مجلة الرسالة/العدد 152/في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل

مجلة الرسالة/العدد 152/في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل

مجلة الرسالة - العدد 152
في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1936



للأستاذ عبد القادر المغربي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

لم يتح لي شرف المثول بين يدي جلالة الملك فؤاد الأول وأنا عضو في مجمع اللغة العربية الملكي، وإنما أُتيح لي ذلك وهو أمير وأنا محرر في جريدة (المؤيد) سنة 1907م

كتبتُ في هذه السنة عدّة مقالاتٍ في الدين والأدب والأخلاق والاجتماع الإسلامي؛ وكان مما كتبته سلسلة مقالات بعنوان (حمامة الأزهر)، فكنتُ أروي عن تلك الحمامة - مستمداً من وداعتها ونزاهتها - وصفاً دقيقاً لأحوال الأزهر وأخلاق علمائه ومشارب طلابه وما يقع فيه يوماً فيوماً من خير يمتدح أو شر يجتنب

واتفق يومئذ حدوث ما حدث بين السّيد علي المرصفي ومشيخة الأزهر. وكان السيد يقرأ من كتب الأدب (كاملَ المبرد). وللحجاج فيه كلمة نابية لا تكاد تذكر حتى يتبرأ منها المسلم. فَنَقَلَ بعض الوُشاة إلى المشيخة خَبَرَ ورود هذه الكلمة في درس الأستاذ (المرصفي). فأكبرتْ أمرها. ودعت الأستاذ إليها وناقشته في اختياره لهذا الكتاب من بين كُتُب الأدب الكثيرة، وفيه تلك الكلمة. ثم أبَتْ المشيخة عليه إلا أن يقرأ مقامات الحريري، وأبى هو إلا أن يهجر الأزهر ويعكف على القراءة في داره في باب الشعرية، وهكذا وقع

على أثر ذلك زارني في إدارة تحرير (المؤيد) ثلاثة من مجاوري الأزهر الذين لم ينفضوا من حول شيخهم المرصفي. وقد ألفت بينهم حرّية في الفكر، وصراحة في الرأي، ونفوس وثابة إلى التجديد: فكانوا في تأريخنا الحديث أشبه بجمعية إخوان الصفا في تأريخنا القديم

وهم الأساتذة: طه حسين، والزيات (صاحب هذه الرسالة)، والزناتي

فأنستُ بهم وسررت بزيارتهم

وقد وصف لي الأستاذ طه حادثة أستاذهم المرصفي مع مشيخة الأزهر وعجَّبني أشدّ العجب من موقف المشيخة إزاء هذا الحادث. ثم رغب إليَّ أن أستنطق (حمامة الأزهر) فهي تملئ عليَّ الخبر بأتمّ ممّا أملاه هو وأن أنشر ما تقوله في (المؤيد)

فقلت له - وأنا آسف واجم: إن الشيخ علي يوسف دعاني إليه بالأمس وقال لي: إن سمو الخديو (عباساً) قال له: قل للشيخ المغربي ليدع (حمامة الأزهر) وشأنها، ولا يرو منْ بع الآن في (المؤيد) خبراً عنها

ولما أردت أن أناقش صاحب المؤيد في ذلك قطع علي حبل المناقشة بلهجة البات الجازم. وقد بين السبب في هذا البت بأن الخديو قال له: إن شيوخ الأزهر أنفسهم كلموه في هذه القضية فوعدهم خيراً، فلم يبق مناص من امتثال أمره

ثم قلت للإخوان الثلاثة: هذا ما جرى، وكنت أحب أن يصلني خبر حادثتكم هذه قبل ما بلغت من أمر الخديو فيكون للحمامة إذ ذاك شأن في وصف الحادثة والتعليق عليها. وما يدرينا أن يكون الشيوخ الذين كلموا الخديو في الأمر إنما حسبوا حساب (الحمامة) التي اشتهرت بصدق ورايتها، وإخلاصها في نصيحتها، فلجئوا إلى الخديو. وبهذه الصورة قطعوا عليها طريق الكلام في الحادثة

ثم أفضتُ مع (إخوان الصفا) في أحاديث أخر. حتى وصلنا إلى ذكر ما أنشره في (المؤيد) من مقالات (أمالي أدب) فأنشدني الأستاذ طه القصيدة التي اشتهرت باسم (اليتيمة) ومطلعها:

(هل بالطلول لسائلٍ ردُّ ... أم هل لها بتكلمٍ عهدُ)

وكنت نشرت في (أماليَّ) أبياتاً من تلك القصيدة. فقال الأستاذ (طه) إن معظم القصيدة موجود في مجموعة رسائل مخطوطة في دار الكتب المصرية. وفي ثاني يوم أرسلها إلي بخط بعض إخوانه، وبقيت عندي حتى غلبني عليها أحد الأصدقاء قبل بضع سنين

وفي تلك الأثناء زارني صديقي الأستاذ (محمد الهراوي) وقال لي: يحسن أن تزور معالي (حسين رشدي باشا). وكان مديراً للأوقاف العمومية في ذلك العهد. ولم أكن اجتمعت به من قبل، أما الهراوي فقد كان على اتصال به

فزرناه في دار سكنه في (المنيرة) وهي الدار التي آلت ملكيتها بعد ذلك إلى الشيخ علي يوسف

ولما دنونا من بابها رأينا عربة فخمة يقودها فرسان مطهمان. فقال لي رفيقي: يظهر أن أحد أمراء العائلة الخديوية في زيارة

الباشا وهكذا كان: فإننا لم نكد نطأ البساط حتى خاطبنا الباشا مشيراً إلى صدر المجلس حيث زائره الكريم - قائلاً: سمو البرنس فؤاد

فدنونا وسلمنا. ولم نكد نأخذ مجالسنا حتى التفت الباشا إلى الأمير وجعل يكلمه بالفرنسية. وكان في خلال الحديث يلتفت إلي، فعلمت أنه يقدمني إلى سموه، وبالطبع يكون قد قال له: إنني عالم سوري وإنني أحرر في (المؤيد) رسائل حمامة الأزهر، وإنني أسلك في نقد العادات والأخلاق وطرائق التعليم الدينية الأزهرية مسلك المرحوم الشيخ محمد عبده. عرفت هذا من قول صاحب السمو للباشا بالفرنسية:

سل الشيخ ما هو رأيه في الكرة الأرضية؟ هل هي حقيقة محمولة على قرن ثور كما يقولون؟

فكان لهذا السؤال وميض من الابتسام على شفاهنا جميعاً وشعرنا بشيء من الأنس والانبساط أفاضته علينا كلمة صاحب السمو بعد انقباض الاحتشام الذي غشينا من مهابته

فقلت للباشا قل لأميرنا المحبوب: إنه لولا الثور (أبيس) وبقية ثيران الدنيا التي كان يمثلها ذلك الثور في هياكل مصر - لما وجد في الدنيا إنتاج زراعي، ولما قام عمران في العالم. فلا جرم أن كانت الدنيا القديمة محمولةً على قرن الثور وحده وأن يكون أهلها عيالاً عليه: فهو الذي (يحمل) عبء الاهتمام بأمرهم، والسعي في تموينهم، وتدبير الأقوات لهم

ففكرة حمل الدنيا على قرن الثور إذن فكرة شعرية خيالية سرت إلينا من المصريين القدماء بشكل جديّ واقعي

فبرقت أسارير صاحب السمو من هذا الجواب. ثم أبدى أسفه الشديد لكثرة ما تسرب إلى الدين الإسلامي من تقاليد الأمم القديمة ومزاعمها، حتى أصبحت تلك المزاعم كأنها جزء من تعاليم الإسلام. ثم ذكر لنا سموه أمراً أستغربه جداً: وهو أن بعض علماء مراكش وفَدَ على القاهرة فسأله بعض من سلَّم عليه من زملائه عما إذا كان سفره من المغرب الأقصى إلى القطر المصري كان بطريق البر أو البحر. وقال سموه: إن العزلة التي تجعل صاحبها يجهل أبسط شأن من شؤون عصره لهي عزلة ضارة تجب مقاومتها والخروج من ظلمتها

وقد كان كلام سموّه يشفُّ عن مبلغ غيرته على الإسلام، وحرصه على تصفية علومه، وعلى الأزهر وحرصه على ترقية شؤونه

رحم الله فقيدنا العظيم رحمة واسعة، وجعل لنا من ابنه جلالة (فاروق الأول) خليفة صالحاً يكشف الغمّة ويجمع كلمة الأمة.

(دمشق)

المغربي