مجلة الرسالة/العدد 153/قصة المكروب
مجلة الرسالة/العدد 153/قصة المكروب
كيفية كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الحصانة واليهودي الأفاق
- 1 -
ما أغرب هذا العلم علم المكروبات، وما أعجب ما كان من أمره في يوم وُلد!
بدأ هذا العلم رجلٌ قماش لم يُثقف ثقافة مذكورة، ومع ذلك كان أول راءٍ رأى المكروبات، ثم جاء كيميائي فأوجد للمكروبات مكانة ذات بال في خريطة الوجود، وأرعب الناس منها وأرعد. ثم تلاه طبيب قرية، فجعل من صيادة المكروب شيئاً منظماً قارب أن يكون علماً صحيحاً. وأراد فرنسي وألماني أٍن ينجوا بالأطفال من سم مكروب من أقتل المكروبات، فجزرا في سبيل ذلك أعدادا لا تحصى من الخنازير الغينية ومن الأرانب لو تراكمت لبلغت أكواماً كالجبال. إن تأريخ صيد المكروب تأريخ مليء بالخاطرات الجميلة، والإيحاءات النادرة؛ ولكن به كذلك كثير من الغباوات المدهشة، والمتناقضات المجنونة. ولا يختلف تأريخ علم المكروب في هذا عن تأريخ علم الحصانة وهو العلم الذي لا يزال ناشئاً، وبه تتفسر لنا مناعة الإنسان من المكروب، فالذي بدأ هذا العلم، على نحوٍ ما، هو رجل باحث كثير الاهتياج، قليل الاتزان، ذو جنة تعاوده كثيراً.
وكان هذا الرجل يهودياً يدعى إيلي متشينيكوف ولد في جنوب روسيا عام 1845، وقبل أن يبلغ العشرين قال لنفسه: (إني ذو غيرة وذو مقدرة، وقد حبتني الطبيعة مواهب راجحة، وأنا أطمع أن أكون بحاثاً كبيراً) وذهب هذا الشاب إلى جامعة خركوف واستعار من بعض أساتذته مجهراً، وكانت المجاهر عندئذ نادرة، وأخذ ينظر فيها نظرات لم تكن دائمة بينة واضحة، ومع هذا قام على أثرها فكتب مقالات علمية طويلة، وذلك قبل أن يعلم ما العلم وما كنهه وما جوهره، وغاب أشهراً عن فصول الجامعة وعن دروسها؛ ولم يكن للعب غاب ولكن للقراءة؛ ولم تكن قراءة القصص والنوادر، ولكن قراءة مؤلفات كبيرة في العلم مثل كتاب: (بلورات لأٍجسام زلالية) وغير ذلك كان يقرأ كتيبات ونشرات لو أطلع عليها رجال الأمن لنفوه إلى مناجم سيبريا؛ وكان يسهر الليالي، ويكرع جالونات من الشاي، ويخطب رفقاءه، وهم أجدادُ بلا شفةِ اليوم، خطباً هائجة صاخبة جاحدة تنكر وجوه الله حتى لقبوه (لا إله) وجاءت ٍخاتمة السنة فقام إلى دروسه التي تراكمت في الأشهر السابقة فحفظها عن ظهر قلب؛ وكانت له ذاكرة أشبه شيء باسطوانات الفونوغرافات منها بالعقل الإنساني، فجاز الامتحان وظهرت النتيجة فكتب إلى أهله يقول لهم إنه نجح وكان أول الناجحين، وفوق ذلك نال وساماً من ذهب.
وكان متشينيكوف شديد العجلة في أمره نفسه، يود أن يسبق الزمن بها، ويحملها على أشياء قبل أن يأتي أوانها. بعث بالمقالات العلمية وهو لا يزال في عقده الثاني، وكان يكتبها في سرعة الهالع بعد ساعات قليلة من تحرير مجهره على بقة أو خنفساء، ويصبح الصباح فيعود إلى مجهره ليراها مرة أخرى، فإذا به يرى ما لم يكن يراه بالأمس فيسرع بالكتابة إلى رئيس تحرير المجلة يقول له: (أرجو أن لا تنشر مقالة الأمس، فقد وجدت نفسي مخطئاً. وأحياناً كان يرسل المقالة فلا تنشرها المجلة فيثور ويغضب ويصيح: (إن الدنيا تجهل قدري) ويذهب إلى غرفته يتأهب للموت وهو يصفر صفير اليائس الحزين: (لو كنت في صغر الحلزون، لطويت جسمي في صدفي).
بكى وناح لأن أساتذته والناس لم يقدروا مواهبه حق قدرها، ولكن لم يفت ذلك في عضده ولم يستطع أن يضعضع من أمله، فنسي ما كان انتواه من قتل نفسه، ونسى ما كان من ضيقه ووجع رأسه، أنساه إياه حبه المقيم لكل شيء حي. ولكنه أفسد على نفسه الفرصة كلما أمكنته من إجراء بحث علمي قيمٍ متواصل، ذلك بأنه كان دائما يشاجر أساتذته وينازع معلميه. وأخيراً كتب إلى أمه، وكانت تؤمن به وتعطف عليه وتفسده، فقال لها: (إن أكبر همي أجده في دراسة البروتوبلازم في دراسة مادة الجسم الحية. . . ولكن روسيا خالية من العلم والعلماء). وعلى هذا ذهب مسرعاً إلى جامعة فرتزبرج بألمانيا؛ فوجد أنه وصل قبل ابتداء العام الدراسي بستة أسابيع. فأخذ يبحث عن بعض الطلبة الروسيين فوجدهم، ولكنهم لم يرحبوا به لأنه كان يهودياً، فضاقت بنفسه مسالك الحياة، وعاد راجعاً إلى بلده وهو يعتزم الموت. وكان في حقيبته بضعة من الكتب التي أقتناها، وكان من بينها كتاب أصل الأجناس لصاحبه دارون، وكان قد خرج إلى السوق حديثاً، فقرأه، وفي جرعة عقلية واحدة بلغ كل الذي فيه، وصار من أنصار نظرية النشوء الشديدين. ومن هذا الوقت دان بهذه النظرية إلى أن تهيأ له الوقت ليصطنع لنفسه من العلم ديانات جديدة يدين بها.
نسي ما أختطه لهلاك نفسه، وبدأ يخطط الخطط لأبحاث في هذه النظرية الجديدة، ورقد الليل ولكن لم ينمه لأنه أخذ يتخيل الخيالات عن ساحات واسعة قد امتلأت بطوائف الأجناس الحيوانية من الصرصور الصغير إلى الفيل الكبير، ثم تخيل إلى جانبها حيا بالغ الصغر هو جدها الكبير الأبعد.
وكان هذا الانقلاب بدء حياة متشينيكوف الحق، فأنه عندئذ خرج يحاج ويشاجر من معمل إلى معمل، ومن روسيا إلى ألمانيا إلى إيطاليا، ومن إيطاليا إلى جزائر هيليجو لاند وأدام هذا الشجار والحجاج عشر سنوات، واشتغل في بحث نشأة الديدان، وأتهم لوكارت عالم الحيوان العلامة بسرقة بضاعته؛ وكانت أصابعه لا تحسن العمل الدقيق، وكان لا يرجى لها أن تتعلم إحسانه، فذات مرة جاء بعظاية وضرب فيها بكلتا يديه ضربة المستقتل اليائس يريد أن يكشف في بطنها عن سر النشوء، فلما أعجزه أن يعلم منه شيئاً رمى بالذي تبقى من الزاحفة عبر المعمل. كان متشينيكوف على نقيض كوخ ولوفن هوك، فهذان الرجلان العظيمان عرفا كيف يتلطفان إلى الطبيعة فيسألانها عما يريدان وفازا منها بالجواب. أما صاحبنا فقرأ كتباً في نظرية النشوء، فألهمته وحمسته، فأمن بها.
وأعلن إيمانه مسموعاً عالياً، ثم جاء بعد ذلك يعالج التجارب لا ليمتحن بها عقيدته الجديدة، بل ليفرضها على الطبيعة فرضاً، وليدسها في حلقها لتبلعها اغتصاباً. ولكن العجيب أنه أصاب في هذا أحياناً، وعندئذ كانت إصابته ذات خطر كبير. ولم يكن عندئذ يعلم شيئاً عن المكروب، أعني في أخر العقد الثامن من القرن الماضي. ولكن إلحاحه كالمجنون في إثبات أن الأصلح هو الأبقى، وأن الفاسد للذهاب، هو الذي ساقه إلى تلك النظرية البديعة الخلابة نظرية الحصانة التي تصف كيف يصد الإنسان هجمات الفاتكات من المكروب، وهي نظرية صحيح بعضها برغم مظهرها الخيالي الذي لا يدعو إلى التطامن إليها
كانت السنوات الخمس والثلاثون الأولى من حياته كثيرة الاضطراب والصخب أشرف فيها على المهالك، ولكنه سار من طريقها المْخطر على جسر ضيق نفذ به في أخر الأمر إلى الشهرة الواسعة التي كانت تنتظره على شواطئ صقلية في البحر الأبيض المتوسط. وتزوج قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين لُدْميلا فودورفتشي وكانت مسلولة حتى كان لا بد من حملها في كرسّيها إلى حيث يعقد زواجها. وتبع هذا الزواج أربع سنوات مضت عليهما في أبأس حال وأكثرها استدراراً للرحمة، قضياها يجر بعضها بعضاً عبر أوربا يبحثان عسى أن يجدا لذات الصدر دواء. وفي أثناء ذلك، وفي أثناء تمريضه هذه الزوجة العليلة المسكينة تمريض عطوف حنان توتر عصبه وثقل قلبه كان يختطف سويعات يجري فيها تجارب يدرس بها تنشؤ بق النبات والاسفنجيات والدود والعقارب، يريد بذلك أن يقع على اكتشاف يهز الناس فتأتيه من ورائه أستاذية تدر عليه مالاً كثيراً. وهمس لنفسه وهو يكتب رسالاته العلمية، وهمس لها وهو يبعث بالرسل ويدفع بالوسائط ويختط الخطط ويحاور ويداور في طلب الوظيفة، قال: (إن البقاء ليس للأصلح؛ وليس هو للأكثر طيبة وخيراً، وإنما هو للأشد مكراً وللأنكى خبثاً وماتت لُدْميلا. وكانت قضت أيامها الأخيرة تتخلص من آلامها بالمرفين، فأقتبس زوجها عادة المرفين منها، ولما نفض تراب قبرها عن يديه قام عنه هائماً يضرب في الأرض، وأخترق إسبانيا متوجهاً إلى جنيفا وهو يزيد كل يوم مقدار العقار الذي يتعاطاه، وساءت عيناه أثناء ذلك وآلمته ألماً كبيراً. وما الباحث في الطبيعة إذا لم يكن له عينان تبصران؟ وصرخ: (ما الفائدة من هذا العيش!) وأخذ جرعة كبيرة من المرفين أيقن أنها لا بد قاتلته، ولكنها كانت أكبر مما تحملته المعدة فقاءها. وصرخ مرة أخرى: (ما نفع هذه الحياة!) وأستحم استحمامة ساخنة وخرج منها يتعرض عامداً إلى الهواء البارد الطلق عسى أن تصيبه من ذلك نيمونيا فتذهب بحياته، ولكن لم يظهر أن الآلهة الحكيمة المزاحة التي تقوم بتجهيز البحاث لهذا الكوكب شاءت له غير الذي شاءه لنفسه، أبقت عليه لحاجة في نفسها. وفي هذه الليلة عينها ساقته رجلاه إلى حيث أبصر طائفة من الحشرات كالغمام تدور وتحوم حول لهب مصباح. فأستوقفه هذا المنظر ووقف يتأمله بتعجب ظاهر وفم مفغور. صاح لنفسه: (إن هذه الحشرات لا تعيش إلا ساعات قليلة، فليت شعري كيف يستفاد بها لدرس نظرية بقاء الأصلح؟) وبهذا عاد فوصل من جديد تجاربه المقطوعة.
حزن متشينيكوف على زوجه حزناً شديداً ووجد عليها وجداً مبرحا، ولكن الأيام كانت سريعة في شفاء الوجد ولأم الجرح العميق. وتعين أستاذاً في جامعة أودسا، وفي هذه الجامعة علم بقاء الأصلح، وفيها وضح علمه، وأرتفع قدره، وزاد في الناس إجلاله. ولم تمض سنتان على وفاة زوجته الأولى حتى التقى بفتاة في الخامسة عشرة، وفي وجهها بشاشة، وفي قلبها ذكاء. وكان اسمها أولجا، وكانت ابنة رجل ذي يسار، ونظرت أليه، فأسرت عينها إلى قلبها، قالت: (إن وجهه كوجه المسيح في قدسيته. لونه امتقاع، وعليه سحابة من كآبة). ولم يمض طويل من الزمن حتى تزوجها.
ومنذ هذا الزواج هدأت حياته كثيرا، وقلت نداءاته لعزرائيل كثيرا، وأخذت يداه تتعلمان أجراء التجارب لتلحق بعقله الذي نضج قبل أوانه، وأصبح العلم له ديناً، وتعلق به إيماناً؛ وأدخله في كل أمر من أمور عيشه في تحمس لم يسمع بمثله، وأخذ بيد أولجا يدخلها في هذا الدين علماً وفناً، وعلمها حتى علم الزواج وفنه! وعبدت فيه ذلك اليقين المغرق الذي أعطاه العلم إياه، ولو أنها قالت بعد ذلك بسنوات كثيرة: (إن الطريقة العلمية التي طبقها زوجي في غير هودة على كل شيء جاز ألا تخلق لنا إلا شراً في تلك الساعة المخطرة من حياتنا، والنفس دقيقة الحس في انتقالها من حال إلى حال.
(يتبع)
أحمد زكي