مجلة الرسالة/العدد 158/لو!. . . .

مجلة الرسالة/العدد 158/لَوْ!. . . .

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

رأيتُني جالساً في مسرح هزلي بمدينة الإسكندرية كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم ويحمل هو عقله وحُكمه. وقد ذهبت لأرى كيف يتساخفُ أهلُ هذه الصناعة فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفةٌ جداُ. . . .

رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما يُنشئ عيوباً جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمىً ظاهراً عما هي به حقيقة هزلية؛ ولا غاية لهم من هذا التمثيل إلا الرقاعة والإسفاف والخلط والهذيان، إذ كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من تكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلاً يسخر منه

ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، لا تكلفُ الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى

فالفن المضحك عند هؤلاء إنما هو السخفُ الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوبَ عليها التي يبلغ من بلاهتها أحياناً أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطولِ ما تكلفت واعتادت. فما ذلك الفن إلا ما ترى من التخليط في الألفاظ، والتضريب بين المعاني، وإيقاع الغلط في المعقولات؛ ثُم لا ثُم بعد هذا. فلا دقة في التأليف، ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض، ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جدّ يؤخذ من هزلية الحياة، ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها

والفرق بعيد بين ضحكٍ هو صناعة ذهنٍ لتحريك النفس وشحذ الطبع وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث والمجانة لا غير

وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث غير قليل حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي فجلسوا بحذائنا صفاً تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب. وهم يبدون في ثيابهم البيض المطَرَّاة كأنهم ثلاثةُ نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر وتعرف

وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاثُ حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة. . .

وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسرُّ له تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية. . .

ثم تأملتهم طويلاً فإذا صرامة وشهامة وسكينة ووداعة وحُسن سَمْتٍ وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرّة، لا يشبهها في حسّ النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة

وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصريَّ كالمقتنع بأنه محدودٌ بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكاناً في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر ولا تَتَقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليز كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز. . . .

وخيل إلي والله أن رجلاً من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله وتاريخه وروح دولته وطبيعة أرضه، فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقاً أيَّ الرزق كان على ما يتفق، بل رزقاً إنجليزياً: أي فيه كفايته

ورأيت شيئاً عجيباً من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها

وتبيَّنتُ أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمرهُ على أن أُمةً تحمله فهو يعيش بأضعف ما فيه، والآخر في فرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمةً فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها

وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة والتهويل والصراخ واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع وتحميل الألفاظ غير ما تحمل، والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث والصبر الذي يغلب الزمن والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها وميَّزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السَّمحْ الوادع الألوف الحي الذي هو كَرمُ الطبيعة، والآخر في الإنجليزي العسر المغامر النَّفور الملحّ على الدنيا كأنه تطفّل الطبيعة. . . .

وألقى ابن العم الذي كان معي سَمعه إلى هؤلاء الضباط وهم من فلاسفة الرأي على ما يظهر من حديثهم، ثم نقل إلي عنهم، فقال كبيرهم: لقد فرغت من بحثي الذي وضعته في فلسفة خمول الشرقيين أفضيتُ منه إلى حقائق عجيبة أظهرها وأخفاها معاً أن أُمةً من هذه الأمم لا يُمكَّن للأجنبي فيها ولا تثقل وطأتهُ عليهم ولا يطول ثواؤهُ في أرضهم ولا يحتلها من يطمع فيها، ما لم يكن سادتها وأمراؤها وكبراؤها كأنهم فيها دولة محتلة

وهؤلاء الكبراء هم آفة الشرق؛ فمن أعظم واجباتنا أن نزيد في تعظيمهم، وأن نمد لهم في المال والجاه، ونبسط لهم اليمين والشمال، ونوهمهم أن عظمتهم هكذا ولدت فيهم وهكذا ولدوا بها من أمهاتهم كما ولدوا بأيديهم وأرجلهم. . . وخاصة عظماء رجال الأديان المفتونين بالدنيا؛ فإننا نصنع بغرور الجميع وسخافاتهم وحرصهم وطمعهم أشياء اجتماعية ذات خطر لا يصنع لنا مثلها إلا الشياطين. ومن لنا بالحكم على الشياطين؟ وهذا ما تنبه له غاندي ذلك المهزول الهندي الذي تُقوَّم دنياه بأربعة شلنات، ولا يزن أكثر من بضعة أرطال من الجلد والعظم، ولا بطش عنده ولا قوة فيه، وهو مع ذلك جبار سماوي في يده البرق والرعد يُرى ويُسمع في أرجاء الدنيا

قال ضابط اليمين: وبصناعة الكبراء هذه الصناعة يكون رجلُ الشعب من هؤلاء الشرقيين رجل تقليد بالطبيعة، ورجل ذل بالحالة، ورجل خضوع بالجملة؛ فليس في نفسه أنه سيد نفسه ولا سيدُ غيره، بل أكبر معانيه أن غيره سيد عليه فيكون معه دائماً خيال استعباده

وتكلم ضابط اليسار: ولكن المترجم لم يميز أقواله، لأن ثلاث عشر امرأة كنَّ يصرخن في الرواية الهزلية بلحن طويل يقلن في أوله: (عاوزين رجّالة تدلَّعْنا. . . .) وكانت الموسيقى تصرخ معهن وتولول كأنها هي أيضاً امرأة محرومة. . .

ثم أرهف المترجم أذنه فقال كبيرهم: إن لهؤلاء الشرقيين ست حواس: الخمس المعروفة وحاسة الخمول الذي خدعتهم عنه الطبيعة البليدة فسموه الترف والهزل واللهو، والأمة الأوروبية التي تحتل بلاداً شرقية تجد فيها لصغائر الحياة جيشاً أقوى من جيشها. فعشرة آلاف جندي بعتادهم وآلاتهم لا يصنعون شيئاً إلا الاستفزاز والتحدي وإثبات أنهم غاصبون، ولكن ما أنت قائل في عشرة آلاف مكان كهذا المسرح براقصاته ومومساته وخموره ورواياته وبهؤلاء الرجال المخنثين الهزليين الرقعاء الذين هم وحدهم معاهدة سياسية ناجحة بيننا وبين شباب الأمة. . .؟

قال ضابط اليمين: نعم إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول ولكنه فن أخلاقي في الآخر؛ ولهذا يجب تعيين نقطة اتجاه للشباب تكون مضيئة لامعة جذابة مغرية ولكنها في ذات الوقت محرقة أيضاً، وهذه هي صناعة إهلاك الشباب بالضوء الجميل، وما على السياسي الحاذق في الشرق إلا أن يحمي الرذيلة، فإن الرذيلة ستعرف له صنيعه وتحميه. . . فتكلم ضابط اليسار، ولكن صوته ذهب في عشرين صوتاً من رجال المسرح ونسائه يصيحون جميعاً: (يا حِلوة يا خفَّافي يا مجننَّة الشبان. . .)

ولما ألممت بحوار الضباط الثلاثة قلت لصاحبي: أستأذن لي عليهم أكلمهم. ففعل وعرفني إليهم وترجم لهم مقالة (يا شباب العرب) وكان يحملها. فكأنما رماهم منها بالجيش والأسطول.

ثم قلت لكبيرهم: لست أنكر أن الإنجليزي لو دخل جهنم لدخلها إنجليزيا. . ولا أجحد أن له في الحياة مثل هداية الحيوان لأنه رجل عملي دليل منفعته أنها منفعته وحَسْبُ، ثم لا دليل غير هذا ولا يقبل إلا هذا. فإذا قال الشرقي (حقَي) وقال الإنجليزي (منفعتي) بطلت كل الأدلة، ورأى الشرقي أنه مع الإنجليزي كالذي يحاول أن يقنع الذئب بقانون الفضيلة والرحمة

وقد عرفنا أن في السياسة عجائب منها ما يشبه أن يلقي إنسان إنسانا فيقول له: يا سيدي العزيز، بكل احترام أرجو أن تتلقى مني هذه الصفعة. . . . وفي السياسة مواعيد عجيبة: منها ما يشبه غرس شجرة للفقراء والمساكين والتوكيد لهم بالإيمان أنها ستثمر رُغفاناً مخبوزة. . . . ثم بعد ذلك تطعَّم فتثمر الرغفان المخبوزة حشوُها اللحم والاِدام

وفي السياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة. ولكن لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدراً بالوطن في كل معانيه! ولو عرف الشباب أن محاربة اللهو هي أول المعركة السياسية الفاصلة! ولو أدرك الشاب أن أول حق الوطن عليه أن يحمل في نفسه معنى الشعب لا معنى نفسه! ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلةً حربية تصنع من الشباب رجال القوة! ولو علم الشباب أن روح هذا الدين ليست: اعتقدْ ولا تعتقد، ولكن افعلْ ولا تفعل! ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل عملية لامتلاء النفس بمعاني التقديس! ولو فهم الشباب أن ليس في الكون إلا هذه المعاني تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الذل وفوق الموت نفسه! ولو بحث الشباب النفس الإنجليزية القوية ليعرف بالبرهان أنها نصفُ مسلمة فكيف بها لو كانت مسلمة؟. . . .

وكان المترجم ينقل إليهم كلامي فما بلغت إلى حيث بلغت حتى شدَّ الضابط على يدي وهزّها؛ فنظرت فإذا أنا قد كنت نائماً بعد سهرة طويلة في ذلك المسرح، وإذا يد المترجم نفسه هي التي تهزني لأنتبه

طنطا

مصطفى صادق الرافعي