مجلة الرسالة/العدد 158/أعلام الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 158/أعلام الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936


4 - سَعِيد بنُ المسَيِّب

تتمة

للأستاذ ناجي الطنطاوي

مرضه

قال عبد الرحمن بن حرملة: رأيت سعيد بن المسيب في مرضه يصلي مضطجعاً مستلقياً فيومئ برأسه إلى صدره إيماء، ولا يرفع إلى رأسه شيئاً

وقال أبو حازم: قال سعيد بن المسيب في مرضه الذي مات فيه: إذا ما متّ فلا تضربوا على قبري فسطاطاً، ولا تحملوني على قطيفة حمراء، ولا تتبعوني بنار، ولا تؤذنوا بي أحداً، حسبي من يبلغني ربي ولا يتبعني

وقال عبد الرحمن بن الحارث المخزومي: اشتكى سعيد ابن المسيب فاشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده وهو مضطجع على فراشه، فأغمى عليه، فقال لمحمد ابنه: حول فراشه، فاستقبل به القبلة، ففعل، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة؟ أنافع بن جبير أمركم؟ فقال نافع: نعم، فقال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم فراشي. وفي رواية: ألست امرأ مسلماً، وجهي إلى الله حيثما كنت؟

وقال زرعة بن عبد الرحمن: شهدت سعيد بن المسيب يوم مات يقول: يا زرعة، إني أشهدك على ابني محمد، لا يؤذن بي أحداً، حسبي أربعة يحملوني إلى ربي، ولا تتبعني صائحة تقول فيّ ما ليس فيّ

وقال يحيى بن سعيد: لما حضر سعيد بن المسيب، ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني

وقال: دخلنا على سعيد نعوده، ومعنا نافع بن جبير، فقالت أم ولده إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه، فقال نافع بن جبير: إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها، ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم فلو أكلت شيئاً. قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذا بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة. فقال نافع: أدع الله أن يشفيك، فان الشيطان قد كان يغيظه مكانك من المسجد. قال: بل أخرجني الله تعالى من بينكم سالماً. ودخل المطلب بن حنطب على سعيد في مرضه وهو مضطجع، فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني، فأقعدوه فقال إني أكره أن أحدث حديث رسول الله وأنا مضطجع

وقد اختلفت روايات المؤرخين في سنة وفاته، وتنحصر رواياتهم بين سنة 91 وسنة 105، على أن أكثر الأقوال تؤيد أن وفاته كانت سنة 94

شيء من أقواله وفتاويه

قال: ما من تجارة أحب إليّ من البزّ، ما لم تقع فيه الأيمان

وقيل له: ادع على بني أمية فقال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد

وقال علي بن زيد: قال لي سعيد بن المسيب: قل لقائدك يقوم فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فانطلق فنظر فإذا رجل أسود الوجه، فجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض. فقال: إن هذا سبّ هؤلاء الرهط: طلحة والزبير وعلياً، فنهيته فأبى فدعوت عليه وقلت: إن كنت كذابا فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه!

وأدرك رجلاً من قريش معه مصباح في ليلة مطيرة، فسلم عليه وقال: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال: أحمد الله. فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال: نبعث معك بالمصباح؟ قال: لا حاجة لي بنورك، نور الله أحب إليّ من نورك

وقال: ولا تقولن مصيحف ولا مسيجد، ولكن عظموا ما عظم الله، كل ما عظم الله فهو عظيم حسن

وكان يقول: لا خير فيمن لا يجمع الدنيا يصون بها دينه وحسبه ويصل بها رحمه

وكان يقول: الناس كلهم تحت كنف الله يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه، فبدت للناس عورته

وكان يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة

وكان يقول: من استغنى بالله افتقر إليه الناس

وكان يقول: ليس من شريف ولا دنىّ ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب فضله لنقصه

وقال: يقطع الصلاة الفجور، وتسيرها التقوى

وقال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عزّ وجل، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله

وقال ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء

وقال: يد الله فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله

وقال: دخلت المسجد في ليلة أضحيان، وأظن أني قد أصبحت، فإذا الليل على حاله، فقمت أصلي، فجلست أدعو، فإذا هاتف يهتف من خلفي: يا عبد الله، قل. قلت: ما أقول؟ قال: قل: اللهم إني أسألك بأنك مالك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكن. قال سعيد: فما دعوت بها قط بشيء إلا رأيت نجحه

وقال: إن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها يغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في سبيلها

وكان يستفتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول: إنها أول شيء كتب في المصحف، وأول الكتب، وأول ما كتب به سليمان بن داود إلى المرأة (بلقيس)

وقال حبيب بن هند الأسلمي: قال لي سعيد بن المسيب ونحن على عرفة: إنما الخلفاء ثلاثة: قلت: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعمر (يعني عمر بن عبد العزيز) قلت: هذا أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر؟ قال: إن عشت أدركته، وإن مت كان بعدك

وقيل له وقد نزل الماء في عينه، ألا تقدح عينك؟ قال: عني - على مَن - أفتحها؟

وقال: كنت بين القبر والمنبر، فسمعت قائلا يقول ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً، ورزقاً دارًّا وعيشاً قاراً. قال سعيد فلزمتهن فلم أر إلا خيراً

وسأله عبد الرحمن بن حرملة قال: وجدت رجلا سكران، أفتراه يسعني إلا أرفعه إلى السلطان؟ قال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره

وقال له برد مولاه: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء، قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر. فقال سعيد: ويحك يا برد! أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله.

وقال: قلة العيال أحد اليسارين

وسئل عن قطع الدراهم فقال: هو من الفساد في الأرض

وسئل عن آية من كتاب الله فقال: لا أقول في القرآن شيئاً وكان لا يكاد يفتي فتياً ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني

وقال: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة

وسئل عن اللعب بالبرد فقال: إذا لم يكن قماراً فلا بأس

وغضب سليمان بن عبد الملك على ابن عبيد مولاه، فشكا إلى سعيد بن المسيب فكتب إليه: أما بعد، فان أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عما تقتضيه رعيته، وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسيئين فرضى عنه

(دمشق)

ناجي الطنطاوي

بكالوريوس آداب