مجلة الرسالة/العدد 154/بعض أبطال النقد وأثرهم في نهضة الآداب الأوربية

مجلة الرسالة/العدد 154/بعض أبطال النقد وأثرهم في نهضة الآداب الأوربية

مجلة الرسالة - العدد 154
بعض أبطال النقد وأثرهم في نهضة الآداب الأوربية
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1936



عندما قرأت مقال الأستاذ صاحب (الرسالة) في فوضى النقد في مصر، ثم قرأت في الأسبوع التالي مقال الأستاذ أحمد أمين، بدا لي أن أقدم للقراء طائفة من النقاد الأوربيون كان لهم أكبر الأثر في نهضة الآداب كل في مملكته. وقد اشترك هؤلاء في فضيلة واحدة جعلت لكتابتهم قيمتها، تلك الفضيلة هي أنهم لم يقيموا من أنفسهم قضاة يصدرون أحكامهم على الأدباء، ولا اتخذوا من أنفسهم شتامين سبابين، يخرجون عن موضوع النقد إلى الخوض في الأعراض وانتقاص الشاعر أو الكاتب بكل ما يضع من قدره، ويحط في أعين القراء من شأنه. . . بل هم كانوا يعرضون بضاعة الأدباء على القراء ويعينونهم على تقديرها بالنقد والتحليل، ويلفتون أنظارهم إلى ما فيها من جمال أو قبح، ثم يتركونهم يصدرون أحكامهم من تلقاء أنفسهم. وأحسب أن لو أتبعت هذه الطريقة في مصر لعادت على الأدب والأدباء بأكبر النفع، ولا سيما إذا لم تقحم السياسة والإحن والتعصب في المسائل الأدبية التي ينبغي أن تظل بريئة خالصة لوجه الحق والأدب.

أما هؤلاء النقاد الأوربيون فهم: لسنج الألماني، وسانت بيف الفرنسي، وبلنسكي الروسي، ثم كولردج، وشارل لامب، وهازلت، وأرنولد الإنجليز.

1 - لسنج

كانت أوربا كلها إلى ما قبل القرن الثامن عشر تعير ألمانيا بالإفلاس الأدبي، وكانت ألمانيا تنظر إلى خصيمتها فرنسا نظرة كلها حسد وكلها غيرة، وإن كان هذا الحسد وتلك الغيرة لم يمنعاها من أن تكون التلميذة المؤدبة المعترفة بالجميل لفرنسا، ذلك لانتشار الأدب الفرنسي بين الألمان في ذلك الوقت انتشارا كان يأخذ السبل على كل الآداب الأوربية، فما يستطيع أحدها النفاذ إلى ألمانيا، بما في ذلك الأدب الإنجليزي الذي كان بطبعه أقرب إلى ذوق الألمان. فلما ولد جوتهولد إفرايم لسنج سنة 1729 دقت البشائر في ألمانيا كلها، وأخذ الكابوس الذي كان يجثم على صدرها ينظر إلى هذا الطفل ويعد العدة للرحيل!

قضى لسنج أيامه الأولى متنقلاً بين لينبرج وبرلين؛ وكان أبواه قد نذراه للكنيسة، لما كان للرهبان في تلك الآونة من عظيم الشأن في ألمانيا؛ ومن هنا كان الصراع الهائل في نفس الشاب بين ميوله الأدبية الفطرية وبين التزمت الديني في الفكر الذي يقسر عليه رج الدين عادة. فصبأ من تلقاء نفسه، واحترف الأدب.

وكان لسنج يبغض الأدب الفرنسي ويبغض الأدباء الفرنسيين وفي مقدمتهم فولتير؛ وأكبر الظن أنه كان يصدر عن عصبية ووطنية صارخة لما كان بين الدولتين من منافسات وثارات. ولم يبرح يكتب ويكتب، ولم يبرح المسرح يجتذبه إليه، فعكف أول الأمر ينقد الدرامات الفرنسية التي كانت تكتسح المسرح الألماني، ويظهر الناس على ما فيها من ليونة لا تتفق والقوة التي تنشدها ألمانيا. ولم يقف عند الكتابة في الصحف والمجلات، بل ألف كتابه القيم (تاريخ المسرح) وأصدره سنة 1750، وهو كتاب خطير حسن يلفت فيه لسنج أنظار قومه بشدة إلى روائع المسرح الإغريقي، ويقفهم به على أحسن ما جادت به قرائح إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. ثم يدعوهم به إلى الأيمان باليونان والكفر بفرنسا. وكان هذا الكتاب أول محاولة صادقة لإحياء الدراما الكلاسيكية، وقد هرع إليه أدباء ألمانيا فتخذوا منه إنجيلا يبشر بأدب جديد؛ وافتتن به جوته فبشر به؛ وجعله شيللر ناموسه الأكبر إلى أدب المجد والخلود.

وكان لسنج يعجب أيما إعجاب بشكسبير، فدأب على الدعوة له في ألمانيا حتى أفلح أخيراً في صرف الشباب الألماني إليه. وقد حفظ له الإنكليز هذا الجميل فنقلوا إلى لغتهم كل ما كان يكتب ويؤلف.

وقد تمت هزيمة الاتجاه الفرنسي في ألمانيا حينما أصدر لسنج مأساته الخالدة (الآنسة سارة سامبسون) سنة 1755 التي كانت بحق أولى ثمار الأدب القومي الألماني المستقل. وبعد هذه الدرامة فرغ لسنج للنقد فأرشد ألمانيا كلها لما فيه خيرها ولما فيه صلاح نهضتها.

وفي سنة 1766 أصدر لسنج قصته البارعة (لاوكون) التي أتفق كل مؤرخي الآداب على أنها أعظم نتاج أدبي صدر في القرن الثامن عشر بطوله. والقصة تدور على حوادث النبي الطراودي لاوكون الذي وعظ قومه آلا يقربوا الحصان الخشبي وألا يدخلوه إلى مدينتهم لأنه سيكون شراً عليهم. ولقد لخصت (الرسالة) هذه الحادثة في باب القصص في آخر حروب طراودة. وبحسب هذه القصة أن يقول فيها جوته: (يجب أن نرتد طفرة إلى ميعة الشباب وحرارته كي ندرك حقيقة الأثر العميق الذي تركه فينا لسنج بقصته العبقرية (لاوكون) الذي انتشلتنا من صفوف المتفرجين التاعسين البلداء إلى صفوف المفكرين المنتجين العظماء!) وقد عرض لسنج في ثنايا القصة إلى ضروب من النقد الحر المعتدل البعيد من الصلف جعلتها قانونا عاما لهذا الفن الذي هب أدباؤنا اليوم يشكون مر الشكوى من المتطفلين عليه بغير الحق.

2 - سانت بيف (1804 - 1869)

لا يستغني طالب الأدب الفرنسي عن كتاب (أحاديث الاثنين) لسانت بيف؛ بل نبالغ إذا جزمنا أنه لا غناء لمتأدب في أي أمة عن هذا الكتاب الذي لا يعدله كتاب في النقد الأدبي في العالم. ولم يكن لورد مورلي مبالغاً حين قال إن من شاء استيعاب الأدب الفرنسي كله فحسبه أحاديث الاثنين لسانت بيف، فهي ذوق وذخيرة وعدالة ومفتاح ذهبي لكل من يستغلق عليه شيء من هذا الأدب الحافل.

وقد عرض سانت بيف لطائفة كبيرة من الأدباء الإنجليز والإغريق في أحاديثه، فحلل آدابهم وعرضهم على قرائه عرضاً علمياً شائقاً شهد بعدالته وسموه كبار النقاد الإنجليز أنفسهم، وإن يكن قد قدح في طريقة الناقد الإنجليزي الكبير صموئيل جونسون التي عرض بها لجمهرة من الشعراء في كتابه (حياة الشعراء ولم يكن سانت بيف متعسفاً في هذا القدح، بل كان صائب الرأي فيه إلى حد بعيد؛ ويكفي أن تعلم أن كتاب جونسون هو مجموعة مقدمات لدواوين الشعراء كان يطلب منه تقديمها إلى القراء بها، فكان لا يعني فيها إلا بإبراز محاسن الشاعر وإلا كبار من شأنه غاضاً الطرف عن عيوبه يكفي أن تعرف هذا لتتفق مع بيف في إقلاله من شأن جونسون وكما قدح بيف في طريقة جونسون في نقد الآداب، فكذلك لم ترضه طريقة مواطنه الكبير بوالو (لأنه كان ينظر إلى الأديب نظرة سطحية، ثم سرعان ما يصدر حكمه عليه؛ والناقد العادل ينبغي أن يستعرض حياة الأديب وعصره وبيئته وظروفه فيشرحها للقراء شرحاً مسهباً ثم يدعهم يصدرون أحكامهم؛ فليس من وظيفة الناقد أن يكون قاضياً. . .)

وأحاديث الاثنين فصول ممتعة كان يحررها بيف في إحدى المجلات الدورية ثم جمعها وأصدرها في عدة مجلدات وأردفها بكتابه الرائع في النقد والأدب والفلسفة وقد تناول فيه الحركة الذهنية برمتها في عهد لويس الرابع عشر.

3 - بلنسكي (1811 - 1847) يرجع تاريخ النقد الأدبي في روسيا إلى عهد الشاعر العظيم بوشكين (1799 - 1837) وذلك للفصول الممتعة القوية التي كان يوالي نشرها في المجلة الروسية (الرسول الأوربي) ينقد فيها الشعر والشعراء منذ فجر النهضة الروسية إلى زمنه. وقد أثارت هذه الفصول حماسة الشباب ولفتتهم إلى درر الآداب العالمية، وربت فيهم ذوقاً خالصاً شفافاً يزن بالنظرة الواحدة قيم الأدب بنوعيه في ذلك العصر من شعر ونثر. وقد استجاب لفصول بوشكين زعماء الشباب من أدباء روسيا واجتذبت بعض أمراء البيت القيصري وفي مقدمتهم الأمير الأديب فيازيمسكي الذي نزل إلى ميدان النقد بقلمه - على نهج بوشكين - في مجلة (كارامزين) (1808 - 1878) - وانتظمت حركة النقد على صدى سانت بيف حين دخل عنصر الاحتراف في الصحافة الروسية وقطعت شوطاً كبيراً على يد الصحافي القدير بولفوي. الذي لفت إليه الأنظار بفصوله الضافية في نقد الأدب والحياة والتقاليد الروسية، وإن أغضب الفئة الرجعية التي لا تخلو منها أمة ما. . .

بيد أن هذه الحركة المباركة لم تبلغ أوجها إلا حين تسلمها فتاها الأكبر فخر أدباء روسيا بلنسكي، الذي وثب من وسط وضيع وأسرة فقيرة وتعليم ناقص مبتور، فاستطاع أن يتسم أسمى ذروة بين مواطنيه، وأن يرسم الخطط لما ينبغي أن يكون عليه الأدب والاجتماع في روسيا جميعاً. وكأننا به قد تسلم تراث أسلافه بوشكين ولرمونتوث وجوجول ليغربله ويسقط ما فيه من نفايات، كيما يخلق منه قادة الأدب العالمي الجديد: جوتشريف وهرزن ودستوئفسكي وتولستوي وشيخوف وجوركي. وبحسبك أن تعلم أن الأربعة الأول قد تتلمذوا على بلنسكي، ورضعوا لبانه ودرجوا في حجره، وثقفوا عنه فلسفة هجل وجيته، وطرائف شاكسبير وروائع الأدب الفرنسي، وآمنوا عن سبيله، بأن الفن للحياة، وليس الفن للفن.

ولشد ما كانت روسيا تشبه مصر اليوم من الوجهة الأدبية، فكان فيها معسكران كبيران ينزع أحدهما إلى التجديد والأخذ عن الغرب، وتسموا باسم (الثائرين) وكان على رأسهم بلنسكي يعاونه ويشد أزره الناقد المحاضر الكبير يوسف لوما يستر، ويساعدهما الأديب الثقة والناقد المحقق هرزن، أما المعسكر الآخر فهم فئة السلافيين وكانوا يتعصبون لروسيا القديمة تعصباً أعمى، وكان أدباؤهم ينقدون معسكر الثائرين نقداً كله شعوذة وكله رمي بالكفر المروق من الدين والوطنية.

وقد أخذ الأستاذ بركنر الألماني في كتابه (تاريخ الآداب الروسية) على بلنسكي وإضرابه من النقاد الروسيين ما كانوا يحيدون به أحياناً عن قوانين النقد التي وضعها سانت بيف ولسنج وأرنولد، وقال إنهم حين كانوا يفعلون ذلك كان يجيء نقدهم سطحياً قليل الغناء، وقد رد الأستاذ بارنج في كتابه (خلاصة الأدب الروسي) على هذا المأخذ بأن بلنسكي ومدرسته كانت تنشد قبل كل شيء خلق وأدب قومي روسي بكل معنى الكلمة ينافس الآداب الأوربية التي كانت تطغي على روسيا نفسها فتجذب إليها جمهور القراء الروسيين. . . لذلك كان يضطر أحياناً إلى منازلة خصومه بأشد من أسلحتهم في المهاترة والثلب!

4 - كولردج وشارل لامب

لو أن كولردج (1772 - 1834) قصر جهوده على النقد دون النظم لأفاد الأدب الإنجليزي أكثر مما أفاده بشعره، وأن يكن له في هذا الميدان جهده المشكور. ولقد كانت طريقته في النقد مثل طريقة مواطنه وصديقه شارل لامب (1775 - 1834) وإن أختص الأول بعرض أدب شاكسبير أكثر من أي شيء آخر. وكل النقاد الحديثين في إنجلترا يحترمون آراءه في شاعرهم الأكبر ويعتمدون عليها. وشارل لامب هو صاحب النظرية العجيبة في نقد الآداب والتي تتلخص في (وجوب اعتماد الناقد على ذوقه كحاسة سادسة لا على عقله فقط في نقد الأدب!) وهو يشرك الروح في النقد، ويطلب من الشاعر أن يغني ويصور، ويبكي ويتألم، لا أن ينظم حقائق هذه الدنيا فيكون شعره جافا ثقيلا على القلب. فالروح عند شارل للشعر، والعقل للعلم. وقد كان لامب يثير شغف القراء وإعجابهم بفصوله التي كان ينشرها في بإمضاء (إيليا)؛ ولولا أثرته ومدحه لذاته في هذه الفصول لرفعته إلى أسمى مراتب النقاد.

5 - هازلت (1778 - 1830)

لا تقل مكانة وليم هازلت في النقد عن مكانة سانت بيف؛ ويعده الإنجليز واضع أسس النقد الأدبي الحديث في إنجلترا، وهم يقبلون على قراءته إلى اليوم كما يقبل الفرنسيون على قراءة سانت بيف، وكما يقبل الألمان على لسنج، والروس على بلنسكي. ويذكر هازلت أن سبب شغفه بالأدب والنقد خاصة هو لقاؤه الأول بكولردج الذي كان صديق أبيه. وكان يزوره في منزله كأعز ضيف عليه. ولقد حاول هازلت مرة أن يهجر الأدب إلى الفنون، وشغف فعلاً بالتصوير والرسم ولكنه فشل، فحطم ريشته وامتشق براعته، وكان ذلك من حسن حظ الأدب.

وما كاد هازلت ينشر فصوله الأولى في النقد في إحدى المجلات حتى استرعى انتباه الدوائر الأدبية العليا. وحتى دعته مؤسسة رسل لإلقاء بضع محاضرات في (نشوء وترقي الفلسفة الحديثة)، ثم في (الشعر والشعراء الإنجليز) و (كتاب الكوميدي الإنجليز)، و (عصر إليزابيث). ودعته صحيفة المورنتج كرونكل لتحرير قسم النقد المسرحي فيها. وأخذ بعد ذلك ينشر فصوله عن (الدائرة المستديرة) في صحف التيمس والتشامبيون والأجزامنينر، واتصل بمجلة لندن فنشر فيها حديث المائدة وبحثه القيم عن (روح العصر). وغير ذلك من الموضوعات الشائقة. وقد شهد البروفيسير سينتسبري - ولم يغل - بأن فصول هازلت في النقد قد فاقت غيرها في جميع الأمم، ولم يستثن سانت بيف - ولولا ما كان من إعجاب هازلت بنابليون لعبده الإنجليز ولقدسوه تقديساً.

6 - مانيو أرنولد (1822 - 1888)

أرنولد من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ولكنه خدم الأدب الإنجليزي بكتابه القيم (فصول في النقد أكثر مما خدمه بشعره؛ ويكاد أرنولد يتفق وهازلت في طريقته في نقد الآداب، غير أنه يمتاز من هازلت بأنه يخلق من القارئ نفسه ناقداً للموضوع أو الأديب الذي ينقده، فما يكاد أحد يتلو فصولاً من كتابه حتى يحس من نفسه القدرة على النقد، كأنما قد تقمصه أرنولد! وهذا ما أفاض في شرحه الأستاذ هربرت بول في كتابه عن أرنولد؛ ولولا تشكك أرنولد وكثرة حيرته، وهما عيبان يبدوان كثيراً في فصوله، لما قل في مرتبته عن هازلت وعن سانت بيف.

وبعد فهذه لمحات خاطفة لمادتنا نقاد الآداب عن زملائهم (!) في بعض الأمم الأوربية، نرجو أن يهتموا بدراستهم في المراجع التي أشرنا إليها ثم ينقدوا بعد ذلك ما يشاءون.

(د. خ)