مجلة الرسالة/العدد 157/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 157/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 07 - 1936



الرحيل - رجل

تأليف محمود البدوي

للأستاذ محمد علي غريب

القصة المصرية عندنا ما تزال في مهدها اليوم، وأكبر الظن أنها سوف تبقى في لفافات الطفولة إلى مدى طويل، وأن يفقد الأدب العربي عندنا هذه الثروة الضخمة التي انحصرت في القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح

وقل أن تقع في يدي قصة مصرية فأهوى بأوراقها إلى الطاهي ليصنع منها أغطية لزجاجاته الكثيرة، فما وجدت من هذه القصص السخيفة إلا كل سخف وسماجة وموضوع يمسك هذا بطرفه وذاك بالطرف الآخر منه ثم يتنازعان نهايته. . فتاة فقيرة أو غنية، يعشقها أو تعشق هي شاباً فقيراً أو غنياً، على شرط أن لا يكون أحدهما كفؤاً للآخر في الثروة؛ وبعد دموع كثيرة وزفرات تدير الطواحين تنتحر الفتاة أو ينتحر الشاب أو ينتحران معاً. . طبقاً لرغبة المؤلف وميله إلى أحد البطلين

ذلك رأيي. . . ومنذ شهور أهدى إليّ صديقي الأديب الفاضل الأستاذ محمود البدوي قصته (الرحيل) فتركتها معه ريثما آخذ نفسي بأن تدع محاباة الصديق في تلك الهدية، وقرأتها؛ وبعد ذلك أهدى إليّ قصته (رجل) فقرأتها، ولأول مرة يندب الطاهي حفظ زجاجاته

لست أثني على صديقي لأن بيني وبينه هذه الصلة، فأن من الخير لي وله أن أجاهره بالرأي الصريح ولو كان به ما يؤلمه، فأنني أعرف فيه حسن تقبله للنقد؛ ولم تصلح الصداقة يوماً ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له. فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوي لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة في سبيل بعث القصة المصرية ووجودها

في قصة الرحيل ترى يد شاب امتلأ صدره بشتى العواطف والنزعات، ترسم على الورق بعض ما يروح عنها. . إنه شاب نشأ في البيئة الخانقة المزعجة، فلما بهرته أضواء المدينة ورأى فيها حيلته عاجزة كليلة راح يستصغر نفسه دونها ويحاول أن يخفي ارتباكه بإطلاق العنان لهذه الجياد الجامحة في نفسه؛ فهو طوراً يمجد الجمال ويتفهم الحب، وطوراً ينزع إلى الرغبة في التحرر من كل قيد، وطوراً تعود به نفسه إلى طبيعته الأولى فيستهويه صوت المؤذن ويخشع قلبه للدين وتعاليمه

وأنت إذا قرأت هذه القصة على هذا النحو أمكنك بسهولة أن تدرك لماذا لم يحتفل المؤلف بأسلوبه، وكيف جاءت ألفاظه مكررة في بعض المواضع، ولأي شيء التجأ إلى الغموض والإبهام في عباراته

إنه يرسم صورة من نفسه، ونفسه ترسف في أغلال قوية وتحاول الخروج منها، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان، وإذا نجحت في التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التي يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه. . .

أما قصته (رجل. . .) وقصصه الصغيرة الأخرى، فعلى هذا الطراز الفخم من الدقة والقوة والمتانة. . قصص يمكنك أن تقول عنها إنها من أقوى القصص المصرية الناجحة، دون أن يضطرب ضميرك، أو تنزعج نفسك، ومن بينها قصة (الأعمى). إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون، وقد امتزج فيها الفن بالواقع، فترى أمامك مزيجاً منهما يلزمك أن تعاود قراءتها

ولست في الواقع أريد أن أتحدث كثيراً عن هذه الباكورة الشهية التي تفتحت عنها جهود شاب أديب، وكان خيراً لي وله أن أصبر طويلاً حتى أستوعب هذه القصص وأكتب عنها طويلاً، ولكننا في هذه الأيام نحتاج إلى السرعة والتعجل حتى لا نفقد الفرصة المناسبة، ولهذا كتبت تلك الكلمة الصغيرة على الرغم مني

والذي ألاحظه كثيرا في هذه القصص أن ناقدها لا يستطيع أن يسبر غورها مهما حاول ذلك. . . أترى لأن كاتبها لجأ إلى الغموض كما أوضحت، أم لأنها قصص كتب بعضها عن شخص مؤلفها، فما دام هو يفهم رموزها ويستشف غامضها كان على قرائه أن يقنعوا من الرموز والغموض بما وصلت إليه أفهامهم؟

لست أدري. . ومع ذلك فهذه القصص اللطيفة صغيرة الحجم وثمنها زهيد، وما على القارئ إلا أن يقتنيها ليرى كيف يبدأ شاب أديب فجر حياته الأدبية؛ وإذا كانت هذه هي بدايته المباركة فماذا عسى أن يكون بعد سنوات؟ سوف يكون دون مبالغة من طراز انطون تشيكوف

محمد علي غريب