مجلة الرسالة/العدد 156/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 156/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1936



آثار مصر القديمة منذ 650 سنة

ألف الأديب الرحالة المصري أبن فضل الله العمري كتابه الموسوعي العظيم (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) منذ خمسين وستمائة سنة (هـ) في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وظل الكتاب مخبوءاً في زوايا الإهمال حتى أتيح بعثه على يد فقيد العروبة العامل الأستاذ أحمد زكى باشا سنة 1924، والكتاب ذخيرة ثمينة حقاً، وهو لا يقل في قيمته عن الموسوعات المصرية الثلاث الأخرى (صبح الأعشى، ونهاية الأرب، ولسان العرب).

ولعل أظرف فصل عقده المؤلف في كتابه (ج1) هو ذلك الفصل الذي يتكلم فيه عن آثار مصر القديمة، وما كان الناس يفترضونه من تاريخها، وما يعللون به تشييد تلك المباني الضخمة والهياكل العتيدة!

وقد وصف أبن فضل الله أهرام الجيزة فقال: (. . وهي أشكال لهبية، كأن كل هرم لهبة سراج، آخذة في أسفلها على التربيع مسلوبة في عمود الهواء، آخذة في الجو حتى إلى التثليث، لولا استدارة اُبلوج السكر (قمع السكر!) لشبهناها به، ويحتمل أن يكون هذا الشكل موضوعاً لبعض الكواكب لمناسبة اقتضته. .) وذكر قبل ذلك سبب بنائها قال: (قيل إنها هياكل للكواكب، وقيل قبور ومستودع مال وكتب، وقيل ملجأ من الطوفان، وهو أبعد ما قيل فيها!) ثم يعلل أنها لم تكن ملجأ للطوفان بأنه شاهد بعض الأهرام في مصر العليا مبنية من اللبن! وبعد أن يذكر بعض أقوال الشعراء في صفتها ينتقل إلى أبى الهول فيقول: (. . . وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير، وفي وهدة منخفضة تقع دونه شرقاً بغرب.

لا يبين من فوق سطح الأرض إلا رأس ذلك الصنم وعنقه، أشبه شيء برأس راهب حبشي، عليه غفّارية؛ على وجهه صباغ أحمر إلى حُوّة، لم يحل على طول الأزمان وقديم الآباد، وهو كبير، لو كان شاخصاً كله لما قصر عن عشرين ذراعاً طوله في غاية مناسبة التخطيط!! يقال إنه طلسم يمنع الرمل عن المزدرع. . .).

ويسمى أبن فضل الله سلسلتي جبال العرب وليبيا (حائط العجوز!!) (وهو حائط يستدير بالديار المصرية ممتداً على جانب المزدرع بها كأنه جعل حاجزاً بين الرمل والمزدرع. .

).

ويقول. . . (إنه من بناء امرأة اسمها دلوك. . .)

ومع هذا لا يرى أبن فضل الله أن يتورط في ذكر الخرافات التي تقال في سبب بناء دلوك لهذا الحائط فيقول: (ويذكر في تلك الكتب - بسبب بناء العجوز له - خرافة لسنا نرضى ذكرها!!)

ويسمى المؤلف تمثالي ممنون بالقرب من وادي الملوك (شامة وطامة!!) ثم يصف البرابي فيبدع إبداعاً تاماً، وينتقل إلى الإسكندرية فيصف عمود السواري، والمنارة، والملعب الكبير وصفاً يدل على ذوقه الفني الدقيق!!

فلوبير وحديقة الكرمب

يعتبر جوستاف فلوبير (1821 - 1880) الوارث الأكبر للمدرسة الابتداعية في الأدب الفرنسي عامة، والوارث لبلزاك خاصة، وإن يكن هو من الكتاب الريالست، وإن يكن أيضاً يمتاز من بلزاك بطلاوة أسلوبه ونقاء عبارته وإشراق ديباجته، وعدم إسفافه. . . وهي مزايا لم يكن بلزاك يعرف شيئاً منها.

ويشبه فلوبير في شدة عنايته بأسلوب شاعرنا الجاهلي زهير أبن أبى سلمى المعروف بصاحب الحوليات. فلقد كان فلوبير يأرق الليالي الطوال من أجل لفظة واحدة؛ حتى إذا فاز بها، ثم مضى زمن يسير، رجع فحذفها من مقاله أو من كتابه، وقد يكون ذلك وقت الطبع، ومن هذه الموسيقى الحلوة التي اشتهرت بها كتبه لا سيما في (مدام بوفاري) و (سانت أنطوني وسلامبو).

وقد بلغ من شدة شغف فلوبير بتقرير الواقع في قصصه أنه كان يجشم نفسه الشاق والأهوال ليصف منظراً عارضاً في زاوية منسية من زوايا هذه القصص. من ذلك أنه أراد وصف مزرعة كرمب في ليلة مقمرة مقرورة. . . فترك القصة بحذافيرها، وانتظر حتى كان موسم الكرمب، ثم رحل إلى ضاحية اشتهرت بنوع جيد من هذا المحصول، وثمة تلبَّث حتى آذنت الليالي المقمرة. . .

ولكن صاحبة البدر طفق يتدلل ويتستر وراء السحب القاتمة. . وكان الشتاء القارس يعذبه ببرده ولياليه الطوال، وكان فلوبير ما يبرح واقفاً وسط المزرعة بقلمه وقرطاسه، منتظراً إشراقة واحدة من حبيبه القمر ليصف فيها منظر أشعته الفضية على أوراق الكرمب.

ونال أمنيته بعد أن نال منه القمر كل أمانيه!!

روبرت أون والعمال

تنتقل مصر رويداً رويداً من الطور الزراعي الذي لا يتفق ومدنية هذا العصر إلى الطور الصناعي. . . طور المدنية والقوة والسيادة. وقد رأت إنجلترا مثل هذا الانتقال، ورأت فيه جملة ثورات اجتماعية كانت الاشتراكية أهمها جميعاً. والاشتراكية تعنى سعادة البشر ومكافحة الفقر، ومن هنا انضواء غالبية المفكرين تحت لوائها وسهرهم على تعميمها في كل مناحي الحياة حتى في دور العلم! ويعتبر روبرت أوِن (1771 - 1858) خالق الاشتراكية وواضع مبادئها بالعلم والعمل، بل هو الذي استحدث هذه الكلمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1835). ومن العجيب أنه كان من أكبر غزالي القطن في منشستر، وله جملة ابتكارات في صناعة الغزل تعتبر أسُساً لتقدمها.

وكان أون يحب الاختلاط بالعمال، ودأب من كثب على دراسة أحوالهم ومعايشهم، وكان يروعه فقرهم وقذارتهم وعدم قيام رواتبهم الضئيلة بحوائجهم، فنذر، إذا واتاه الحظ، أن يحدث في حياتهم ثورة تطفر بهم إلى السعادة. . . وقد حققت الأيام مطامحه فأصبح من أغنياء منشستر، وذكر نذره فأنشأ مصانعه العظيمة في نيولانارك على أحد النظم وعلى أحسن القواعد الصحية، وكان أهم ما عمله لترقية العمال تحسين أجورهم وتقليل ساعات العمل (وكانت 12 ساعة فخفضها إلى عشر، ثم إلى ثمان)، وأنشأ لهم مساكن صحية، وحرّم العمل على صغار الأطفال (أقل من عشر سنوات)، وضمن التعليم الابتدائي بالمجان لأبنائهم، وأنشأ لعماله مستشفي بجوار المصنع جلب إليه أمهر الأطباء وأحدث الآلات الطبية، ووضع للطاعنين في السن منهم نظاماً يكفل لهم شيخوخة سعيدة.

ولم يكتف أوان باستخدام هذه النظم لرفاهية العمال في مصانعه فقط، بل عمل على تعميمها في المصانع الأخرى. . . ولذلك ثار في وجهه أصحاب هذه المصانع، وكان أكثرهم من اليهود، ممن لا هم لهم إلا امتصاص دماء الإنسانية وصهرها ثم تحويلها إلى ذهب! ولكن أون العظيم صمد لهم، وما زال بالشعب وبالعمال وبالحكومة حتى انتصرت مبادئه، وأصبح العامل الإنجليزي مدى قرن من الزمان أسعد ألف مرة من إخوانه في جميع الآفاق.

ولم يكن أون صاحب مصانع فحسب، بل كان كاتباً وخطيباً مفوهاً، ولذا كانت خطبه تسحر العمال وتبعث فيهم الشعور بالكرامة وتشيع في أعطافهم الكبرياء

اليوجنية الحديثة

اليوجنية أو علم تحسين النسل وهو علم حديث يرجع إلى سنة 1885 فقط، وموجده هو السير فرنسس جالتون المتوفى سنة 1911. وقد أوصى عند موته أن يرصد جزء كبير من دخله لإنشاء كرسي لهذا العلم في جامعة لندن؛ وقد اشتغل السير جالتون بعلوم الأحياء قبل أن يلتفت إلى هذا العلم.

ومن رأيه قصر التناسل على الفتاة العاقلة القوية ذات الفضائل من الناس لإيجاد جيل راق يقود البشرية مرحلة كبيرة إلى السوبرمان؛ وقد سمى هذه العملية من برنامجه ومن رأيه كذلك حرمان البلهاء والمرضى والمجرمين وأهل الرذائل من التناسل حتى لا يؤخروا موكب الإنسانية عن التقدم والرقى ويسمى هذه العملية

وسير جالتون يعنى عناية كبيرة بمذهب السلوكيين في السيكولوجية الحديثة، بل هو قد اتخذ من مباحثهم الطريفة نبراساً له في وضع الدعائم لهذا العلم الجديد.

(د. خ)