مجلة الرسالة/العدد 154/شخصية غامضة في التاريخ الأندلسي
مجلة الرسالة/العدد 154/شخصية غامضة في التاريخ الأندلسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
شخصية غامضة وحادث غامض في التاريخ الأندلسي، في عصر الفتح، تقدم عنهما الرواية النصرانية كثيراً من التفاصيل الغامضة المتناقضة، وتمر عليها الرواية الإسلامية بالصمت؛ ومازال البحث الحديث مترددا في شأنهما.
أما هذه الشخصية الغامضة فهي شخصية ذلك الزعيم المسلم أو النصراني طبقاً لبعض الروايات، الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، والذي كان يتولى حكم بعض الأقاليم الشمالية في عهد عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس؛ وأما الحادث أو الحوادث الغامضة التي ترتبط باسم هذا الزعيم، فهي مخالفته للدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي، وزواجه من ابنته الأميرة لامبجيا التي اشتهرت برائع حسنها، ومشاريعه الغامضة التي نظمها مع الدوق، والتي انتهت بخروجه على حكومة الأندلس، ثم هزيمته ومقتله، وأسر زوجته الحسناء لامبجيا.
وسنحاول في هذا البحث أن نعرف من هو (منوزا) صاحب هذه الشخصية الغامضة. ولقد كنت أعتقد، كما يعتقد كثير من الباحثين في التاريخ الأندلسي أن (منوزا) أو مونز إنما هو تحريف لاسم (ابن أبي نسعة) العربي، وهو عثمان ابن أبي نسعة الخثعمي الذي تولى إمارة الأندلس في سنة 110هـ (728م)؛ وقد سرت على هذا الرأي فعلاً فيما كتبته عن تاريخ هذه الفترة في الفصل الذي خصصته لموقعة بلاط الشهداء في كتابي (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام)؛ ولكني اليوم أصبحت اشك في صحة هذا الرأي، وفي أن منوزا وابن أبي نسعة هما مسميان لشخص واحد.
وتتفق الروايات النصرانية - ومنها الروايات المعاصرة - على هيكل الحوادث التي ترتبط باسم منوزا من تاريخ أسبانيا المسلمة؛ ومعظمها على أن منوزا كان زعيماً مسلماً، يحكم بعض ولايات البرنيه وسبتمانيا فيما وراء البرنيه باسم حكومة الأندلس؛ وكان ذلك حوالي سنة 725 - 730م؛ وكان الدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي في ذلك الوقت يتلمس كل وسيلة لحماية مملكته من غزوات العرب؛ وكان العرب قد غزوا أراضيه مراراً قبل ذلك وأثخنوا فيها؛ وكان جل همه أن يتقرب من حكومة الأندلس أو يجمع الحلفاء من حوله لمقاومتها، فلما تولى (منوزا) حكم الولايات الشمالية، وهي التي تجاور إمارة اكوتين من الشرق والجنوب، سعى الدوق إلى التفاهم معه؛ وكان منوزا كما تصفه الروايات زعيما قوي المراس، كثير الأطماع نافذ الهيبة في هاتيك الوهاد؛ ولم يكن على اتفاق مع حكومة الأندلس؛ ذلك لأنه كان من أقطاب البربر الذين عبروا إلى الأندلس مع طارق بن زياد؛ ونحن نعرف أن البربر كانوا على خلاف دائم مع العرب، يحقدون عليهم لأنهم استأثروا دونهم بمغانم الفتح والرياسة. فإذا صح أن (منوزا) كان زعيماً بربرياً كما تصفه الروايات الفرنجية المعاصرة، فيكون من المشكوك فيه إذا أن يكون (منوزا) هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، الذي تولى إمارة الأندلس كما قدمنا. ذلك أن عثمان كان زعيماً عربياً، ينتسب إلى خثعم إحدى البطون العربية العريقة هذا إلى أن الرواية العربية تقدم إلينا عن مصيره رواية أخرى غير تلك التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية عن مصير منوزا، فهي تقول لنا إن أبي نسعة ولي الأندلس في شعبان سنة 110 (سنة 728م) واستمرت ولايته خمسة أشهر أو ستة أشهر، ثم عزل وأنصرف إلى القيروان وان فمات بها. أما منوز فقد مات محارباً ومات قتيلاً كما سنرى.
وعلى أي حال فقد تفاهم أمير كوتين ومنوزا؛ وقوت المصاهرة بينهما أواصر الصداقة والتحالف؛ ذلك أنه كانت للدوق ابنة رائعة الحسن تدعى لامبجيا (أو منينا أو نوميرانا على قول بعض الروايات) فرآها منوزا أثناء رحلاته (أو غاراته) في اكوتين وهام بها حباً. تقول الرواية: (وكانت لامبجيا أجمل امرأة في عصرها، كما كان منوزا أقبح رجل في عصره، وكانت نصرانية متعصبة، ولكن أطماع الوالد غلبت على كل شيء فأرتضى مصاهرة الزعيم المسلم). ويصف جيبون مؤرخ الدولة الرومانية هذا التحالف، وتلك المصاهرة في قوله: (أرتضى منوزا الزعيم البربري محالفة دوق اكوتين، وأسلم أودو لباعث المصلحة الخاصة أو العامة، ابنته الحسناء، لقبلات الملحد الأفريقي وعناقه).
وتحيط الرواية النصرانية شخصيا لامبجيا بكثير من الغموض أيضاً، وتختلف في ظروف زواجها من الزعيم المسلم، فتقول مثلا: إن منوزا أسر لامبجيا في إحدى غاراته على أراضي اكوتين، ثم هام بها حباً وتزوجها، وحمل بنفوذها وتأثيرها على محالفة أبيها الدوق، ومناوأة حكومة الأندلس؛ وأنه تزوجها طوعا كما تقدم، وتقول أيضاً إن ابنة دوق اكوتين التي تزوجها (منوزا) لم تكن لامبجيا، وإنما كانت أختها (منينا) التي كانت من قبل زوجة لفرويلا القوطي أمير أوسترياس، وتقول غير ذلك من الأنباء والتفاصيل التي يقع معظمها في حيز الأساطير ونمى أمر من هذا التحالف إلى حكومة الأندلس، فلم تقره، وارتابت في أمره؛ وأبدى منوزا من ضروب التمرد والاستثارة ما حملها على اعتزام تأديبه وتحطيمه؛ وكان أمير الأندلس يومئذ عبد الرحمن الغافقي أعظم ولاة الأندلس، فبعث لتأديب الخارج حملة قوية بقيادة ابن زيان، فامتنع منوزا بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه (مدينة الباب) الواقعة على منحدر البرنيه، وكان يضن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامي، وأن يعتصم بالصخر كما أعتصم به الزعيم القوطي بلاجيوس؛ ولكنه كان مخطئاً في تقديره؛ فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية؛ فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه؛ وتحطمت أطماعه ومشروعاته (113هـ - 731م) وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسل بها أمير الأندلس إلى بلاد الشام فاستقبلاها الخليفة (هشام) بحفاوة وإكرام، وتزوجت هنالك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه.
والرواية العربية تمر على هذه الحوادث كلها بالصمت، ولا تذكر لنا أي تفصيل أو لمحة تلقي الضياء على شخصية منوزا؛ بيد أن ابن عذاري المراكشي ينقل إلينا أيضاً نصاً يستوقف النظر في حديثه عن ولاية أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي إذ يقول: (وهو الذي غزا منوسة) فهل تكون (منوسة) هي الافرنجية المحرفة (منوزا) أو بعبارة أخرى هل تنصرف هذه الكلمة إلى الشخص أو تنصرف إلى المكان؟ يرى دوزي أنها تنصرف إلى الشخص، وأن أبن عذاري يقصد هنا (منوزا) صاحب المأساة التي أتينا عليها.
أما نحن فنرى بالعكس أن الكلمة هنا تنصرف إلى المكان، وأنه لا علاقة بين كلمة (منوسة) وبين الزعيم (منوزا)، ذلك أن الرواية العربية لم تعتد أن تعبر عن غزو الأشخاص بهذه الصورة، وإنما تتحدث دائماً عن غزو المكان، هذا إلى أن الحديث هنا يتعلق بغزوات معروفة في الرواية الإسلامية قام بها أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي الذي تولى إمارة الأندلس في أوائل سنة 111هـ (729م)؛ فقد عبر الهيثم جبال البرنيه غازياً؛ وأخترق ولاية سبتمانيا، ثم وادي الرون، وغزا ليون (لودون)، وماسون، وشالون الواقعة على نهر الساؤون، واستولى على أوتون وبون، وعاث في أراضي برجونيه الجنوبية؛ والمرجح لدينا أن مدينة (ماسون) التي غزاها الهيثم، إنما هي (منوسة) التي يذكرها ابن عذارى، حرفت بالعربية بطريق التقديم والتأخير في الأحرف.
هذا، وهنالك رواية نصرانية أوردها ماريانا المؤرخ الأسباني الكبير؛ فقد ذكر أن (منوزا) كان نصرانياً، أختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة في غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً شديد الوطأة يسوم النصارى سوء الخف؛ وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقة القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوزا حباً؛ ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوزا، وبعثه في مهمة إلى قرطبة؛ وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج منها قسراً. فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرقبان الفرص، حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها، وسارت مع أخيها إلى جبال جليقة حيث أعتصم بلاجيوس مع أنصارهن وأعلن الخروج والثورة. فأخطر منوزا حكومة قرطبة؛ فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة (علقمة)؛ ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل أن يعتصم بشعب الجبال. فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة؛ وارتاع منوزا لفوز خصمه، وخشي انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكن وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلته؛ ويضع سريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718م.
ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف؛ أولاً لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني؛ وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الرواية المعاصرة عن شخصية منوزا، وعن مصاهرته لدوق أكوتين؛ وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذي يعينه ماريانا بنحو عشرة أعوام.
وعنئذ يبقى أمامنا فرض واحد يمكن التعويل عليه في تعيين شخصية منوزا. فهو زعيم مسلم بلا ريب؛ ولكنه شخص آخر غير (ابن أبي نسعة) أمير الأندلس كما أوضحنا. ومن المعقول جداً، أن يكون، كما تصفه الرواية النصرانية المعاصرة، من زعماء البربر الذين دخلوا الأندلس وقت الفتح؛ وقد حرفت الرواية الفرنجية اسمه إلى هذا الوضع، وهنالك في ظروف الأندلس عقب الفتح، وفي عوامل الخصومة التي نشبت بين العرب والبربر، وفي تنازعهما المستمر على مناصب الرياسة والحكم، ما يؤيد انتماء منوزا إلى البربر؛ وعلى ضوء هذا الفرض وحده نستطيع أن نفهم موقف منوزا وتصرفاته في محالفة دوق أكوتين ومصاهرته وفي محاولته الخروج على حكومة الأندلس، تحقيقاً لأطماع جاشت بها نفسه، ونزولاً على عوامل الخصومة التي يضطرم بها البربر نحو العرب.
محمد عبد الله عنان.