان يعالجها ضد النظام العام، فهو باطل لهذا السبب. ذلك أن المدعي في تلك القضايا كان مقيماً بالقاهرة ومن كبار تجارها. وفعلاً كتب مذكرة برأيه هذا وأبلغه رأساً لرياسة محكمة الإسكندرية، وهذه بدورها أبلغته لوزارة الحقانية. وما كان أشد سرور صاحبنا لما وصلته بعد قليل من الزمن تعليمات عامة أرسلت بها وزارة الحقانية للمحاكم تقضي بأن مثل الاتفاق المشار إليه باطل. وهكذا أنتج إحساس كاتب بسيط تعديلاً في سير المحاكم في مسألة فيها شيء من الخطورة، بعد أن سارت عشر سنين على عكس ما ينبغي أن تسير في هذه النقطة
ذاك الموظف عينه التحق بمصلحة أخرى وكانت الجهة التي يعمل بها تتلقى تعليماتها من وزارة الداخلية. وحدث أن أرسلت الوزارة تعليمات فيما يتعلق بمحاكمة أكبر طائفة من موظفي مصلحته. ورأى هو أن التعليمات لا تتفق مع صريح نص اللائحة المعمول بها. وأنها فوق ذلك تحرم طائفة كبيرة من ضمان هام. فاعترض في لطف بأنه مع وجود النص الصريح كيف تطبق تعليمات الوزارة بغير أن تعدل اللائحة طبقاً للقانون. ولكن الوزارة لم تأخذ برأيه. فترقب فرصة ملائمة، لاعتقاده أنه يصعب أن تعدل الوزارة عن رأي بناء على ملاحظات موظف بسيط خارج الوزارة؛ ثم كتب اقتراحاً بصورة أخرى وأبلغه الوزارة فشجعها على تعديل التعليمات بما يطابق اللائحة دون أن يكون في ذلك حرج. وفعلاً عدلت الوزارة التعليمات
ولكن من الحق أن نذكر أن هذا الموظف لا يجد عمله هيناً دائماً، بل كثيراً ما أوذي لتمسكه برأيه وعدم تقيده بحرف التعليمات دون روحها. بل أحياناً يتعرض للجزاء بسبب رفضه التقيد بلفظ التعليمات المالية إذا كان تنفيذ روحها يحقق مصلحة مالية للهيئة التي يعمل بها ويتمشى مع المنطق، ولا تتعرض معه المصلحة لنتائج إجراء غير عادل
هاتان واقعتان من الأمور البسيطة. ومن الممكن تصور حالات يؤدي استمساك أحد عمال الإدارة برأيه فيها إلى تلافي قرار ضار أو إلى توفير أموال طائلة، أو اتقاء عمل يحمل الجماعة مسؤوليات جساماً
لكن جل صغار موظفي الإدارة عندنا، بل كبارهم، لا يكتفون بموافقة رئيسهم على ما يقول أو يطلب، وإن خالف القانون والمصلحة، بل يكادون يسبقون رؤساءهم إلى ما يظنون أنه يرضيهم غير مبالين بالقانون أو الحق أو العدل، وفاتهم أن الرئيس إذا عرف الأمور كما ينبغي، قد لا يتمسك بالرأي. وغاب عنهم أن للجماعة الذين يعملون لحسابها حقوقاً يجب رعايتها، وأن لأنفسهم حقوقاً تقضي بعدم امتهانها بتزويق الباطل وتحويلها إلى أداة تصدع بما تؤمر ولا إرادة لها
هذه الظاهرة المحزنة دليل على ضعف التربية الاستقلالية. فمن واجب جميع المصلحين أن يعملوا على القضاء عليها بعدم تشجيع المرائين والمتملقين، وبتقدير العاملين المخلصين للواجب وللحق والعدل. أما أبناء اليوم رجال المستقبل فيجب عدم ادخار شيء في سبيل إنشائهم على حرية الرأي واستقلال الفكر والإقدام والشجاعة من جهة، وعلى بعض الطغيان والصلف والتعصب للذات من جهة أخر
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الباري