مجلة الرسالة/العدد 154/الحياة الأدبية في المغرب الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 154/الحياة الأدبية في المغرب الأقصى

مجلة الرسالة - العدد 154
الحياة الأدبية في المغرب الأقصى
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1936



للأستاذ ع. ك

أما وقد قرأت في مجلة (الرسالة) الغراء مقالين: أحدهما عن (الحياة الأدبية في دمشق) بقلم الأستاذ علي الطنطاوي، والثانية عن الحياة الأدبية في بغداد بقلم عبد الوهاب الأمين، ورأيت من صاحبيهما التبرم والتشكي من ضعف الحياة الأدبية كل في بلده ومن تصوير مظاهر الضعف في هاته الحياة التي كادت تزري بتقدم البلاد من النواحي الأخرى؛ أما وقد قرأت هذا فيحسن بي أن أضم صوتي إلى أخوي الدمشقي والبغدادي، فأكتب كلمة عن الحياة الأدبية في المغرب ليعرف الأخوان والقراء أيضاً أن المغرب قد أغترف غرفة مما غرفت منه دمشق وبغداد، وأن المغرب شريك القطرين العربيين في هذا الضعف المزري بهما

إذا نظرنا إلى المغرب الحديث وأنعمنا النظر في ناحية من نواحيه المهمة، تلك هي الناحية الفكرية والعلمية، وأردنا أن نسير غورها بمسبار لنعرف مدى ما بلغته من الرقي والانحطاط، من القوة أو الضعف، من النهوض أو الجمود، إذا أنعمنا النظر في هاته الناحية استطعنا أن نخرج بنتيجة لا ترضي. . . تلك النتيجة هي في - صراحة - أن المغرب الأقصى يتخبط في ديجور من الجهل قاتم، وفي بساطة فكر مفرطة، وفي خمود وجمود لم يسبق لهما مثيل في عصوره التاريخية. إذا تساءلنا هل هنالك حركة فكرية أو علمية تسود المغرب الأقصى حتى يجنى من ورائها ما يزيح به هاته الظلمة التي تغمره من أقصاه إلى أقصاه وحتى تكون حداً فاصلاً بين هاته (الفترة) وبين الحياة العلمية المترقبة وذهبنا، نلتمس الجواب عن هذا السؤال بالنظر في المغرب والبحث عن مظاهر هاته الحركة حتى وصلنا إلى مهد حركاته العلمية في عصوره السالفة إلى (كلية القرويين) التي أنجبت فطاحل علماء المغرب، استطعنا أن نخرج بالنتيجة الآتية وهي: إن هاته الحركة التي نبتغي البحث عنها وعن مظاهرها هي شيء لم يوجد حتى الآن، بل هي حلم لذيذ يطرق أفكارنا كطيف الخيال، غير أن هنالك شبه حركة علمية تغذيها كلية القرويين ونظامها الجديد ولكن. . على حال مشوهة لا ترضي ولن ترضي - إذا بقيت الحال كما نرى - فإذا ما أطلقنا عليها (حركة علمية) فقد عرضنا أنفسنا لظلم الحقيقة والتاريخ.

هذه كلمة مجملة أبنا فيها ضعف الحياة العلمية في المغرب وقدمناها بين يدي كلمتنا عن الحياة الأدبية لنعرف السبب الرئيسي لضعف الحياة الأدبية المغربية والعنصر الوحيد الذي يكون هذا الضعف ويمده بسبب منه. . . وإذا بحثنا عن الحياة الأدبية المغربية، أعني وسط الأديب المغربي لنرى هل وسط راق أم منحط. . وهل هناك ما يسمى بالحياة الأدبية حقا، لأم نجد أحسن حالاً من الحياة العلمية، بل نجدها أضعف منها وأحط بكثير؛ ولم نجد هنالك ما يطلق عليه هذا الاسم ويسمى بالحياة الأدبية. فهذه ناحية تنقص المغرب من جملة النواحي التي تنقصه وتزري به وتظهره في العالم العربي أشل. . ننظر إلى العالم العربي ونقيس المغرب بجانبه فيظهر لنا البون الشاسع بين حياته الأدبية وحياة العالم العربي، فهذه المطابع الشرقية تظهر علينا من حين لآخر بعشرات الكتب الجديدة الأدبية والعلمية بأقلام أدباء شرقيين وخاصة في مصر، فأين هي آثار المطابع المغربية من ذاك؟ وأين هي المجهودات الأدبية للأدباء المغاربة أمام مجهود الشرقيين على العموم والمصريين على خصوص؟!. . وهذا العالم العربي يطلع علينا كل يوم بمئات الصحف والمجلات الأدبية والعلمية ويظهر فيها من المقدرة على البحث الأدبي والإنتاج العلمي ما ينبئنا بقوة حياته الأدبية وبلوغها أوج الكمال، فأين هي الصحف والمجلات المغربية الأدبية؟ وأين هو إنتاج المغاربة الأدبي وبحثهم العلمي؟ وهذه الأندية الأدبية في الشرق تخرج لنا كل يوم محاضرات قيمة تغذي بها أفكار الناشئين وتكون فيهم روحاً أدبية تعينهم على مضاعفة جهودهم حتى يبلغوا المستوى اللائق بأمتهم، فأين هي الأندية الأدبية المغربية وأين هي آثارها نحو الناشئة المغربية. .؟

إنا لنبحث عن عوامل التكوين هاته الحياة الأدبية المنشودة في الكتب والمجلات والأندية فلا نجد آثراً لهذه العوامل نفسها، فما هو سبب هذا الضعف في حياتنا الأدبية. . .؟؟ إذا بحثنا عن السبب في ضعف هاته الحياة بل في اضمحلالها لم نجده ينحصر في سبب واحد أو اثنين، ولكنها أسباب تتراكم من بحث عنها وقلب بين جوانبها وسنذكر أهمها في هذه الكلمة.

1 - ضعف التعليم

هذه ناحية مهمة وسبب قوي، بل سبب رئيسي لضعف الحياة الأدبية في المغرب؛ فالتعليم هو قوام كل حياة، وإذا بحثت في الشعب المغربي وأحصيت مقدار المتعلمين وجدت عددهم لا يزيد على خمسة في الألف من شعب عدد سكانه يربو على خمسة ملايين. وهذا القدر الضئيل من المتعلمين يرجع إلى عدم وجود المدارس الكافية في أنحاء الشعب المغربي. أما مدارس الحكومة فهي على قلتها لا تضمن للمتعلم أي مستقبل ولا توجه نظره لأية جهة، فضلاً عن عدم اعتنائها باللغة العربية وعلومها. فلم يبق بين أيدينا سوى كلية القرويين التي يتكفل برنامجها الجديد بتخريج أدباء بل أساتذة في الأدب العربي - وهم الذين تخرجوا في القسم العالي الأدبي - وهؤلاء يمكن أن نعلق عليهم الأمل في بعث حركة أدبية في المغرب، لولا ما ينقص هذا القسم من عدم وجود أساتذة أكفاء يقومون بالمهمة التي نيطت بهم.

إذن فأين هو الوسط الذي تنمو فيه هاته الحياة الأدبية وتزدهر؟ إذا لم يكن وسط المتعلمين فأي وسط؟؟

2 - الصحافة

من عوامل بعث الحركات الأدبية، بل جميع الحركات، الصحافة. ومن البر بالأدب أن ألا ننسى فضل الصحافة عليه وعملها في بعث الحياة الأدبية في الأقطار العربية. فهذه مصر زعيمة الشرق العربي تتخذ الصحافة أداة لترويج سوق الأدب ونفاقه، فإليها يرجع الفضل الكبير في نقل نتائج الحركة الأدبية المصرية إلى الأقطار الشرقية الأخرى. فلننظر في الحياة الأدبية المغربية، ولنر حظها من الصحافة، وعمل هذه الأخرى في تكوينها وبعثها.

المغرب الأقصى من جملة الشعوب التي لم تحظ لحد الآن بصحيفة - أدبية وعلمية - سوى جريدة (السعادة) لسان الحكومة الرسمي وناشرة أخبارها ومقرراتها. ويرجع هذا الفقر الصحفي في المغرب إلى القانون الجائر الذي وضع للصحافة بالمغرب، إن صح لنا أن نسميه قانوناً. وقد أنشئت صحف في منطقة النفوذ الأسباني فطوردت في منطقة النفوذ الفرنسي. نعم هنالك مجلة علمية تصدر شهرياً في تطوان باسم (المغرب الجديد) فعليها نعلق آمالنا في بعث الحياة الأدبية في المغرب. أما (مجلة المغرب) التي تصدر شهرياً في رباط الفتح، فليس يعنيها من الناحية الأدبية والعلمية شيء، وإنما يهمها - الخبز والتعليم - على حد تعبيرها. فإذا علمنا هذا الفقر الذي يعانيه المغرب من الصحف والمجلات، استطعنا أن ندرك بسهولة سبباً من الأسباب القوية في خمود الحركة الأدبية في المغرب. أما ما نسمع فيه الحين بعد الحين من طنطنة أدبية فيرجع الفضل فيه إلى الصحف الشرقية، ولمجلة (الرسالة) الحظ الأوفر في ذلك.

3 - المشارع الأدبية

لسنا نعني بالمشارع الأدبية سوى تلك الحفلات التي يقيمها جماعة من الأدباء لتكون مسرحاً لمباراتهم الأدبية وحافزاً لهم على القول والكتابة؛ وهي من دواعي النشاط الأدبي والإنتاج الفكري ورثها العرب الخلف عن سلفهم الذين كانوا يقيمون أسواقاً سنوية لقرض الشعر وإنشاده، فقد حدثنا الرواة كثيراً عن أسواق العرب في الجاهلية وما أنشد فيها من شعر وأدب. ولقد اتبع هذه السنة أدباء العربية اليوم فأخذوا يقيمون الحفلات المتوالية لبعث الحركة الأدبية وإحيائها؛ فهم بينما يحتفلون بالعلماء الأحياء الذين قطعوا مفازة كبيرة في الجهاد العلمي، إذا بهم يحتفلون بالأموات تقديراً لمجهوداتهم الأدبية أو العلمية أو غيرها. وفي هذه الحفلات الأدبية ترى ألسن الشعراء والخطباء تتنافس في جيد القول، وكفى بها فائدة للحياة الأدبية.

وإذا نظرنا إلى المغرب الأقصى وأردنا أن نعرف ما يؤديه لحياته الأدبية من ناحية هذه المشارع لم نجد له أي عمل في ذلك، وهذا ما سبب لحياته الأدبية هذا الضعف وهذا الجمود، وأوقعه في هذه الأزمة الأدبية التي يعانيها ويذوق من أجلها الأمرين. نعم حاول بعض الأدباء أن يخطوا بالمغرب خطوة في هذا السبيل فكان من آثارهم حفلة ذكرى الأربعين لخالد الذكر (أحمد شوقي بك) وحفلة الذكرى الألفية لأبي الطيب المتنبي (أقيمت بفاس في 25 رمضان الفارط) وهي خطوة حميدة في هذا الباب كان لها أثر أدبي جميل. غير إن هذا العمل الضئيل الذي قام به هؤلاء الأدباء لا يكفي في بعث الحركة الأدبية وإيقاظها، إذ هو لم يعد حفلتين كانت أولاهما منذ ثلاث سنين أو تزيد، وأخراهما في هذه السنة؛ وإنما الذي نتطلب أن تكون هنالك حفلات أدبية منظمة يتكفل بها أدباء مغاربة حتى يستطيعوا أن يكونوا حياة أدبية وأن يبعثوها من مرقدها، وقد حاول طلبة القرويين مراراً أن ينشئوا جمعية أدبية علمية يكون من أهم أغراضها تأسيس نادٍ لهذه الغاية فلم يظفروا بذلك من الحكومة.

4 - البخل على الأدب

وهذا سبب آخر قد يكون وصمة في جبين الحياة الأدبية المغربية ومانعاً من الموانع التي تعوقها عن التقدم وتدفعها نحو الضعف والجمود، ذلكم السبب هو البخل على الأدب، أعني عدم وجود الناشرين لهذا الأدب الذي نود أن يبعث. فمن دواعي النشاط الأدبي أن يجد الأديب الذي يقف قسطاً من حياته على تأليف كتاب أدبي أو نظم ديوان شعر ناشراً يبرز مجهوداته إلى الوجود ويخرجها إلى الناس ليعرف مقدار عمله، ويكون ذلك مشجعاً له على المضي في سبيله والمغاربة - مع شديد الأسف - ليس فيهم من يشفق على هذه الحياة الأدبية، وينظر إليها بعين العطف والحنان فيقف قسطا من ماله على نشر الكتب الأدبية والدواوين الشعرية، أو يقدم جائزة - مثلاً - لمن يؤلف كتاباً في الأدب، مع أن فيهم الأغنياء الذين يستهلكون ثروتهم في شهواتهم فقط. وكما لا يوجد أفراد من هذا النوع في الوسط الغربي لا توجد هناك شركات تجعل موضوع تجارتها نشر الكتب الأدبية المغربية. ولست أدري لذلك من سبب سوى عدم الإشفاق على الأدب المغربي. أما لو وجد الناشرون لبرز شطر من الأدب المغربي المخبوء، ولتكونت حركة أدبية في المغرب، فلعل السبب الوحيد الذي يدعو الشعراء المغاربة لعدم نشر دواوينهم هو فقدان هاته المساعدة المادية. فهذا شاعر الشباب الأستاذ محمد علال الفاسي يود أن ينشر ديوانه (روض الملك) ولكن أين هو الناشر؟

هذه جملة الأسباب التي تعين على ضعف الحياة الأدبية في المغرب أجملنا القول فيها أجمالاً، لنعلل فقط هذا الضعف المزري بحياتنا الأدبية، وليظهر للقارئ السبب الداعي لخمود الحركة الأدبية في المغرب. . .

(فاس - المغرب الأقصى)

ع. ك