مجلة الرسالة/العدد 156/حادثة فلسطين

مجلة الرسالة/العدد 156/حادثة فلسطين

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1936



للأستاذ علي الطنطاوي

. . . لئن كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين، فان حادثة فلسطين - إن تمت - فضيحة الدهر، وعار يلحق كل من يقول: أنا إنسان. . .

بيد أن الحبشة إن غلبت بملايينها وسلاحها وجيوشها، فان هذا الشعب الأعزل الذي لا يبلغ المليون الواحد لن يغلب على أرضه أبداً، لأن وراءه سبعين مليوناً من العرب، إن وراءه أربعمائة مليون من المسلمين، إن وراءه ألف معركة منها أجنادين واليرموك وحطّين، إن وراءه القرآن الذي يقول عن اليهود: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ واَلمْسكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ منَ الله) صدق الله العظيم؛ وكذبوا. . . إن الذليل لا يعز، والمسكين لا يملك، والمغضوب عليه لا يفلح أبداً!

إن حادثة فلسطين لو تدبرها العقل، وفهمها على وجهها لما رآها إلا. . . (جريمة): أبطالها طائفة من اللصوص، وشرذمة من الحرّاس، لصوص يتسورّون الدار ليطردوا صاحبها، ويحتلوها ويشردّوا أهلها، وحراس يعينون اللص على المالك وينصرون على الحق الباطل. . .

ولكن الجريمة لن تتمّ: إن الأسد في العرين، وربّ الدار يعرف كيف يحمى الدار. . . فيا أحفاد كعب بن الأشرف، وسلاّم بن أبى الُحقيق، وعصماء وأبى عَفْك، نحن أبناء محمد بن سلمة، وعبد الله بن عتيك، وعُمَير بن عدىّ، وسالم بن عمير. . . فإذا أغنى عن أجدادكم - إذا هم كانوا أجدادكم حقاً - إذا أغنى عنهم مالهم، أو دفعت عنهم حصونهم، أو نفعهم حلفائهم، وما حزّبوا علينا من أحزاب، أغنى ذلك عنكم:

(هوَ الذي أَخْرَجَ الّذينَ كَفَرُوا منْ دِيارِهمْ لأوّلِ الحشْرِ مَا ظَنَنْتمْ أَنْ يَخرُجُوا وظَنّوا أَنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهم من الله. فأَتَاهُمُ الله منْ حيثُ لم يحتسبِوا وَقَذَف في قلوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبون بُيُوتهم بأيديهم وأَيدي المؤمنين. فاعْتَبروا يا أُولي الأبْصار)

ولئن اشتدت اليوم المصيبة وعظم الخطب، فقد كانا يومئذ أشد وأعظم، يوم قامت أوربة كلها على قدم وساق، ثم سارت إلينا بقضها وقضيضها، يحدوها التعصب الأعمى، وتسوقها عصا البغضاء والحقد والعداوة الدينية، فأفسدت البلاد وعاثت في الحرم، حتى إذا ظنت أنها قد ملكت وتمكنت، وبنت فأسست، وباضت وفرّخت؛ جاءها رجل واحد فحطم جيوشها في حطين، ثم ردّهم على أعقابهم خاسرين، ثم أخرجهم منها مذءومين مدحورين.

أفعيينا بأوربة كلها، وعجزنا عنها حتى نعجز عن حفنة من شذ إذ الآفاق ونفايات الأمم وعباد الدرهم والدينار؟ أم قد جفّ الدم الذي روّى عروق صلاح الدين، وماتت الأمة التي أخرجته، وعقمت النساء فلا يلدن شبيهه؟ إن كل مسلم اليوم في فلسطين صلاحُ الدين، وكل بقعة فيها حطين!

ضربت عليهم الذلة والمسكنة: فالذهب في صناديقهم والنظام جمعياتهم، والريّ والخصب في أرضهم، والسلاح في أيديهم، والإنكليز من ورائهم، ثم لا يثبتون ساعة واحدة لهؤلاء العزل الفقراء. . . ولا يقدرون أن يقفوا في وجوههم، ويرتجفون إذا سمعوا ذكر أسمائهم: (إِذَا رأَيتَهُمْ تُعجِبُكَ أَجْسَامُهمْ وإِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقولِهمْ كأَنَّهُمْ خشبٌ مُسَنَّدَة يَحْسَبُون كلَّ صَيْحَةٍ علَيهِمْ) أهؤلاء الذين لا يستطيعون أن يمشوا في الطرقات وحراب إنكلترا تحميهم، يستطيعون بعدُ أن يمسوا سدنة المسجد الأقصى وسادة فلسطين، ويملكوها - وحدهم - رغم أنف المسلمين أجمعين؟ ولو نفخ عليهم المسلمون أربعمائة مليون نفخة لطيروهم، ولو مالوا عليهم لطحنوهم، ولوبصقوا عليهم لأغرقوهم، ولو صرخوا فيهم لقتلوهم؟

أهؤلاء الذين ما عرفهم التاريخ إلا مغلوبين، يتحرشون بمن لم يعرفهم التاريخ إلا غالبين منصورين، ومن حكموا الدنيا فكانوا نعم الحاكمين، وعلموا العالم فكانوا خير معلمين؟

إن معهم وعداً، وإن معنا لوعداً: معهم وعد بلفور. ومنا وعد الله: (وَعَدَ الله الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ كما اسْتَخْلَفَ الّذينَ من قَبْلِهمْ، وَلَيُمَكِّنَنّ لَهُمْ دينَهُم الذي ارتضى لَهُمْ، وليُبدلنَّهم من بعدِ خَوْفِهمْ أَمنا) ولكنّ الله يمتحن إيماننا وصبرنا واتحادنا وتعاوننا، وينظر أنجاهد في سبيله بأموالنا وأنفسنا، وننصر إخواننا ونكون في توادنا وتراحمنا كالجسد الواحد، إذا تألم عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمىّ والسهر، أم قد فرقت بيننا السياسة، وباعدت بيننا الغير، ومزقتنا الأهواء والمطامع، فأمسينا ننام في القاهرة ودمشق وبغداد على فرش الريش والديباج، وإخواننا على شعفات جبال نابلس والقدس لا يغمض لهم جفن، ونأكل الشواء والحلواء وإخواننا هناك قد لا يجدون ما يقوم بأودهم من الخبز، ونبذر المال نقذف به إلى أوروبة ثمناً لهنات هينات، فيصنعون منه مدافع تحصد إخواننا حصداً، وبنادق تمزق صدورهم تمزيقاً، وإخواننا لا يجدون ثمن الحاجات الضروريات، ونلهو ونلعب آمنين مطمئنين، وإخواننا في فلسطين قائمون على حد السيف، بين النار والحديد؟

فيا إخواننا في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب، ويا إخواننا في الهند والصين وأينما بلغت مقالتي هذه. . .

إن الله جل وعز يقول: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) فهل أنتم مؤمنون مسلمون بجوارحكم وقلوبكم، مخلصون لله في أسراركم وإعلانكم؟ أم أنتم مسلمون بالنسب والاسم وسجل الدولة، لا تعرفون إلا أنفسكم، لا تبالون إلا بلذاتكم، ولا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم؟

إذا كنتم مسلمين حقاً، مؤمنين صدقاً، تريدون أن ينصركم الله فانصروا فلسطين ما استطعتم، انزعوا المال من أفواه عيالكم، وأعناق بناتكم، لتشتروا به حياة إخوانكم في فلسطين، اسهروا الليالي تتسقطون أخبارها، وتعلمون علمها، أمسكوا عن لهوكم وأفراحكم فلا تنفرج لكم سنّ حتى تنفرج أزمتها، اجعلوا قضية فلسطين، قضية كل واحد منكم. . .

أما أنتم يا إخواننا في فلسطين:

فاصبروا وصابروا (وَلا تَهِنوا وَلا تَحْزنوا وَأنتم الأَعلَون إِنْ كُنتم مؤمنين. إِن يَمْسَسْكم قَرْحٌ فقد مسّ القومَ قَرْحٌ مثلُه، وَتلك الأيام نداوِلُها بَيْنَ الناس، وَليعْلَم الله الّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ منكم شُهَدَاء، وَالله لا يحبُّ الظالمين، وَلِيَمحِّصَ الّذين آمنوا وَيمْحَقَ الكافرين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدْخُلُوا الجَّنَة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الّذينَ جاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعلم الصابرين)

أما بعد، فان حادثة فلسطين - إن هي تمت - فضيحة الدهر، وعار الإنسانية. . . ولكنها لن تتم بحول الله وقوته ثم بقوة للمسلين. . .

علي الطنطاوي