مجلة الرسالة/العدد 156/أروع أيام سعد
مجلة الرسالة/العدد 156/أروع أيام سعد
لعل يوم الجمعة التاسع عشر من هذا الشهر كان أروع أيام سعد!
انتصر فيه وهو رفاتٌ وفكرة وذكرى على الحقد الذي طالما نبح
المجد، وعلى السلطان الذي طالما قهر الزعامة.
كانت روعة أيامه الغر التي أسفرت عنها ليالي مالطا وسيشيل وجبل طارق من شخصيته التي طاولت العروش، وعزيمته التي صاولت الجيوش، وبلاغته التي عاجزت القدر؛ أما يوم نقل الرفات إلى الضريح الرسمي فكانت روعته من الفكرة التي ثبتت على الاضطهاد وغلبت على الاستبداد وظهرت على الإفك ظهور الدين على الشرك بالإيمان والإخلاص والتضحية. وسر الجلالة العظمى في سعد أنه كان وهو حي يمثل كبرياء الشعب، ثم اصبح وهو ميت يمثل سلطان الأمة. كان يمثل كبرياء الشعب لأنه خرج منه ونبغ فيه، فكان حجة له على كبرائه الذين كانوا يتأبهون عنه، ويلمزونه بالضعة، وينبزونه بالفلاحة؛ ثم عاد يمثل سلطان الأمة لأن جهاده الباسل بها ولها جعل اسمه رمزاً للاستقلال وعلماً على الدستور وعنواناً على الديمقراطية. فمظاهر الفرح المستطير، أو الحزن المُرمض، أو العزة المستطيلة، التي أعلنها الشعب يوم خرج من معتقله أو رجع من منفاه، ويوم الاحتفال بوفاته أو بنقل رفاته، كانت مظاهر صادقة لعواطفه المتحدة، صدرت عنه بدافع من نفسه وباعث من شعوره، لأن سعداً لم يعدْ رجلاً محدود الوجود بذاته ومميزاته ورغائبه، وإنما أصبح معنى مقدساً من معاني الشمول يختصر في نفسه خصائص جنسه، ويجمع قلبه أمانيَّ شعبه؛ فهو علم يخفق بالأمل، ومنارة تشع بالهداية، ورسول من رسل القيادة الذين يبعثهم الله إلى الناس في متاهة السُبل وضلالة النفوس فيكونون رمزاً لرجاء الإنسان في الله، ومثالاً لرحمة الله بالإنسان.
كانت النفس المصرية في ذلك اليوم المشهود على حال عجيبة من شتى الأحاسيس ومختلف العواطف: سرور مَزْهُوٌّ بفوز الإرادة القومية واستطاعتها بعد تسع سنين أن تصحح خطأً فادحاً من أخطاء الغرور الجاهل، وحزنٌ دخيل هادئ لاحتجاب الشعاع وقد غام الأفق واستعجم المسلك، ثم شماتة حانقة تصيح بالجبابرة الضعاف من أفواه الطرق ومنافذ البيوت، وعلى أطوره الشوارع وسُوح الميادين: أنا الأمة! أنا الإرادة الأولى، وأن الكلمة الأخيرة!
وكان في موكب الرفات المنتصر قوم يمشون، وجوههم إلى الأرض، وأفكارهم إلى الوراء، يقولون في أنفسهم: استعنا على كبْت هذا المجد الثائر بقوة السلطان وضجة البرلمان وثورة الخزانة، فإذا كل أولئك معناه هَوَج العاصفة، ورهج الغبار، وسرف المطر؛ وإذا الشمس من فوق أولئك لا تزال ساطعة الشعاع دائبة الارتفاع لا يرتقى إليها صخب، ولا يعلق بها قَتَم! أن الموت نفسه قد إنخزلت عنه قواه فلم يستطع طمسه في عين الوجود ولا محوه من سمع الزمن. لا يزال ملء الحاضر وعدة المستقبل، ومن العناء الباطل أن يحاول الجبروت مهما طغى أن يدخله في الماضي. هؤلاء هم الجند الذين طالما أكرهناهم على أن يطاردوه في الأقاليم، ويحاصروه في العواصم، ويصادروه في الأندية، ويضايقوه في المنازل، ويحولوا بينه وبين الشعب، قد انقلبوا - بأي معجزة لا أدري - فصاروا زينة لمجدة وقوة لوفده وحرساً لمبدئه!
وكان بازاء الباشا المفكر طالب صادق الحدس ألمعي الفراسة، لا يزال على وجهه الأبلج أثر من عِصِيّ الشرطة وبنادق الجند، فرأى بين الحي المستذل الضارع، وبين الميت المتجبر الشامخ، عبرة من عبر الدهر. وحكمة من حكَم القدر؛ فهبَّ يصوغ من هذا المعنى هتافاً له ولرفاقه: ولكنه تذكر أن الوطني لا يحقد ولا يشمت ولا ينتقم، فاكتفي أن يقول للزعيم الرجيم في نفسه: لقد أدركت بعد الأوان أن المجد خير من الحطام، وأن الشعب أبقى من الحكومة! لقد بلغت كل عالٍ غير المجد، وربحت كل نفيس غير الشرف!
ذلك سعد مثال الزعامة الحق يا نواب الأمة! كان في مماته كما كان في حياته موضع القداسة منها وموطن الرجاء فيها، لأنه أول مصري حكمها بأمرها، وساسها برأيها، ونقلها من نظام القطيع إلى نظام الشورى، وحول خزانتها من المتاع الخاص إلى المتاع المشترك، وجعل العلاقة بين الأمة والحكومة (علاقة الجندي بالقائد، لا علاقة الطائر بالصائد).
كان سعد من الشعب وظل طول عمره مع الشعب. تجبر، ولكن على طغيان الثورة؛ وتكبر، ولكن على صلف المحتد. أما علينا وعلى أمثالنا من سواد الناس فكان كالأخ العطوف والوالد الحدب.
بهذه السيرة المجيدة في الحياة يقتدي أصحابه البررة؛ وبهذه العقلية السليمة في الحكم يسير خليفته إلى الفوز؛ وبهذه الصفحة المشرقة في التاريخ يضع سعد للخاصة دستور الزعامة، ويضرب للعامة مثل البطولة؛ وبهذه المنزلة الفريدة التي نزلها من شعبه يتولد في النفوس الشابة الرغيبة طموح العظمة، فيسعون لها بالحق، ويتنافسون فيها بالكفاية.
هاتان سبيلان واضحتا المعالم بيّنتا الحدود في سياسة الأمة. أدت أولاهما بسعد إلى حياة الموت، وأسرعت أخراهما بفلان إلى موت الحياة! فهل لأكياس الناس بينهما خيار؟
احمد حسَن الزيات