مجلة الرسالة/العدد 158/الصراع الحاسم بين الطغيان والديموقراطية

مجلة الرسالة/العدد 158/الصراع الحاسم بين الطغيان والديموقراطية

مجلة الرسالة - العدد 158
الصراع الحاسم بين الطغيان والديموقراطية
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936



بقلم باحث دبلوماسي كبير

جازت الديموقراطية المعاصرة مرحلتين حاسمتين في تاريخها: ففي غداة الهدنة التي اختتمت بها الحرب الكبرى استقبلت الديموقراطية طوراً جديداً من القوة والظفر؛ وكانت الحرب الكبرى من بعض الوجوه صراعا بين الطغيان والديموقراطية؛ ففي معسكر الطغيان تجتمع الأسر القديمة الطاغية - آل هبسبرج وآل هوهنزلرن - والعسكرية البروسية تحركها أطماع مضطرمة في السيادة الواسعة؛ وفي المعسكر الخصيم تجتمع الأمتان العريقتان في الديموقراطية فرنسا وبريطانيا؛ وإذن فقد كانت هزيمة الدول الوسطى في الحرب الكبرى هزيمة للطغيان والملوكية المطلقة؛ وكان ظفر بريطانيا وفرنسا من بعض الوجوه ظفراً للديموقراطية والنظم الشعبية؛ وظهرت نتيجة هذا الظفر واضحة في قيام عدة من الجمهوريات الفتية في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي دول البلطيق الصغرى؛ فهذه مرحلة ظفر للديمقراطية المعاصرة

ونعمت الديمقراطية بظفرها بضعة أعوام، ولكنها انحدرت إلى معترك من الشقاق الخطر، وانقسمت إلى شيع متخاصمة؛ وبدلاً من أن تجتمع في معسكر موحد، أخذت في نضال عنيف مستمر فيما بينها باسم المبادئ والصيغ المختلفة ما بين اشتراكية وديمقراطية متطرفة ومعتدلة، حتى دب الفشل إلى صفوفها؛ وكانت أول نتيجة خطرة لهذا الشقاق قيام الفاشستية في إيطاليا وسحق الديمقراطية فيها؛ ولم تلبث قوى الطغيان أن ظفرت تباعا في بولونيا حيث تقوم حكومات مطلقة تستتر وراء الجمهورية، ثم في ألمانيا حيث قامت النازية أو الهتلرية ونظمت أعظم طغيان عرفه التاريخ الحديث، ثم في النمسا حيث طغت الأحزاب الفاشستية؛ وأما في روسيا، فأن النظام الذي استحدثه البلاشفة للجمهورية الجديدة لم يكن سوى طغيان شنيع يستتر باسم سيادة الطبقات العاملة؛ كذلك لم تلبث الجمهورية التركية الناشئة أن تحولت إلى طغيان عسكري مطلق يستتر تحت نظام جمهوري صوري؛ فهذه مرحلة انحلال للديمقراطية المعاصرة

والآن تبدو في الأفق ظاهرة جديدة؛ ولقد ظفرت الديمقراطية في إسبانيا منذ أعوام قلائل ظفراً مبيناً، فسحقت الملوكية الطاغية القديمة، وأقامت حكم الجمهورية والنظم الدستورية، ولكن هذا النصر كان محلياً، ولم تفد منه الديمقراطية الأوربية قوة جديدة، ولكنا نشهد من جهة أخرى وثبة جديدة للديمقراطية الفرنسية، فقد أسفرت الانتخابات الفرنسية الأخيرة عن فوز عظيم لأحزاب اليسار أنصار الديمقراطية المتطرفة والحريات الدستورية الواسعة، وهي تتربع الآن في دست الحكم؛ وأسفرت الانتخابات البلجيكية في نفس الوقت عن فوز الأحزاب الاشتراكية؛ وفي روسيا السوفيتية يتحول الطغيان البلشفي منذ أعوام إلى نوع من النظام الدستوري العام تنمو في ظله الحريات والحقوق الفردية باطراد؛ ومنذ أشهر قلائل شهدنا تحالف الديمقراطية الفرنسية، والديمقراطية السوفيتية في ميثاق مشترك لمقاومة الخطر الألماني المشترك. فهذه الظروف والأحداث كلها تنم في نظرنا عن أن الديموقراطية الأوروبية تدخل في طور جديد من أطوار نهضتها

ومما يلفت النظر في عوامل هذه الوثبة الجديدة التي يلوح لنا أن الديموقراطية الأوربية تجيش بها، هو أن فوز الأحزاب الاشتراكية الفرنسية في الانتخابات الأخيرة هذا الفوز الشامل يرجع من وجوه كثيرة إلى المسألة الحبشية التي أثارتها الفاشستية الإيطالية واتخذتها ذريعة للتوسع الاستعماري المسلح؛ فقد كان غزو الفاشستية للحبشة وظفرها بالاستيلاء عليها ممزقة بذلك كل العهود والمواثيق التي ارتبطت بها في العهد القريب، متحدية أوربا وعصبة الأمم والعالم كله، مظهراً قوياً من مظاهر ظفر الطغيان المنظم ونفثة خطرة من نفثاته تنذر العالم بأخطر العواقب، وكان موقف حكومة لافال الفرنسية وتقبلها ونفاقها إزاء المسألة الحبشية، وما قامت به من المعاونات السرية لحكومة رومة، أكبر عامل في تتويج الاعتداء الفاشستي بهذا الظفر الذي تزهو به الفاشستية اليوم وتتخذ منه نذيراً لأوربا، فلما ردت السياسة البريطانية على موقف فرنسا في المسألة الحبشية، بموقفها في مسألة الرين وتخليها عن فرنسا، أدرك الرأي العام الفرنسي أن فرنسا تخاطر بفقد صداقة إنكلترا، فلم ير بدا من التحول في الانتخابات الأخيرة إلى ناحية اليسار لتقوم حكومة تعمل بالتفاهم مع الديموقراطية الإنكليزية، وتتعاون معها على درء خطر الطغيان الفاشستي والطغيان الهتلري

ومن الخطأ أن تعتبر هذه الحركات الطاغية الخطرة التي تضطرم بشهوة الاعتداء والتوسع حركات محلية لا تعني سوى الأمم التي تقوم فيها. فالفاشستية مثلاً تزعم لنفسها صفة عامة، وتدعي أنها أمثل النظم الحديثة للدولة وتدعيم القومية، وضمان رفاهة الشعب؛ ويزعم طغاة ألمانيا الجدد (هتلر وشيعته) أنهم رسل المثل الأعلى للدولة الكاملة، والعظمة القومية، ورفعة الجنس، وأن نظرية الحريات الدستورية والحقوق العامة هي نظرية خطرة على كيان الأمم، ويجب أن تكون جميع الحقوق والسلطات متمركزة في الدولة، والدولة في نظرهم هي الحزب النازي، ويزعم بعض دعاتهم أن هذا النظام الغاشم سيعيش قروناً. ولقد كان لهذه الحركات والمزاعم بعض الأثر، فظهرت في إنكلترا حركة فاشستية صغيرة؛ واشتد ساعد الجمعيات الرجعية في فرنسا، وساعدت على ذلك ظروف سيئة ظهرت فيها النظم الجمهورية بمظهر النظم الفاسدة المفككة، وعاونت بعض الفضائح الخطيرة مثل فضيحة ستافسكي وغيرها على الاعتقاد بانحلال هذه النظم ووجوب تعديلها، بل قامت بعض جمعيات تدعو إلى إقامة الدكتاتورية إنقاذاً لفرنسا من هذا الفساد الدستوري الخطر؛ وظهرت في دول أخرى مثل رومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا نزعة إلى الاقتباس من الفاشستية والنازية؛ ومن ثم ففي وسعنا أن نقارن مبادئ الفاشستية والنازية، من بعض الوجوه بمبادئ الثورة الفرنسية التي تعدت حدود فرنسا واجتمعت حكومات أوربا المطلقة على مقاومتها

والآن نرى في أوربا معسكرين عظيمين يتأهب كل منهما لمكافحة الآخر؛ يتألف أحدهما من إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وروسيا؛ ويتألف الثاني من ألمانيا وإيطاليا؛ وينحاز لكل منها بعض الدول الصغيرة؛ فإذا تأملنا في هذا التكوين من الناحية الدستورية ألفينا الديموقراطية ممثلة في الطريق الأول، والنظم الطاغية - الفاشستية والنازية - ممثلة في الطريق الآخر؛ وقد رأينا أن الحرب الكبرى قامت على مثل هذا التقسيم في القوى المتحاربة؛ وأن الدائرة قد دارت على الحكومات المطلقة وعقد النصر للدول الديموقراطية؛ وإذا تأملنا تاريخ أوربا خلال القرن التاسع عشر، لمحنا أثر هذا النضال الدستوري في معظم الحروب والمعارك التي دارت رحاها فيه؛ فقد عقدت المعاهدة المقدسة في سنة 1815 بين قيصر روسيا، وإمبراطور النمسا، وملك بروسيا، أو بعبارة أخرى بين الأسر الثلاث التي تمثل الحكم المطلق وتتذرع بالحق الآلهي، وهم آل رومانوف، وآل هبسبرج، وآل هوهنزلرن، وغرضها الظاهر توثيق عرى الأخوة المسيحية والتحالف بين الدول الثلاث، وغرضها الحقيقي مقاومة الحركات الشعبية والدستورية؛ وقد كانت أوربا طوال هذا القرن كله مسرحاً لكثير من هذه الحركات التي ترمي إلى الحد من طغيان الحكم المطلق ومساوئه، وتنمية الحقوق العامة للفرد سواء في الدولة أو المجتمع

إن مجرى السياسة الدولية الحالية يفصح بذاته عن مظاهر تلك المعركة الكبرى التي يسير هذان المعسكران إلى خوضها؛ فإنكلترا وفرنسا تعملان من ناحية على مؤازرة عصبة الأمم، وإقالتها من عثرتها السحيقة في المسألة الحبشية، ومن ورائهما السوفييت ودول أوربا الصغرى كلها تؤيد هذه الحركة، لأن مبدأ السلامة المشتركة الذي أريد أن يكون دستور عصبة الأمم ضماناً لتحقيقه، قد صار بعد ظفر الفاشستية المعتدية بالاستيلاء على الحبشة - وهي من أعضاء العصبة - عقيماً لا أثر له من الوجهة الدولية؛ والدول الصغرى أضحت تخشى على مصايرها بعد انهيار هذا الضمان المشترك الذي كانت تعتمد عليه. ونرى من جهة أخرى إيطاليا وألمانيا تسخران من عصبة الأمم، ولا تدخران وسعاً في مناوأتها وعرقلة أعمالها لأن توطيد السلامة المشتركة وحريات الأمم وحقوقها إذا تحقق بعمل دولي قوي من جانب الدول الديموقراطية، فانه يقف سداً في وجه أطماعهما في التوسع والاستعمار، ويؤدي إلى ضعف النظم الداخلية التي تغذي هذه النزعة الخطرة على حقوق الأمم وحرياتها

والخلاصة أنه حيثما تأملنا في نواحي السياسة الدولية ألفينا مظاهر المعركة الحاسمة التي يوشك أن تخوضها الديموقراطية. والديموقراطية تلتزم خطة الدفاع لأنها بطبيعتها أقل ميلاً إلى الحرب، ولأن الدول التي تمثلها، هي فريق الدولة الراضية المستأثرة بالسيادة الاستعمارية الواسعة والموارد الغنية؛ ولكنها ستضطر إلى الدفاع عن نفسها إذا هوجمت، وعندئذ تقع معركة الفصل في مصاير أوربا الجغرافية والدستورية، وتقع معركة الفصل في مصاير المدنية، فأما أن تفوز الديموقراطية فتفوز بذلك المدنية المؤسسة على احترام الحقوق والحريات البشرية، وإما أن تفوز مبادئ القوة الهمجية التي تنادي بها الفاشستية والهتلرية، وعندئذ تنهار نظم الحضارة المستنيرة وترجع أوربا إلى نظم العصور الوسطى

ولكن الديموقراطية التي صمدت لهذه القوى الهمجية منذ القرن التاسع عشر تستطيع بلا مراء أن تدافع عن نفسها ومن ورائها الرأي المستنير في العالم كله * * *