مجلة الرسالة/العدد 157/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 157/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 07 - 1936



كيف كشف رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

الحصانة واليهودي الأفَّاق

- 4 -

وصل الفائت

اكتشف متشنيكوف في بعض الأحياء المائية الصغيرة خلايا تدور في أجسامها فإذا هو حقن في هذه الأحياء صبغة تجمعت تلك الخلايا فأكلت الصبغة. وإذا شك الحيوان بشوكة نهضت تلك الخلايا إليها تدفع السوء الداخل. وأدخل في أجسام تلك الأحياء خمائر قاتلة، فنهضت إليها الخلايا فالتهمتها. عندئذ فسر الحصانة بأنها حرب بين خلايا طليقة في الأجسام كمثل كرات الدم البيضاء وبين المكروبات الداخلة إليها. وأسمى هذه الخلايا فجوسات

اتجه متشنيكوف بعد ذلك يبحث في هذه الحروب هل هي عينها التي تقع في الضفادع والأرانب. وفي عام 1886 وردت أخبار بستور من وراء الحدود تنقل حديث شفائه الروسيّين الستة عشر من عضة الكلب المسعور بعد ضياع الرجاء فيهم، فاهتز أهل أودسا الأخيار لهذه الأخبار، ونهضوا، ونهض معهم أهل الريف الذي حولهم حتى حدود المقاطعة، نهضوا جميعاً يشكرون الله على ما حبا، ويهتفون لبستور على ما أتى، وجمعوا كيساً ضخماً من الروبلات لإقامة معمل يُنشأُ توّا في أودسا. وعينوا متشنيكوف مديراً علمياً لهذا المعهد الجديد. ولمَ لا؟ أليس هو الرجل الذي درس في كل جامعات أوربا؟ أليس هو العالم العلاّمة الذي خطب أطباء أودسا فأفاض عليهم من منابع علمه تلك الإفاضة الكبرى؟ أليس هو الذي شرح لهم ما خفي من أمر فَجُوسات الدم التي تأكل المكروب أكلا لمّا؟ ونسوا حيناً أنه يهوديّ!

وكنت إذا تسمعت إلى الناس وجدتهم يقولون: (من يدربنا! فلعل في معهدنا الجديد يستطيع أستاذنا متشنيكوف أن يدرّب هذه الفجوسات الصغيرة على التهام كل أنواع المكروبات!)

وقَبِل متشنيكوف هذا المنصب الجديد، ولكنه احتاط فقال لرجال السلطة قول الحذر البصير: (أنا رجل أكبر همّه في النظريات، وأبحاثي كثيرة لا يكاد يتسع لها وقتي، وإذن فمن الواجب أن يتدرب غيري على صناعة الألقحة وأن يقوم بالجزء العملي من واجبات المعمل)

ولم يكن في أودسا في ذلك الوقت رجل واحد يعرف عن صيادة المكروب شيئاً. لذلك أرسلوا صديق متشنيكوف الدكتور جَمالَيّة بسرعة إلى باريس إلى معهد بستور. فلما حل فيه صَحِب بستورَ وصحب رو في عملهما وتعلم منهما الشيء الكثير، ولكن هذا الكثير لم يؤذن له ببلوغ الكفاية، فان أهل أودسا قل صبرهم، وزاد قلقهم، واشتدت رغبتهم في الخلاص من الأمراض فصاحوا يطلبون الألقحة، فاضطرت السلطة تحت هذا الضغط العام إلى استدعاء الدكتور جمالية، ولم يكن طال مقامه في باريس. فلما عاد بدأ يصنع لقاحاً لداء الجمرة تخليصاً لشياه الريف، ولقاحا لداء الكلب دفعا له عن أهل المدينة. عندئذ صاح متشنيكوف في الناس: (والآن كل شيء لا بد سائر كما نهوى) وهو يجهل كل الجهل تلك الألاعيب الثقيلة التي تلعبها المكروبات أحيانا على ممارسيها. ثم اعتكف إلى نظرياته يبحث في الأرانب والكلاب والقردة ليرى أفي استطاعة فجوساتها أن تبتلع مكروب السل والحمرة والحمى الراجعة. وانطلقت النشرات العلمية تخرج من معمله في تلاحق سريع، وأخذ بُحّاث أوروبا يتأثرون بكشوفات ذلك الرجل العبقري ببلاد الروس السفلى. ولكنه لم يلبث أن بدت له المصاعب في نظريته، فالكلاب والأرانب والقردة ليست شفافة كبراغيث الماء

ثم أخذ الحال يسوء في المعمل، فأخذ الخصام يدب بين رجاله وعلى رأسهم الدكتور جمالية، فاختلطت الألقحة وتلوثت، وانكبت على الأرض من أنابيبها. وجاء أطباء البلد يتسللون وفي قلوبهم بالطبع حفيظة وغيرة من هذا العلاج الجديد، وأخذوا يسألون الأسئلة المحرجة ليشيعوا شاعة السوء في الناس: (من هذا الأستاذ متشنيكوف؟ ومن أين جاءته الأستاذية وهو لا يحمل شهادة طبيب؟ إنه ليس إلا رجل طبيعي وصياد جراثيم، فمن أين جاءته معرفة الأمراض والوقاية منها؟) وصاح الناس: (أين العلاج المزعوم؟!) وصاح المزارعون الذين نزلوا بأيديهم عميقاً في أكياسهم طَلَبَ النقود الكثيرة يبذلونها طواعية: (أين الحصانة الموعودة؟). واضطر متشنيكوف إلى الخروج من محرابه ساعة، والبروز من ضباب نظريته وفجوساته حيناً، ليصرف الناس عن شكواهم، وكانت الفئران عاثت في الحقول فأكلت المحاصيل، فبذر في تلك الحقول بشلة كوليرا الدجاج لتقضي على الفئران. ولكن تقريراً خطيراً كاذباً كُتِب من نار ظهر في الجريدة اليومية يتهم متشنيكوف أنه إنما بذر الموت والوبال في الحقول، لأن كوليرا الدجاج تستطيع أن تتحول إلى كوليرا الإنسان. . .!

فضجر متشنيكوف وشكا في خفوت: (ما شأني بهذا الصخب! أنا رجل باحث وأبحاثي متكاثرة عليّ، وأنا رجل ذو نظرية، ونظريتي في حاجة إلى كثير من الهدوء لتشتد وتنمو. . .) وسأل أهل السلطة إجازة فأعطوه إياها، فحزم حقيبته وذهب إلى مؤتمر فينا ليخبر كل من يجد هناك بأمر فجوساته، وليجد لنفسه ركناً هادئاً يستقر فيه ويعمل بعيداً عن الضوضاء، فلا يكون مضطراً لإثبات صحة نظرياته لسلطات قليلة الصبر تطلب خلق العلاجات، ولا يكون مدفوعا لارواء شهوة الفلاحين وتعويضهم عن كل قرش دفعوه بتعجل الأدوية وابتسار الحصانات. ومن فينا ذهب إلى باريس، وفي باريس انتظره نجاح باهر لم ينتظره، فهناك تعرف إلى بستور العظيم، فما إن تَم التعرف حتى انفجر يحدثه عن فجوسته ونظريته فيها، وَوَصَف له المعارك التي تقع بين الفجوسات والمكروبات وصفا بديعا سِمَّاويّا جذابا، وتأمل شيخ المكروب صاحبنا بعين متعبة طميسة أخذت تبرق للذي تسمع حينا بعد حين، فلما انتهى الحديث، قال بستور: (أنا في صفك يا أستاذ متشنيكوف، ذلك لأنه كثيرا ما استوقفتني معارك كالتي تصف كنت ألحظها بين شتى الأحياء المجهرية الدنيئة، وإني لأحسبك سائرا على هدى في الطريق الذي أنت فيه)

لم يكن بين المعارك التي ذكرها بستور وبين تلك التي يصفها متشنيكوف صلة أصلاً، ومع هذا فقد امتلأ قلب متشنيكوف مما سمع سروراً، وامتلأت نفسه زهواً. وكيف لا، وهذا أبو المكروبات الشيخ الأجل استمع له وفهمه ثم آمن به. . . وكان أبو أُلجا قد مات وترك لهم دخلاً متواضعاً. وتراءى لمتشنيكوف أن باريس مهد طيب لنظرية الفجوسات إذا هي آزرها معهد ذو جاه كمعهد بستور، فسأل بستور: (سيدي، أود لو يكون لي مكان في معهدكم، وأنا بهذا إنما أبغي العمل في معملكم على أية صورة وبغير أجر). وأدرك بستور أنه لابد من استبقاء حماسة الجماهير لصيادة المكروب، وأن رجل الشارع لا يفهم من العلم غير تلك الأحداث المهيجة والدرامات المثيرة، فأجاب متشنيكوف عن سؤاله: (أنا لا أقبلك تعمل في معملي فحسب، بل سيكون لك فيه معمل كامل موقوف عليك). وسافر متشنيكوف إلى أودسا، وفي طريقه التقى بكوخ فجَبَهه كوخ واستغلظ له، وأخذ يفكر ويخاير نفسه بين القبول في المعهد الفرنسي والتخلص من قوم لا يفتأون يصرخون يستعجلون النتائج، وبين البقاء في المعمل الروسي والإبقاء على المرتب الطيب الذي يتقاضاه منه. . . وقرر بعد التردد أن يبقى حيث هو من أودسا وواصل عمله فيها، ولكن حدث بعد قليل حَدثٌ لم يترك لنفسه خياراً. ذلك إن الفلاحين زادت شكواهم من القطعان التي تموت بالجمرة وعلت أصواتهم في طلب الألقحة، فأمر متشنيكوف الدكتور جمالية أن يحقن الشياه بلقاح الجمرة جملة واحدة. وذهب متشنيكوف وزوجته أُلجا إلى بيتهم الريفي الصيفي، وذات يوم جاءتهم فيه الرسالة التلغرافية الآتية من الدكتور جمالية:

قَتَل لقاح الجمرة آلافاً من الشياه

فلم تمض أشهر قليلة حتى كان متشنيكوف استقر في معهد بستور الجديد في باريس، وإلى جانبه أُلجا - تلك الزوجة الطيبة - التي كانت لا تُقصّر في عمل أي شيء لزوجها لأنه عبقري وعطوف عليها - قامت إلى جانبه تمسك له الحيوان وتغسل له الزجاجات، وهي لو تُركت لنفسها لفضّلت تصوير الزيت أو نحاتة الحجر - فَنَّين جميلين أقرب لمتعتها وأملأ لشهوتها. ومن تلك الساعة مشى الزوجان، يداً في يد، في طريق النصر من غلبة إلى غلبة، وقد انتثرت على جانبيه من أخطائهما ورود زادت طريقهما روعة وجمالاً

(يتبع)

أحمد زكي