مجلة الرسالة/العدد 156/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة/العدد 156/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة - العدد 156
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1936



ترجمة الدكتور أحمد زكي

اَلحصانة واليهودي الأفاَّق

- 2 -

كانت كشوف بستور وكوخ قد شاعت في الناس فثاروا لها جنوناً، فكان لا هم لهم إلا بها، ولا حديث إلا فيها، فلما لما جاء عام 1883 انقلب متشنيكوف من باحث طبيعي إلى صائد مكروب؛ وكان قد خاصم رجال السلطة في جامعة أودسّا، فترك الجامعة وذهب إلى جزيرة صقلية، وصحب معه زوجته أُلجا وأخوتها؛ فلما حلوا جميعاً بها اتخذوا لأنفسهم فيها منزلاً صغيراً ذا طابق واحد يطل على المياه اللازوردية لشاطئ كلَبرية، وفي حجرة الجلوس هيأ متشنيكوف لنفسه معملاً مرتجَلاً. وأوحت إليه نفسه بأن الشيء الرائج عندئذ في العلوم هو علم المكروب، فأخذ يحلم الأحلام ويأمل الآمال عن كشوف خطيرة لمكروبات جديدة يكتشفها، وكان يلذّ له العمل أيضاً فيها لذةً صدق، ولكنه لم يكن يدرى من طرائقها الخدّاعة شيئاً، بل قل أنه لم يكن رأي مكروبة واحدة؛ وطال تجواله في حجرة الجلوس هذه يشرح لألجا نظريات علم الحياة تارة، أو هو يدرس نجوم البحر واسفنجياته تارة، أو هو يحكى الحكايات لأخوة أُلجا وأخواتها، واختصاراً كان يفعل كل شيء لا يمُتُّ بصلة إلى تلك الأبحاث المجيدة التي قام بها كوخ وبستور.

وذات يوم أخذ يدرس كيف تهضم الاسفنجيات ونجوم البحر أطعمتها، وكان قبل ذلك عثر في داخل هذه الأحياء على خلايا غريبة هي بعض أجسام هذه الاحياء، ولكنها مع ذلك تدور فيها دوران الحر الطليق، وكانت هذه الخلايا الأفاقة التائهة تسبح في مجاريها كما تسبح الخلايا الأشهر المعروفة بالأميبا تضرب ببعض جسمها الرخو قُدُما في سائل الجسم، فإذا برز منه ما يشبه اللسان جرّ ما تخلف من الجسم وراءه.

وجلس متشينيكوف من بيته في غرفة الجلوس، وقعد إلى المنضدة وجاء بعلقات من نجوم البحر، وأدخل في أجسامها شيئاً من صبغة الكرمين وجاهد في إدخالها جهاد الرجل الذي لا تستطيع يداه مجاراة عقله، وضاق بهذه التجربة صدره للذي عانته أصابعه الث أجرائها، وكانت تلك فكرة بارعة من بنات أفكاره الحسان، لأن هذا العَلَق شفّاف كالزجاج، فكان في استطاعة صاحبنا أن يتتبع بعدسته ما يجرى فيه، ونظر فوجد تلك الخلايا الأفّاقة الطليقة تسبح إلى حبّات صبغته، فإذا بلغتها التهمتها التهاماً، ففرح وطَرِب، وخال متشنيكوف إلى تلك الساعة أنه يدرس كيف يهضم نجم البحر طعامه؛ ولكن طافت في حواشي فكره أشباح من أفكار جديدة يتضاءل إلى جانبها موضوع الهضم تضاؤلاً كبيراً، أفكار رائعة مبهمة لا تتصل بمبحَث الهضم من قريب أو بعيد.

وفي الغد ذهبت أُ لجا بالأطفال إلى السرك يشهدون ألعاب قردة بارعة التمثيل؛ وبقى متشنيكوف حيث هو من غرفة الجلوس وعلى وجهه لحية كلحية القديسين؛ وقد أخذ بشدّ شعراتها شداً؛ وقد أخذ نجم البحر في مائة بوعائه. ولكن لا يرى منه شيئاً. وفي ساعة قصيرة جرى له مثل الذي جرى للقديس بولص وهو في طريقه إلى دمشق لما شعّ في وجهه ذلك النور الباغت فأعماه. نعم في ساعة قليلة، في دقيقة قصيرة، في ومضة برق، أو لحظة عين نزل الوحي على متشنيكوف فتغّير بغتة مجرى حياته.

(إن هذه الخلايا الأّفاقة التوّاهة في أجسام نجوم البحر تأكل الطعام وتلتهم حبّات الصبغة - إذن هي لا بد تأكل المكروبات أيضاً. وفي أجسامنا نحن، وفي دمائنا نحن، لا بد أن كراتنا البيضاء هي التي تلتهم الجراثيم فتحمينا من غوازيها. . إن هذه الكرات البيضاء هي سبب حصانتنا من العدوى. . . إنها هي هي التي تقي الجنس البشرىّ من فناء سريع تحمله إليه أجناس البشلاّت).

وهكذا، بدون أي دليل، وبدون محاولة أي تجربة، قفز متشنيكوف هذه القفزة الكبرى من هضم نجم البحر إلى أدواء الإنسان.

كتب في مذكراته: (وبغتةً وجدت نفسي قد انقلبتُ عالِمَ أمراض وهذا انقلاب كبير لا يَعْدِلهُ إلاّ انقلاب زمّار إلى فلكيّ. وكتب (وأحسست أن هذه الفكرة ستتمخض عن أمر كبير الخطورة، فاضطربت نفسي واهتاجت فأخذت أغدو في الغرفة وأروح حتى لَذَهبت إلى شاطئ البحر أستجمع فكرى). وكتب: (وقلت لنفسي لو صّحت هذه النظرية إذن لتوقعت إذا أنا أدخلت فِلقة خشب في نجم البحر أن تتجمع هذه الخلايا الأفّاقة حول الفلقة دفعاً للسوء الطارئ.) وذكر بهذا أن الرجل تدخل في إصبعه الشوكة فينسى أن ينتزعها فلا تلبث أن تتجمع حولها المِدّة والقيح وما هما إلا طوائف من الخلايا البيضاء التي تطوف في دم الإنسان. ذكر هذا بهذا فهرول إلى الحديقة التي وراء بيته، إلى شجيرة ورد كان ذوقها وزخرفها من أجل أخوة أُولجا ليحتفلوا بها في عيد الميلاد، وانتزع منها بعض شوكها، وعاد بالشوكات إلى معمله، وما هو بالمعمل، وشكها جميعاً في جسم أحد نجوم البحر وكان شفافاً كالماء.

وما طلع فجر الغد حتى استيقظ وقد امتلأ قلبه بكل أمل بعيد، ولم يتمهل بعد يقظته طويلاً حتى عرف أن ظنه أصاب، وأن خيال الأمس أصبح حقيقة اليوم. نظر إلى شوكات الورد فوجد طوائف عدة من تلك الخلايا الأفاقة التائهة قد ازدحمت حولها وأخذت تتماوج في كثرتها وبطئ حركتها. وكان فيما رأي الكفاية لإقناعه بأنه وجد تفسيراً للحصانة من جميع الأمراض، وعادته في الطفرة إلى الاستنتاجات السرية معروفة مشهورة. وخرج في هذا الصباح يخبر مشاهير أساتذة أوربا بالذي وجده، وكانوا اجتمعوا اتفاقاً بمدينة مسينا على القرب منه، وقال لهم: (هذا هو السبب الذي من أجله يصمد الإنسان لغائلة المكروبات). وانطلق لسانه حديداً فصيحاً يشرح لهم كيف حاولت خلاياه التواهة أن تأكل الشوك أكلا لما، واستطاع أن يريهم تلك التجربة الجميلة مصداقا لدعواه فصدقه العلماء، حتى ذلك العالم الجليل المخوف الأستاذ الدكتور فرشو آمن به وقد كان سَخِر بكوخ لما أتاه. ومن هذا اليوم دخل متشنيكوف في زمرة صُياد المكروب.

- 3 -

ثم ترك أُلجا والأطفال وراءه يعيشون وحدهم على قدر ما يستطيعون، وذهب إلى فينّا ليعلن من فوق منبرها أن الإنسان حصين من الجراثيم لأن بدمه كريات بيضاء تائهة عملُها بلعُ هذه الجراثيم. وذهب تواً إلى معمل صديقه القديم الأستاذ كِلاوُسْ وكان عالم حيوان، وكان يجهل من أمر المكروب بقدر ما جَهِل متشنيكوف، كذلك اُعِجب بالذي سمعه وقال لصديقه الضيف. (انه ليسرني ويشرفني كثيراً أن تنشر نظريتك في مجلتي)

فقال متشنيكوف: (ولكن لابد لي من اسم علمي لهذه الخلايا التي تلتقم المكروبات، أعني اسماً اغريقياً، فأي الأسماء تقترح؟)

فرفع الأستاذ يده إلى رأسه يحكّها، وحكّ الجهابذة العلماء رؤوسهم معه، ونظروا المعاجم ثم أخبروه أخيراً: (أن الكلمة المثْلى هي فجوسه ومعناها بالإغريقية الخلية الملتهمة فهي إذن ضالتكَ التي تنْشُد)

فشكرهم متشنيكوف، وأخذ هذه الكلمة وعلقها في أعلى ساريته، ثم حل القلاع ومخر بسفينة بحار حياته المضطربة، وهذه الكلمة دينيه، وبهذه الكلمة يفسر كل شئ، وهي صرخته في حربه وفي سلمه، وهي أداة عيشه وآلة رزقه. وصدّقني أو كذّب لقد كان لهذه الكلمة نصيب كبير في حفزنا إلى الدراسة ما هي الحصانة. ومن هذه الساعة أخذ متشنيكوف يبشر بالفجوسات ويذيع من أمرها كل جميل، ويدفع عنها مقالة السوء، وأجرى عليها أبحاثاً لها خطرها، وعادى في سبيلها، ولاشك أنه بذلك أدّى نصيبه في إحداث الحرب العالمية الكبرى حرب عام 1914 بما عكّرت حملاته الشديدة ما بين فرنسا وألمانيا من مودّة لم تكن كثيرة الصفاء أبداً.

وذهب من فينا إلى أوديسا، وهناك ألقى خطاباً عظيما في (القوات العلاجية للكائن الحي)، فدهش أطباء هذا البلد مما قال وأُعجبوا به إعجاباً كبيراً، فقد كان إلقاؤه غاية في الإبداع، وحرارة قلبه لا تدع للسامع شكا في إخلاصه، ولكن لا يوجد في السجلات ما يفهم منه المطالع أنه أخبر جمهره الأطباء بهذا البلد أنه لم يكن رأي إلى هذا العهد كرة دموية بيضاء واحدة تلتهم مكروبة واحدة من مكروبات الوباء. إن الناس جميعاً - ومنهم الأطباء العلماء - لا تقع أبصارهم على كلبين يتشاجران حتى تستوقفهم تلك الحرب الصغيرة فيتجمعون حولها ارواء للطبيعة وانتظاراً لعلم من تكون له الغلبة، وكذلك الحال في أمر متشنيكوف فان حكاية تلك الحروب الطاحنة الدائمة المتواصلة بين الفجوسات الجريئة الباسلة، وهي تنهض إلى الثغور تدفع غزوة تلك المكروبات العادية القاتلة، تلك الحكاية أثارت شوق الناس فأرهفت آذانهم لاستماع، وفتحت قلوبهم لاقتناع.

ولكن متشنيكوف عرف أنه لابد له من البحث عن حقائق ذات بال تقوم دليلاً على الذي يقول؛ ولم يطل به الزمن حتى وجدها بيّنة كالشمس رائقة كالبلور، وذلك في براغيث الماء.

ومضت عليه فترة من الزمن نسى فيها الخطابة، وعكف فيها على صيد هذه البراغيث من البرك ومرابي الأسماك. وكان اختيارا عبقرياً أوحى إليه به لا شكّ شيطانه، فهذه البراغيث كانت كعَلَق نجوم البحر شفافة، فاستطاع بعدسته أن يرى ما يجرى في داخلها، وأخذ يبحث في جَلَد شديد عن داء يكون في هذه البراغيث، وجاءه صبرٌ نادر على غير انتظار، فعَمِل طويلاً، وبحث كما يبحث البحّاثة القُحّ وقليلاً ما كانة.

لعلك أيها القارئ أدركت من تاريخ المكروبات هذا أن الباحث كثيراً ما يعتزم البحث عن شيء فيبدأ بحثه فلا يلبث به طويلا حتى تقوده الطريق إلى أمور غير التي طلبها أولاً على أن هذا لم يكن من قِسمة صاحبنا؛ فانه أخذ يرقب هذه البراغيث تضرب في حياتها العادية ضرباً غير ذي غاية ولانهاية.

فلم يلبث أن رآها من خَلَل عدسته تبتلع بزور خمائر فيها خطر على حياتها. وكانت بزوراً حادة كالأبر. فلما بلغت إلى ما يشبه المعدة من البرغوث نفذت فيه وأخذت تسير انزلاقاً في جسمه. هنا رأي متشنيكوف ما خصّته الأقدار برؤيته. هنا نظر ما أتحفته الحظوظ الطبية بنظرته: سارت خلايا البرغوث الأفّاقة التوّاهة: تلك الفَجُوسات التي تقي الجسم شرّ الدخيل، سارت نافرة إلى تلك البزور الفاتكة العادية، فتجمعت حولها، وحلّقت عليها. فأذابتها، وأكلتها أكلا، وهضمتها هضما. . . ومما زاد نظريته ثبوتاً، أن بعض البراغيث كانت تتخاذل فَجُوساتها أحياناً عن النفْر إلى العدوّ الغازي، فكانت بزور تلك الخمائر تستقر في جسم البرغوث فتتنفس عن خمائر حية ناشطة تتكاثر تكاثراً ذريعاً فتسمم البرغوث فتقتله ثم هي تأكله أطلّ متشنيكوف من خلال عدسته على هذه المعارك الجميلة تدور رحاها في هذه الميادين الصغيرة فعرف أولَ عارفِ سرّاً من أسرار الطبيعة خبأته عن الناس زماناً طويلاً، عرف كيف تدفع بعض الخلائق عن نفسها غائلةً لو قعدت عنها لكانت قاتلة. وقد كان صادقاً في الذي رآه، وقد كان بارعاً موّفقاً في الطريق الذي سلكه، فأنىّ يخطر على بال امرئٍ أن يبحث عن علّة الحصانة في مخلوق غريب بعيد كل البعد عن أذهان الناس كبرغوث الماء.

وقنع بالذي وجده من بحثه، وآمن كل الإيمان بنظريته فلم يتابع دراسة تلك المعارك التي كان يقضى كوُخ السنوات العديدة لو أنه اتفق له منها ما اتفق لمتشنيكوف. وأخيراً نشر مقالة نمّت عن علم جم وفضل كثير قال فيها: (إن حصانة براغيث الماء ترجع إلى فُجَوساتها، وهي مَثَل للأسلوب الطبيعي في الوقاية من الوباء. . . فان بزرة الخميرة إذا لم تتلقها خلايا الجسم التوّاهة الدفّاعة فتبتلعها عند نفاذها في الجسم، استطاعت تلك البزرة أن تنبت الخميرة واستطاعت هذه أن تتكاثر وأن تفرز سماً لا يصد خلايا الجسم المدافعة فحسب، بل يقتلها ويذيبها كما يذوب الملح في الماء)

(يتبع)

أحمد زكي